الجميع عالقون في صنعاء.. لقد علقنا هناك، بدءاً من المدنيين المحاصرين وسط أحياء تحولت إلى مسرح لقتال عنيف بين قسمي الجيش حتى الانتفاضة الشعبية التي تفعل كل شيء في أطراف البلاد لكنها تصطدم في صنعاء بكتل النار ومعقل حكم محصن بالسلاح والمال وبيئة شديدة العداء للأفكار الجديدة. يبدو التعويل على حسم نهاية النظام من صنعاء مثل التعويل على وريث كبير متصلب يرفض الموافقة على تقسيم ميراث أبيه. تاريخياً، لم يُنجز في صنعاء أمر حاسم كما أُنجزت المؤامرات السياسية والأيدلوجية منذ مطلع القرن السادس الميلادي حين اتخذها ذو نواس آخر ملوك الدولة الحميرية عاصمة لحكمه ودبر المؤامرة التاريخية على مسيحيي نجران فأحرقهم بالنار في حادثة أرخ لها القرآن فيما بعد. حتى مع أن صنعاء عاصمة لدول مختلفة عبر حقب تاريخية مختلفة إلا أن الثورات تفد إليها لا تنبعث منها وتكون هي آخر بقاع الدولة دخولاً في العهود الجديدة. وفي التاريخ السياسي الحديث الواقع على الأقل في القرن العشرين، كل الحركات التحررية خُطط لها خارج صنعاء ثم امتدت إليها منذ حركة 48 الدستورية وثورة سبتمبر التي كان مقرراً أن تنفجر في تعز عاصمة الإمام أحمد لولا وفاته وتسلم نجله محمد البدر للحكم واتخاذ صنعاء عاصمة له. أما المؤامرات فكلها دبرت في هذه البقعة التي لا تتصالح مع أي تحول يتقاطع مع تركيبتها وانطلقت منها بدءاً من مؤامرة 5 نوفمبر 1967 فمؤامرة أغسطس 1968 ثم مؤامرة اغتيال الرئيس إبراهيم محمد الحمدي وصولاً إلى مؤامرة الحرب على الجنوب والحزب الاشتراكي اليمني عام 1994. مازال أنصار الانتفاضة الراهنة من السياسيين والمنظرين متمسكين بالنظرية التقليدية التي ترى أن سقوط عاصمة الحكم هو مفتاح انتصار أي حركة ويسقطون ذلك على الانتفاضة ضد حكم الرئيس علي عبدالله صالح في قياس فاسد لا يصمد أمام الحقائق الميدانية وطبيعة الجغرافيا اليمنية فضلاً عن التغيرات العصرية الخيالية التي نال السياسة الدولية نصيب منها. ومن المفارقة أن نظام صالح يستبق الجميع إلى ضرب حصار على العاصمة صنعاء في الوقت الذي يواصل المنتفضون عليه الشكوى وهم من كان بإمكانهم محاصرته في هذه الهضبة القاحلة التي تتربع صنعاء على قمتها بلا سهل ولا شاطئ أو مرفأ. حتى وفقاً لأبسط البديهيات فإن ما يصعب اقتحام عمقه يؤتى من الأطراف أولاً. كل أطراف البلاد انتفضت على نظام صالح من المهرة حتى صعدة وما بينهما من المحافظات ذوات الأهمية الحقيقية كمحافظات الثروة النفطية ومحافظات الموانئ البحرية الدولية ومحافظات الثقل البشري والإنتاجي التي يملأ سكانها الساحات بمئات الألوف. وصار على نظام صالح لكي يقمع مظاهرة في تعز أن يستقدم مسلحين مأجورين من أقاصي ريفه الذي مازال يواليه أو أي قبيلة مؤازرة له ويرسل كتيبة من الأمن المركزي في صنعاء لضرب المتظاهرين في الحديدة. يخطئ دعاة الحسم الثوري حين يعتقدون أن ما ينادون به يعني وصول حشود المحتجين إلى القصر الرئاسي ليسقط بعدها النظام وتبدأ مرحلة حكم جديدة. كما يخطئ دعاة الحسم العسكري حين يرون أن الاتجاه أولاً إلى إسقاط مؤسسات الحكم في العاصمة صنعاء بالقوة المسلحة سيتكفل بإسقاط النظام وتساقط بقية المناطق بما فيها المعسكرات الموالية لعائلة الحكم. كلا هذين الخيارين متاحان في الثورات قصيرة الأمد سواء المرتكزة على الانفجار الشعبي العفوي غير المستند إلى تخطيط سياسي أو الثورات المسلحة في أصلها. تخبطت الجماعات السياسية والثورية التي تتولى توجيه الانتفاضة وهي تجرب أمثلة الربيع العربي في إنهاء الأنظمة؛ في البدء ظنت أن المثال المصري قادر على إسقاط نظام صالح وها قد تبين أن ما كان ملائماً في مصر لإسقاط نظام مبارك غير متوافر هنا لإسقاط صالح. ولمن ما زال يؤمل على استنساخ المثال الليبي القائم على العمل المسلح فقد أثبت قتال الأيام السبع داخل العاصمة بين قوات الرئيس صالح وقوات اللواء علي محسن (الأحد 18 سبتمبر – السبت 24 سبتمبر) كم