إنقضى شهر يوليو ولم أدل فيه بشهادة معلقة في ذمتي. وها أنا أفعل الآن ذلك. ففي شهر يوليو من العام 1952م أعلنت فيه الثورة على النظام الملكي وقيام النظام الجمهوري في مصر. وهي الثورة التي غيرت وجه المنطقة، ورنت إليها قلوب وعقول العرب من المحيط إلى الخليج بتوجهاتها القومية التقدمية، وتبنيها لقضايا الشعوب الرئيسية، ليس في البلاد العربية وحدها، بل وفي آسيا وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية. وهي ثورة لم تقم على أساس أيديولوجي مقفل بل استفادت من تجارب من سبقها من الشعوب، واتخذت من أسلوب التجربة والخطأ منهجا لحركتها بحيث تستطيع أن تمضي قدما فيما ثبت صوابه وتتجنب التمادي في التجارب التي ثبت خطؤها. ولا يمضي شهر يوليو من كل عام دون أن يقيم الانفتاحيون حفل هجاء لتجربة الثورة المصرية ولزعيمها جمال عبد الناصر على وجه الخصوص. ولقد قرأنا الكثير من الكتب والمقالات، وشاهدنا الكثير من الأفلام والمسلسلات المشاركة في هذا المهرجان السنوي الذي يركز على الإجراءات الأمنية القاسية التي قرأنا عنها ورأينا مشاهد منها في الأفلام تتجاوز كل معيار إنساني. لكن ليس من العدل أن نأخذها على علاتها، لأن أناسا تعرضوا لنفس ما تعرض له زملاؤهم في نفس المرحلة، وكتبوا عنه لكنهم لم يبالغوا كالآخرين. كما أنهم لم يغمطوا ما حققته الثورة للسواد الأعظم من الشعب المصري. ومن يقرأ تلك الكتابات ويشاهد تلك الأفلام والمسلسلات المتحيزة ضد الثورة من الشباب الذي لم يجايل تلك المرحلة التاريخية، ولم تتح له فرصة التعرف على الجوانب الإيجابية لتلك الثورة، لاشك أنه سيقتنع أنها كانت شرا مستطيرا، وهو المقصود من تلك المهرجانات الهجائية السنوية المتواترة. فالشباب لا يعرف أن الثورة فعلت الكثير للشعب المصري الذي قامت من أجله وتحدثت باسمه. ولقد كان بناء السد العالي في صدارة اهتمام رجال الثورة ف "مصر هبة النيل" كما هو معروف تاريخيا. فالسد العالي هو الذي حمى مصر من مخاطر الفيضانات في مواسم الأمطار الغزيرة، وهو الذي وفر لها احتياجاتها من المياه لري الأراضي الزراعية والاستخدام اليومي في سنوات الجفاف، وبفضله تم إمداد الريف المصري بالطاقة الكهربائية. ولقد تبنت الثورة المصرية التعليم والتطبيب المجاني، وإنشاء المساكن الشعبية لمحدودي الدخل. وتحديد إيجارات المباني والعقارات. وأسست الصناعات الثقيلة وكثيرا من الصناعات الخفيفة. وتم في عهدها تأسيس القطاع العام التجاري والمجمعات والجمعيات التعاونية، ونشرت الثقافة على أوسع نطاق بأسعار شبه مجانية. كل هذا وهي تقف مع القضايا العادلة لأشقائها العرب في الجزائر والعراق ولبنان واليمن ودول أفريقية كثيرة وتتحمل أعباءها المادية. ومن هنا اكتسبت الزعامة العربية بلا منازع. وأصبحت واحدة من طلائع العالم الثالث البارزة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ومات جمال عبد الناصر ورصيده من المال ستمائة وعشرة جنيهات مصرية فقط لا غير، بحسب زميلنا الصحفي البارز والشاعر المرهف حسن عبد الوارث. وفي موضوعه المنشور في تيارات الثلاثا الماضي 27 يوليو، أثار موضوعا جديرا بالاهتمام، وقد سبقته إليه وهو أن كل من حكم في بلادنا العربية سواء باسم القومية أم اليسار أو الليبرالية قد مارس من الظلم على معارضيه ما تقشعر له الأبدان، ولم يبق إلا الذبح على الطريقة الإسلامية. وكنت اقترحت ذلك على إخواننا في الجزائر حين منع العسكر الليبراليون وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم عن طريق صندوق الانتخابات بحجة أن الإسلاميين اتخذوا من صناديق الاقتراع وسيلة لإلغاء الديمقراطية بمجرد وصولهم إلى الحكم. واعتبرت ذلك ديكتاتورية عاجلة للحيلولة دون ديكتاتورية آجلة. أو ما يمكن أن نسميه بالمصطلح الأميركي الراهن "الدكتاتورية الاستباقية"! على أية حال، فإن معيار تقييم أي نظام حكم لا بد أن يكون شاملا لسلبياته وإيجابياته. فإن تكن إيجابياته قد فاقت سلبياته فهو نظام مقبول. وهكذا هو الحساب الإلهي في الآخرة. كذلك فإنه لا توجد في الحياة فوائد صرفة أو متع صرفة. فكل فائدة لابد أن تصاحبها خسارة ما، وكل لذة لابد أن يتبعها ألم ما، كما هو الحال مع المدخنين "والمخزنين" والموالعة الآخرين الذين يدفعون ثمن اللذة آلاما وأمراضا في النفس والجسد. وهو ما يسميه علماء النفس "الجزاء الفيزيقي". على أننا أصبحنا اليوم في زمن تمارس فيه بعض الأنظمة ديكتاتوريتها دون أية تنمية اقتصادية واجتماعية فعلية لصالح جموع الشعب. أما بعضها الآخر فقد حققت إنجازا مهما للنخب السياسية والثقافية وهو حق الثرثرة بأجر معلوم تدفعه هي أو غيرها وفقا لوجهة الثرثرة. أما الأكل والشرب والتعليم والعلاج والسكن فعلى كل مواطن أن يعتمد على نفسه لأن الدولة ليست أمه ولا أبوه، ولأن الاعتماد على النفس فضيلة! يمكننا أن نستخلص مما تقدم أن تلازم الدكتاتورية مع أي نظام يقوم في أوطاننا بغض النظر عن قناعاته النظرية ولونه السياسي يعني تحديدا أن لدينا خللا رئيسيا في بنية المجتمعات العربية. وأنه يحتاج إلى بحوث ودراسات معمقة.