كان يمكن لقريش، تجنب معركة بدر، لو أن "قناة ضمضم"، يومها، بثت الخبر بطريقة موضوعية، بدلا من جدع أنف ناقتها، وشق ثيابها وصراخها: (يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة.. الغوث الغوث..)، وهكذا استنفرت حمية الجاهلية واستثارت مشاعر الكراهية والانتقام، فاندفعت قريش باستماتة بدون تفكير، خاصة بعد زوال الخطر، ونجاة القافلة التي خرجت قريش لحمايتها..! حسنٌ، لم يكن "ضمضم الغفاري" يعرف آنذاك غير تلك الطريقة الهمجية في نقل الخبر، لم تكن التقنيات والإمكانات والتراكمات الاحترافية للإعلام الحديث متاحة بعدُ، ومع ذلك، ألا يمكن ملاحظة أن مراسل قناة الجزيرة "مثلا"، وهو ينقل "مثلا" خبر محرقة تعز، أو أحداث رابعة في القاهرة، أو يوميات الحطام السوري.. يعمل بالطريقة الضمضمية ذاتها، فضلا عن كونه ربما اختلق الحدث، كمعادل حديث مطور لضمضم الجاهلي، لكنه لا يقبل على بعير، بل عبر شاشةٍ زرقاء..! الفضائيات والإذاعات ووكالات الأنباء والصحف والمواقع الإلكترونية.. المتناثرة على قسمات المشهد الإعلامي العربي الحديث، "العربية، سهيل، الميادين، مأرب برس، اليمن اليوم،.." ليست متناقضة كما يبدو، لكنها فقط تعمل لجهات متناقضة، ووفق أجندات متناقضة، تبرز تصدعات المشهد السياسي العربي، على المستويات المحلية والإقليمية..؟! تعدد وسائل الإعلام هذه وتعدد توجهاتها، لا يعني تعددا نوعيا، طالما هي، وبدرجات متفاوتة، تعمل بالطريقة التثويرية الانفعالية نفسها، طريقة الانفعال واستثارة المشاعر، وتغييب العقل، واستلاب الرأي، واستنفار الحمية وتجييش المجتمع واستقطاب شرائحه إلى خنادق التحيزات.. الإعلام العربي نافخ كير ومسعر حرب، إنه مغرم بصور الشظايا والأشلاء والدمار والخنادق والمقاتلين، ومتخم بأصوات الصراخ والعويل والانفجارات والأنين.. وطافح بمفردات الحرب والقصف والاغتيال والاستنفار.. وملتزم بالتحيزات والتحريض على العنف والسعار والكراهية والإطاحة بالآخر.. ولا ترد فيه مفردة السلام والأمن إلا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وشعب إسرائيل..! لست ضد السلام العادل مع إسرائيل، ولكن الإعلام العربي، المنهمك بتعميق التصدعات وتأجيج الصراعات وتفتيت البنى المفتتة، لا يأبه أننا أولى بالسلام والأمن والاستقرار والحب والتطبيع .. فيما بيننا، من أي شعب آخر، أليس من المفترض أن نبحث عن صيغة محترمة للتعايش العربي العربي، قبل صيغة للتعايش العربي الإسرائيلي، وأن نتصالح مع أنفسنا لنتصالح مع العالم..!؟