هو مدمر وأن لا طرف يستطيع من خلاله سحق قوة خصمه وتأكيد شرعيته. في المثال اليمني التائه، يتحدث معظم أنصار الانتفاضة عن مصطلح "الحسم الثوري" غير أنهم لا يطلقونه على حلول مكتملة لديهم أو أسلوب واضح للتطبيق وربما عنوا به الحسم الميداني لكنهم لا يتنبهون إلى ضبط التسمية لتفسر ما يقصدون على وجه التحديد. و"الحسم الميداني" في الحالة اليمنية يغدو الآن بعد اختبار تلك الدروب أفضل الحلول الممكنة للإطاحة بالنظام أو حتى إجباره على الرضوخ للحل السياسي، إنما ذلك الحسم الذي لا يرتكز على العنف المسلح ولا يعني الانتظار الطويل في الساحات وتحويلها إلى تكايات وخيام مجردة، بل محاصرة النظام وتجريده من المزايا التي مازال يتفوق بها على جماعات الشعب المنتفضة عليه. والمزايا المقصودة هنا هي الإيرادات التي ما تزال تتدفق على خزائنه سواء من الموارد النفطية أو عائدات المناطق الشاسعة التي يهيمن عليها نفوذ المناهضين للنظام بما تشتمل عليه من منافذ بحرية وبرية وما تمثله من كيانات تحمل على ظهرها أعداداً بشرية هائلة تصطف خلف الانتفاضة الراهنة وتمنحها شرعية للحكم تفوق ما لدى النظام. ذلك أنه ليس مفهوماً كيف أن ملايين السكان في تعز وإب والحديدة والبيضاء مثلاً يخرجون مهللين للتغيير منذ أول صيحة له في فبراير الماضي ثم عليهم أن ينتظروا حتى يجري تفكيك المعادلة المعقدة في مركز النظام دون عزله عن أي من تلك الأطراف الفاعلة. لن يتوافر تفسير ملائم للحسم الميداني السلمي أفضل من السيطرة الشعبية على المحافظات المتشيعة كلية للانتفاضة وهي أهم المحافظات بعائداتها الاقتصادية وثقلها البشري ثم عزل النظام في صنعاء ومحاصرته حتى يرضخ لحل سياسي عادل أو ينهار. سيرافق ذلك عمليات عنف لكنها لن تأتي بذات القدر المخيف في حال مهاجمة النظام في معقله وبين مؤيديه المتحفزين للقتال والفوضى. يجب ألا يفهم تخصيص صنعاء بهذا التوصيف أنه نوع من الذم لمجتمعها المحلي بل هو خاص بصنعاء بوصفها مركزاً للحكم، تلتف حوله جماعات على أساس النفعية وعصبية الدم والجغرافيا فتشكل بيئة نقيضة لغالبية مناطق البلاد الساعية للتخلص مما تراه نظاماً متخلفاً عن حاجاتها. لا ينبغي لهذه البيئة احتجاز قرار مناطق البلاد وفرض حكم قسري عليها. سيكون أمامها خياران: إما التوافق مع الجماعات المحلية الثائرة على نظام حكم جديد يرعى مصالح الجميع أو إفساح الطريق لتلك الجماعات لتقرر طريقتها المختارة في الحكم وتتمسك هي بطريقة عيشها على انفراد. ومع عزل النظام عن مكامن القوة المادية والبشرية سيغدو لمصطلح الحسم الثوري معنى وقيمة ملموسان ولو طالت مدة التنفيذ أما استمرار المؤيدين للانتفاضة في الدفاع عن مداها الزمني والقول إنها لم تستغرق مدة طويلة بحجة أن الثورات لا تنحصر في زمن محدد فذلك تبرير يفقد مضمونه مع طول المدة دون إنجاز شيء ذي تأثير. قدمت أحداث الأسبوع الماضي برهاناً واضحاً على عقم التوجه لإسقاط النظام في معقله أولاً..قدم المحتجون وقوات محسن مائة ضحية وخاضت الأخيرة أسبوعاً من القتال المرعب مع قوات صالح داخل أحياء صنعاء السكنية من أجل التمدد بضعة أمتار وبلوغ شارع الزبيري ثم عادت الأطراف كلها إلى الحدود المرسومة. على سبيل المثال، كان يمكن بهذا العدد من الضحايا السيطرة على محافظة ذات قيمة معنوية هائلة للنظام كتعز بما فيها مضيق باب المندب أحد أهم المضايق العالمية وكان ذلك كفيلاً بتحريك قلق المجتمع الدولي وحمله على فرض حل سياسي وإيلاء اليمنيين اهتماماً يكافئ تضحياتهم وتطلعهم الصادق نحو الديمقراطية والدولة الحديثة . ذلك أحد مأزقين علقت فيهما الثورة والآخر هو الصراع القبلي العسكري الذي يفهمه العالم الخارجي والفئات الداخلية المحايدة فهماً يظلم دلالات الانتفاضة الشعبية السلمية ويحل محلها. لقد كبر الصراع العشائري العسكري الذي تفجر بين حلفاء الحكم سابقاً على هامش الانتفاضة حتى غطى عليها وخطف منها صدارة القول والفعل.