إنهم جيل عميق القيم، وبيقظة وطنية نبيلة، متجاوزين بهمومهم العالية انغلاق السياسيين على وعيهم المحدود والرث، حتى إنهم إلى الآن يظهرون براعة تخجلنا جميعاً في التعامل مع الوطنية على نحو مثالي. إنهم العرب الجدد: تلك القوة الثالثة والكتلة الإضافية والزخم غير المنمط، حيث الحيوية والحركة والفعل والشغف الفكري والحلمي والمغايرة عن السائد في الواقع العقيم حد البلادة. وفي اليمن: كان شباب وطلاب حركة 15 يناير على رأس أهم الحاملين لروح هذا التوجه الذي أبرزه الربيع العربي في كل بلدان الثورات، بينما جاءوا من خارج أطر السياسة التقليدية، مدشنين الاحتجاج النوعي لإزاحة معضلة النظام المتجذر. والحاصل أن الشباب يعني المغامرة، المغامرة الفذة جداً، وهم وحدهم يمثلون جذوة البدايات النقية للثورات الجديدة كما نعرف.. هم وحدهم كشباب حر يمثلون المعرفة المرحة والخلاقة والأكثر حساسية حسب المفهوم النيتشوي، إضافة إلى أنهم أكثر انفتاحاً على الآخر، وروحهم حية ومنفتحة وسليمة وزاخرة بالتجاوز الأيديولوجي؛ لأن أدوات العصر ومعارفه تجعلهم كمصابيح متوهجة في زمن قياسي، رافضين خيار الأمر القدري الجاهز الذي جعل السياسين العرب بلا مخيلة للأسف. بالتأكيد: تميزت على المستوى اليمني حركة 15 يناير للثورة الطلابية والشبابية السلمية عبر الجموح الوطني لمؤسسيها وأعضائها الذين كانوا أخذوا على عاتقهم أن يكونوا بؤرة الثورة اليمنية؛ إذ نزلوا إلى الشارع قبل أي قوة أخرى، بعد تأثرهم بشباب تونس وثورتها العظيمة ضد الاستبداد، مؤمنين في الوقت ذاته بنضوج الظروف المناسبة لثورة يمنية من أجل الكرامة والحرية والعدالة والوعي الوطني التقدمي. ولقد لبى نداءهم فوراً - وبيان القطاع الطلابي للحزب الاشتراكي الذي كان له السبق حزبياً في النزول إلى الشارع يوم 16 يناير - أهم قادة منظمات المجتمع المدني الفاعلين، إلى أن صارت صنعاء بسبب هؤلاء جميعاً خلال الأسبوعين الأخيرين من يناير 2011 كما أتذكر: شعلة إرادة جبارة تتوقد بالصرختين المقدستين «ارحل» و«الشعب يريد إسقاط النظام»، لذلك فإنهم النمط المدهش في استجلاب الحرية حتماً. وإذ نحيي في هذا السياق شباب حركة 3 فبراير الذين كانوا أول من اعتصموا في ساحة صنعاء، فإن تحيتنا الكبرى واللامحدودة لمن وسعوا جوهر الثورة اليمنية يوم 11 فبراير من مدينة تعز ذات الثقل النوعي وطنياً حتى صارت الثورة الشبابية ثورة شعبية بكل المقاييس في عموم اليمن. وللإنصاف فإن هؤلاء بلا استثناء: خرجوا ضد خداع الشعب أو الاحتيال على حقه في المواطنة والمساواة، في حين كانت ولازالت تقهرهم كل حماقات التزوير والتزييف والتفقير والفساد وقمع الحريات، ومعهم كل الحق طبعاً؛ إذ لا يمكن استمرار استساغة التعامل مع الشعوب على أنها قطعان غبية وحقيرة من الماشية، كما كانوا يأملون بمستقبل أجمل لبلدهم، مصابين بالأرق الوطني، لا بالخسة السياسية المتعارفة، بحيث أرادوا تغيير وجه الزمن فعلاً وقولاً، كما أن نيتهم إرادة الاعتبار للثورات الوطنية الأولى التي تزيفت، مطالبين بإعادة بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية حقيقية، ولائقين تماماً بشجن الضوء وهمومه في آن واحد. *** بالمحصلة أقول: يبقى على حركة 15 يناير أن تستمر متماسكة وعصية على الاختراق التفريخي، معولاً عليها في التطور إلى منظمة مدنية مؤثرة نابعة من قلب الثورة؛ فهي تميزت بتقليد متفوق عن باقي الكيانات، عبر تمسكها باستقلالها، رغم كل التجاذبات والتجييرات المقرفة، كما تجنبت ماوصلت إليه عديد حركات ثورية من شقاق وضمور وذواء عبر إعلائها مبدأ الإيثار الوطني لا الحزبي، إضافة إلى ترسيخ مودة المشاعر الرفاقية الحاصلة بين أعضائها مهما بلغ بينهم حد الخلاف الفكري أو مستوى التباينات السياسية والثورية. وحد يقيني طبعاً: فإن المستقبل اللائق للوطن الذي حلمنا به جميعاً سيبقى هو الهم العظيم لحركة 15 يناير أولاً وأخيراً.