[email protected] أن يصل الأمر إلى هذا المستوى من ابتكارات "الحلول" للمشكلات والحاجات التي يعانيها هذا الوطن "العزيز"، هو أمر غير مقبول، ولا يبرره حجم هذه المشكلات والحاجات، ولا يبرره كذلك الوضع المرتبك الحاصل حاليا في البلد. مؤسسة خليفة بن زايد والهلال الأحمر الإماراتي دشنا، الجمعة الماضية، حملة لجمع التبرعات لليمن، تستمر ل3 أيام. مؤسسة خليفة والهلال الأحمر؟! وحملة لجمع التبرعات؟! ولليمن؟! وتستمر ل3 أيام؟! واسم هذا (الحل) "حملة إغاثة أهل اليمن"... "وكافاكم" الله يا من سعيتم لمثل هذا الحل. لدينا مشكلات وحاجات، مشكلات وحاجات كبيرة، أمر لا شك فيه. ولا بد لهذه المشكلات من حل، ولا بد لهذه الحاجات من قضاء، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان، والحديث عن الكرامة والعزة والموت جوعاً مرفوعي الرؤوس، لا يحل مشكلات بلد بحاله، ولا يقضي حاجات شعب بكامله، وهذا الكلام سنسلم به، ولكن ما سنختلف عليه هو كيف نحل هذه المشكلات. أياً كان الحال لا قبول أن يتم اللجوء إلى توفير التمويل المطلوب لحل مشكلات هذا الوطن "العزيز"، وقضاء حاجات شعبه، بهذه الطريقة. لا نريد معالجات تقوم على "الشحت" و"الطلاّب"، وإعلان الشفقة، واستدرار المشفقين. وهنا لا بد أن يكون للقيم حضور، وإذا لم نستطع أن نستعيد (كامل) كرامتنا التي أهدرها العهد السابق، فالواجب على الأقل هو ألا نهدر (ما تبقى) لنا منها. وشخصياً أشعر بسخط يعصف بمشاعري، وبامتعاض يعصر قلبي عندما يدفع "إماراتي"، وعبر شاشات الفضائيات، عشرات أو مئات الدراهم الإماراتية، مساعدةً "للشعب اليمني"، وليس لأن لي موقفاً من الإمارات، أو لأن "المغيث" إماراتي، ولكن لأنني "يمني". لدينا مشكلات وحاجات، وأول ما يجب عمله تجاهها هو معالجة الأوضاع غير السليمة القائمة حالياً، والتي لم نغير منها شيئاً حتى الآن، ومطلوب ممن أفرزتهم أحداث العام الماضي التي يحلو للبعض تسميتها "ثورة"، أن يعيدوا تشكيل الأجهزة الرقابية والتنفيذية (الرقابة والمحاسبة، مكافحة الفساد، الوزارات والهيئات المختلفة)، بصورة عاجلة وسليمة حازمة وجادة، وتمنح كامل الصلاحيات لمعالجة الاختلالات الحاصلة، والتي تهدر المليارات وتسرق المليارات، ليس لأن "أصدقاء اليمن" يريدون ذلك! ولكن لأن المتوفر الفعلي لهذا البلد يضيع ما يقارب ثلاثة أرباعه فساداً ونهباً وتعطيلاً ومكايدةً. لدينا مشكلات وحاجات، وثاني ما يجب عمله هو التوجه للبناء، والاستفادة من الفرص التي هي حاليا متاحة وموجودة، وهناك هامش كبير يمكن توظيفه، وفي وقت معقول، إن صدقت النوايا، ولا توجد بالنسبة لها مشكلة متعلقة "بالتمويل"، لأن هذا التمويل سيأتي، وسيعرض نفسه اذا وجد الجدية اللازمة من المعنيين هنا في التوجه إلى العمل والبناء. لدينا مشكلات وحاجات، وثالث ما يجب عمله هو اللجوء للغير لتوفير التمويل، ولكن في إطار سيادتنا، وإطار احترامنا لأنفسنا، وإطار الأساليب الموضوعية والطرق المتعارف عليها للحصول على تمويل دون هذا "الشحت" وهذا "الطّلاّب" وهذا "الاستجداء". أي تمويل كان له قواعده وأصوله، وله أساليب وطرق للحصول عليه وتوفيره دون الحاجة لمثل هذا الأسلوب المحرج والمخزي. والأدهى أنه فوق إحراجه وخزيه، لا يفي بالغرض، فما عساهُ يفعل لحل مشكلات وقضاء حاجات هي بحجم شعب. وحتى التمويل "بالمساعدات والإعانات" له قواعده وله أصوله، ووفق أساليبه وطرقه فلسنا أول دولةٍ تتمول بالدعم والمساعدات والإعانات، ولكننا بفضل هذه العقول المبتكرة لحلول "جمع الزلط" بأية حال وبأي أسلوب، أصبحنا أول دولةٍ تتمول بجمع المساعدات بهذا الأسلوب "المخزي"، فلم تجرفنا السيول ولم يدهمنا الجفاف، ولم تنهر دولتنا وتشردنا الحروب. شاهد حال على مضمون هذا المقال هي مشكلة السرطان وحاجة مرضاه -شفاهم الله- للعلاج، والذي كان له مؤتمر الأسبوع الفائت، خرج فيه وزير الصحة و"بالفم المليان"، ليقول إن الدولة غيرُ قادرةٍ على تحمل أكثر من 20% من تكاليف مرضى السرطان في اليمن. هل يقبل عقل ويسمح ضمير أن نذهب للجمع لهم بهذا الأسلوب المخزي من الخليج أو من غير الخليج؟! فما بالكم بمشكلات وحاجات هي دون ذلك. أي منطق يقبل مثل هذا الأمر من دولة تصرف المليارات للمشائخ والنافذين دون وجه حق (سلبطة)؟! أي منطق يقبل مثل هذا الأمر من دولة تُقدّم صرف الملايين في هذه الظروف الصعبة لبناء مسجد، على حاجات هي أكثر إلحاحاً وأكثر فتكاً وإضراراً بالمجتمع؟ أي منطق يقبل هذا من دولة لم تفعل شيئاً لاجتثاث الفساد وإيقاف الاستنزاف والهبر والسرقة حتى الآن؟! لا يقلقني أن لدينا مشكلات وحاجات، أيا كان نوعها وحجمها، بقدر ما يقلقني سوء تصرف البعض، وأساليبه لمواجهة تلك المشكلات والحاجات. لا نريد أن نحرث في البحر. لا نريد أن يصدق فينا المثل "لا حاجة وافى ولا أرضا قطع". لا نريد أن يلحقنا العار الذي لن تغفل عنه عين التاريخ، ونحن في غنى عن ذلك. هناك أساليب وطرق مجدية ومثمرة وذات فاعلية معقولة وأثر ملموس، وهناك أساليب لا تفيد بأكثر مما تضر كأسلوب "حملة جمع التبرعات للشعب اليمني" الذي لن يحل لنا مشكلة، ويقضي لنا حاجة بالجدوى المعقولة، ولن يبقي لنا على "ما هو باقٍ لنا" من كرامة واحترام كمواطنين وكدولة و كبلد وكجمهورية. يا من يبتكرون مثل هذه "الحلول" أو "يقبلون بها"، أقول لكم قالت العرب قديماً: "لا تأكل الحرة بثدييها".