عين على الحل السياسي وأخرى على الحسم الثوري، لم يعد هذا العنوان التقليدي يكفي لوصف حال المحتجين في ساحات الثورة الشعبية فكلا الخيارين تاها فيما يبدو. فلقد فات موسم الحسم الثوري للإطاحة بنظام الرئيس علي عبدالله صالح تقريباً وذهبت فرصه الذهبية التي فرطت بها قوى الثورة ولم تهتبل أياً منها في انتظار دروب معبدة بالمرمر توصلها إلى عرين الحكم. يوم الأحد الماضي، قضى جمال بن عمر مبعوث سكرتير الأممالمتحدة إلى اليمن نهاراً مزدحماً بالاجتماعات مع أطراف القضية اليمنية في السلطة والمعارضة السياسية وممثلين لقوى ثورية للتباحث بشأن الحل السياسي الذي يطل هذه المرة من اتفاق جديد ترعاه الأممالمتحدة ويمنح معسكر الحكم أفضلية مريحة. غير أن تصريحات المبعوث الأممي في خاتمة مباحثاته مساء الاثنين قبل مغادرته صنعاء تنبئ عن استمرار جمود العملية السياسية بشأن القضية الأساسية بالرغم من تصريحات رئيس الجمهورية بالإنابة عبدربه منصور هادي عن إمكانية التوصل لاتفاقات شاملة خلال أسبوع وزيارة وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال أبوبكر القربي إلى المملكة المتحدة. يركز الاتفاق الذي كان تحدث عنه هادي في الأسبوع الأول من يوليو على وضع الدولة اليمنية ومنعها من الانهيار أكثر من اهتمامه بالمسائل السياسية الشائكة حتى أنه لا يفصل في قضية رأس السلطة السياسية التي نشأ عن الاختلاف بشأنها هذا الوضع المتردي بل يترك للرئيس علي عبدالله صالح حق الاحتفاظ بها. أبقت قوى الثورة على الدولة في يد النظام بما يشتمل عليه ذلك من مؤسسات تنفيذية وتشريعية وتعبوية توجيهية ترتبط يومياً بالمواطنين. فلا هي أسقطت الدولة من يد النظام ولا أسقطت النظام لتتمكن من إدارة الدولة وتهيئ للمرحلة السياسية المقبلة التي كان يمكن لها من خلال تلك العملية تمدين رجال النظام وكبار مؤيديه لينخرطوا بعدها في المنافسة السياسية في ظل موازين عادلة يخضع لها الجميع. في مصر لم يرضخ الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك لمطالب المحتجين بالتنحي عن الحكم إلا بعد أن كان رئيس حكومته المعين خلال الانتفاضة الشعبية أحمد شفيق قد نقل مقر نشاطه إلى وزارة الطيران المدني التي كان يشغلها سابقاً بعد أن حاصر المنتفضون مقر الحكومة فمقر الإذاعة والتلفزيون والبرلمان قبل أن يصل نحو ثلاثة آلاف من طلائعهم لمحاصرة القصر الجمهوري. وقبلها في تونس، لم يتمكن المحتجون من الإطاحة بالدكتاتور القوي زين العابدين بن علي إلا بعد أن اقتحموا وزارة الداخلية التي كانت إحدى أيقونات حقبة بن علي بما مثلته من معقل حصين أحيط بالرهبة وانطلقت منه عمليات قمع المعارضين وإدارة البلاد بالقبضة الأمنية الخالصة. أحد الردود الجاهزة على ذلك أن الوضع في اليمن يختلف عما في مصر وتونس ويمكن أن تتضاعف الكلفة البشرية جراء اقتباس ما حدث هناك إلى حد باهض وهو تقييم صحيح لكن المشكلة التي ولدت مع اندلاع الانتفاضة الشعبية ونمت معها شهوراً أن لا أحد بحث عن سيناريوهات ممكنة لإسقاط النظام ورجح أفضلها للعمل عليها. حتى بعيداً عن السيناريوهات العملية التي كان جديراً بقوى الانتفاضة تدارسها وترجيح أفضلها لخدمتها، لم يفكر أحد في الطريقة المجردة التي يتصور رؤية النظام يسقط من خلالها بما في ذلك القرار الأخير الذي يتخذه الحاكم لكن لتخليص نفسه من الحكم لا للدفاع عنه. كيف يمكن إسقاط نظام الرئيس علي عبدالله صالح وما الذي سيحمل الأخير على مفارقة السلطة.. كان من شأن الإجابة على هذا السؤال تقديم منهج تنفيذي تنتظم على ضوئه خطى الانتفاضة العملية وفق توقيتات وأمكنة محددة بدلاً من تشتيت التضحيات والطاقات في مظاهر احتجاجية غير مخطط لها ولم تُحدد أهداف من ورائها باستثناء مواصلة العرض البشري الثائر. انتفض الناس في البداية وأقبلوا بشغف متناه على ساحات الاعتصام في سائر المدن فأسمع الناقدون والمحللون هؤلاء المحتجين مدحاً وافراً وإعجاباً لا حدود له بالمجتمع الجديد الذي يتشكل في الساحات وبروفة الدولة المدنية، غير أن النقد اقتصر على المظاهر الإيجابية التي تزخر بها الساحات ولم يتجاوزها إلى تصورات المحتجين وقدراتهم بشأن ما ينبغي فعله لتغيير النظام الحاكم. ربما أن ذلك النقد الكاشف للشق الإيجابي من الانتفاضة اليمنية أفسد تقديرات أصحابها وأنتج لهم تقييمات خادعة بأن كل شيء يسير على نحو مثالي. واحد من بين هؤلاء النقاد تحدث عما يجب فعله متجرداً عن التعاطف الوجداني الذي