بين متحف سوسة، ومتحف جحانة... في جحانة سنحان، العصميات.. وووو«أشك أن الآدمية مرت من هناك» حدث عالمي أفرح إخوتنا التوانسة والعالم بافتتاح متحف سوسة الذي أُدخل ضمن قائمة التراث العالمي ، ويحوي مئات القطع النادرة من التحف والفسيفساء من العصرين الروماني والاسلامي ، وقد أغلق المتحف قبل خمس سنوات للصيانة والترميم وكلفت عملية ترميمه مبلغ 3ملايين دولار فقط .. وافتتح المتحف ليستقبل آلاف السياح ، ويخططون مستقبلاً لأن يستقبل سياحاً أكثر . بعد الثورة تتواصل صناعة السياحة من متاحف ومهرجانات ثقافية وفنية دولية تستنهض التراث التونسي والتراث الإنساني وفنون الحداثة لرفد التنمية والاقتصاد التونسي المعتمد اعتماداً شبه كلي على السياحة ..
في اليمن (جحانة /سنحان / العصيمات )، أو ما تسمى اليمن الكبرى، فلأكثر من أسبوعين تدار معارك متحفية شرسة خارجة من بطون عصور التوحش ، بين سنحان وخولان ، والقوى المتنفذة يحركهم «داعي» العصبيات القبلية ،المحرك الأول ليمني ال(60) و(70) داعي الاحتراب والحرابة أحد أوجه الموت في اليمن داعي (من قوّى صميله عاش) ، وكل ذلك الشد والجذب الذي حشر اليمن في فوهة بنادق (الأخوة الأعداء) من أجل إدراج قوافل بشرية في قوائم عسكرة الأحياء والأموات للأقيال القديمة –الجديدة ، أقيال وتبابعة الموت والغنيمة .. إنها سياحة القتل المجاني والثارات العبثية لثنائية الشيخ والرعية بامتياز . هذه السياحة التي لا يؤمها سوى القتلة المنفلتين من الأطراف المختلفة وآلالاف من الضحايا، خصوصاً النساء والأطفال ، هذه هي سياحتنا في تاريخ اليمن المعاصر والمحاصر .
قبل سنتين ذهبت إلى خولان – جحانة في الصباح الباكر لألتقط بعض الصور أثناء شروق الشمس .. وياليتها لم تشرق ، لقد كان البؤس والحياة البدائية هي عنوان ذاك الصباح .. طرق ترابية ، وبيوت اللبِْن شبه المهدمة ، أخاديد البالوعات ، وأطفال يمرحون بينها ، مدارس قليلة ، ويفترش بعض الطلبة العراء ليلقموا علوم القرون الوسطى . سألت بعض الأطفال والشباب عن السوق الشعبي في منطقتهم ..قالوا لي : مامعنا إلا سوق سلاح ! ما تشتي ، آلي ، معدل ، آر.بي.جي ، بازوكا ، قناصة ، حتى دبابة ومصفحة كله موجود عندنا ، اشي روسي ، اشي اسرائيلي ، اشي امريكي .. ولا نشتري الصيني .... أطفال شبه عراة ويتحدثون بهيبة مقتدر استثنائي لسرد فسيفساء الأسلحة .. (الحمدلله عرفت بعضها أثناء ثورتنا السلمية خصوصاً المعدل الذي اخترق رؤوس أبنائنا الشباب) .
هذا الفرق بين فسيفساء سوسة ، وفسيفساء جحانة وسنحان ، أي ثنائتي الحياة والموت ، الحياة في الأولى ، والموت في الثانية . في الأول عمدته مؤسسات الدولة المدنية الحديثة المنفتحة على العالم، خصوصاً في حقبة بورقيبة التي أدمجت القبيلة في المجتمع لتنتهي مع الوقت ، ومعها ألغيت ثقافة داعي الحرب والثارات وصنعت ثقافة جديدة مغايرة لمبدأ الراعي والقطيع بدستور المواطنة المتساوية . والثانية عند “جحانتنا ، وعصيماتنا وسنحانا يمنا الكبرى فلعقود من الزمن جرى دك أي عرق يطالب بالدولة وسيادة القانون والمواطنة .. وجرى تغذية ثقافة العنف والاختطاف والفيد وتأصلت بقوة التقاليد العصبية القبلية : الداعي ، والأثوار وقرون الرصاص ، والقات والزامل ، وديوان الشيخ والفقيه والجنرال ..إلخ فهم الدولة ، والدولة هم .
فلماذا فسيفساء الموت هي السياحة الرائجة في بلادنا فكراً وسلوكاً يومياً ؟ لماذا سوق السلاح الوحيد المزدهر في اليمن ؟ لماذا تزدهر القنوات الإعلامية المتناسلة من رحم الداعي العصابي ؟. ما الذي يجعل النظام السياسي بشيوخه ووزرائه وحاشية السلطان يتباهون بمنجزات اقتناء متاحف البنادق والجنابي والأسلحة ، كأنها منجزات وطنية تنموية، فتراها ترص على جدران قصورهم الباذخة وقبلها مرصوصة في عقولهم المقفلة بقرون الرصاص.
في بلدي (جحانة الكبرى) يحدث قبل الثورة وبعدها أن تغلق المتاحف ، ومراكز الفنون ، والسينما ، والمسرح ، ويحارب الابداع بصميل العيب والحرام ، جرى تسمين ثقافة “الداعي” لتجريم كل روح تحلق في فضاء الحياة المدنية ، ولتمجيد كل ما ينمي التسلح الذهني وتغذية قنوات العنف ، والاحتفاء بفكر : اليمن شعب الله المقاتل والمقِتال ، واليمن مقبرة الغزاة ، وبلد المليون صميل ، و60 مليون قطعة سلاح ، وعلموا أولادكم الرماية وركوب الخيل وتستثنى السباحة .
سوسة تعيش هذه الأيام أعيادها الفنية( 12-18 يوليو): مهرجانات للموسيقى من أغانٍ ، وعروض للأوبرا ، والرقص الحر ..إلخ ، وفي جحانتنا عشنا أيام رعب جراء اختطاف العوبلي ، معزوفات من الرقص الحر للرعب والموت والفجيعة .. كلنا نضع أيدينا على قلوبنا ونتوجس مرعوبين :( الآن بتقرح ، الآن بتنتعث) بل ونكتب الوصية ونرتل أدعية السلامة . في سوسة تحضر طوابير من البشرمبتهجة للمشاركة في افتتاح المتحف الدولي والموسيقى وفي “سوستنا /جحانتنا وسنحاننا ) طوابير الوية الموت لداعي القبيلة المجنزرة بكل العتاد الحربي القتالي الذي يكفي لإبادة قارة بحالها.
متحف سوسة متحف لداعي الحياة ، والبهجة وحضور الإنسان في أبهى حلة ، فيحضر العالم في سوسة ، وسوسة تحضر في ذهن العالم . ومتحف الجحننة والسنحنة والعصمنة لاتعيش إلا على داعي الحرب والغنيمة والموت .. لا عالم لنا سوى دواوين السلاح والقات والأجساد المرصوصة ، فتحل وتربط وتعقد لقتلنا في سلمهم وحروبهم .. في ثلاثية الرعب (الجحاننة ، والسناحنة ، والعصامنة ) أين الإنسان ، وأين وطن اسمه اليمن ؟!.
للعلم : سوسة ، كانت تسمى في الزمن القديم ، حضرموت . فكيف تشوفووووووووووووا؟