يبتعد عن إظهار النواحي السلبية. قال الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل خلال أحد أحاديثه عن الثورة العربية في تلفزيون الجزيرة إن على شبان الثورة اليمنية ألا يظلوا كجماهير مشجعة تواصل تقديم مزيد من الشهداء دون تحقيق تقدم. وإضافة إلى ذلك، تعطلت مهمة الساحات التي كان معولاً عليها إتمام العملية الثورية فضلاً عن قيادتها ميدانياً وحل محل هذه المهمة التعلق بالساحات في جانبها المكاني المادي من مساحة أرض وخيام ومنابر توجيه إلى حد الاعتراك والتشاجر من أجل السيطرة عليها. كان ذلك نتيجة طبيعية أفرزتها نوعية الجمهور المحتج الذي يملأ الساحات إذ أن أعداداً كبيرة من المحتجين تؤدي مهمة تمثيل قوى مختلفة مع افتتانها بالثورة وحبها لها بالطبع لكن ليس لها خياراتها المستقلة ولا تستطيع التفكير بمعزل عن القوى التي تمثلها. وتأتي ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء في طليعة الساحات التي اشتد فيها تنافس مكونات الثورة على الحضور والإفادة من التواصل مع جمهور غفير ينتظم لأشهر في الحضور والاستماع. شمل التنافس أحزاباً سياسية وجماعات دينية واتحادات قبلية، كلها دفعت بأنصارها إلى الساحات لتكثير السواد وتأكيد الحضور الأمر الذي أثر في نوعية أداء الثورة هناك فأفقدها ميزة إلهام الساحات الأخرى وسلب منها خاصية المركزية المكانية التي تتفرد بخطوة إسقاط النظام بالضرورة في حال سيطرت على مواقع سلطاته. بمقارنة بين ساحة التغيير بالعاصمة حيث تطغى أعداد مندوبي التمثيل وساحة الحرية في تعز على سبيل المثال حيث يثور الناس بقناعات اختيارية صرفة ويملكون قرارات أكثر استقلالية، يتبين تفوق الثانية في التأثير على الوعي الشعبي وإضرام جذوة الثورة بمظاهرات يومية بالرغم من الفارق الهائل بين الإمكانات المادية والتنظيمية التي تتمتع بها أمام ساحة التغيير. ومع ذلك الفارق، لن يكون بمقدور زائر للعاصمة صنعاء ملاحظة أن المدينة تشهد ثورة شعبية ضد نظام الحكم ما لم يزر ساحة التغيير ويستمع للأناشيد الثورية وهتافات المحتشدين، فمن أقرب شارع مجاور للساحة حتى أطراف المدينة ترتص صور الرئيس علي عبدالله صالح على الجدران والحبال التي تعلو الشوارع ومداخل الأحياء فيما يقيم أنصار الرجل الحفلات الليلية ويطلقون النار في الهواء ويرقصون فرحاً. يصدر هذان الفعلان المختلفان عن ثائرين اثنين مختلفين هما من يرسمان طابع الثورة: الأول يسأل نفسه ماذا يريد وكيف يصل إلى مراده والثاني يسأل نفسه ماذا يراد منه أن يؤدي من دور وما حدود هذا الدور. أن تستغرق الحشود في العملية الثورية دون أن تعرف ما ينبغي فعله للتقدم في هذه العملية باتجاه إنجازها هي حالة تكاد تتطابق مع ما يحدث حالياً للثورة الشعبية السلمية بعد أن تداخلت حدود الثورة كثيراً مع ما يدور على هامشها من صراع عسكري وقبلي محموم اقترن بها. قد يكون من حسن حظ الثورة الشعبية أن انفجار الصراع العسكري القبلي بين عائلة علي عبدالله صالح من جهة وعائلة الأحمر والقائد العسكري علي محسن صالح من جهة أخرى اتخذ منها مقصداً لاستجلاب الرصيد الأخلاقي والشعبي مثلما قد يكون بنفس القدر من سوء حظها أن وقع ذلك مرتبطاً بها. يفترض المتفائلون بانحياز الجيش المنشق عن صالح للثورة أن الحسم العسكري صار السبيل الوحيد بعد تجمد الحل السياسي وتيه الحسم الثوري الشعبي الذي لم يكن قد اتخذ صيغة محددة. ومن متطلبات الحسم العسكري، المواجهات التي صارت تتخذ حرب استنزاف بين وحدات الجيش المنشق وقوات الحرس الجمهوري الموالية لصالح. لكن هذا الخيار يبدو متعذراً وسيفضي إلى حرب أهلية طويلة في حال تحقق في عمليات عسكرية منزوعة الصلة عن الالتفاف الشعبي، إذ قبل التساؤل عن طريقة تنجز الخيار هذا ينبغي التساؤل أكثر عن ردة الفعل التي سيبديها أنصار الطرف الحاكم مهما قل عددهم فضلاً عن ترسانة الأسلحة وقطع السلاح التي وزعها النظام على أتباعه إضافة إلى تجارب البيئة اليمنية التاريخية في إذكاء العنف الأهلي. حتى الحسم الثوري فهو يحتاج إلى اكتساب قوة إقناع هائلة للرأي العام الداخلي والخارجي وفرصة خاطف ليفرض حجته الثورية ثم يُشرع في السياسة. من شأن أي عملية سياسية عادلة ونزيهة تعقب الانتفاضات الشعبية التي تطرد طرفاً ما من الحكم أن تقنع أنصاره وحتى المنتفعين منه بالمرحلة الجديدة والمنافسة فيها عبر العمل السياسي حين يلمسون أنها قامت لغايات كبيرة على مستوى الأمة وقطعت صلاتها بغريزة الغلبة.