تحمل ساعات الليل المتأخرة أخباراً سيئة في الغالب. وهذا ما خبره المحتجون في ساحات الثورة حين وصلهم خبر قبول المعارضة بكامل الاتفاق الخليجي لنقل السلطة في وقت متأخر من ليل الاثنين. فقد عادت المعارضة الاثنين الفائت لتشمل الاتفاق الخليجي كله بالموافقة بعد يومين من استثنائها الاشتراك في حكومة الوفاق الوطني ووقف الاحتجاجات. وفي يومين متتاليين أيضاً وافق الرئيس علي عبدالله صالح على الاتفاق ثم عاد ليرفضه ضمنياً ويشده إلى "صناديق الاقتراع". يتمسك شبان الثورة بحسمها على الطريقة الثورية ويرون في المسار السياسي إفساداً لها وتمييعاً لغاياتها التي يجب أن تأتي ناجزة. فيما يرى الساسة في المعارضة حتمية العمل السياسي لجني ثمار الثورة الميدانية في هيئة مكاسب سياسية خصوصاً أن الثورة هذه سلمية غير تقليدية فضلاً عن تعقيدات المشهد اليمني وتعاريجه . وبين الاتجاهين خيط رفيع من الاختلاف لكن جو الحالة الثورية التي يعيشها الجميع يظهره على أنه هوة كبيرة. فحتى تحويل مصب الثورة إلى خاتمة سياسية هو عين ما حدث في مصر وتونس إنما مستوى الإنجاز السياسي هو من يشفع للحل السياسي بالتدخل وقد كان في هذين البلدين مساوياً لحجم تضحيات المحتجين وتطلعاتهم. في اليمن، تفوق تضحيات الناس من الدم والجرحى والجهد والوقت نظيرها في مصر وتونس فيما الثمن ما زال غير واضح أو مضمون تماما. لكن مادامت اليد السياسية امتدت لإيصال الثورة إلى نهايتها على مرأى ومسمع من الثائرين المرابطين في الساحات منذ عشرة أسابيع فليمنحوها الفرصة. ذلك أن القسم الأعظم من الثوار استحب المكوث في الساحات والإصغاء إلى الخطابات والترحيب بالضيوف الملتحقين دون التفكير في تحضير خطط للتصعيد الذي يسلب النظام باقي آماله في استعادة التوازن والإمساك بالحكم وبمعنى آخر التصعيد الثوري الذي يغني عن العمل السياسي خلال أيام الثورة. وخلال فترة المكوث، جرى إيلاء شؤون صغيرة اهتماماً أكبر وإثارة الخلافات على مظاهر مؤقتة في الساحات كما لو أن الأخيرة هي الوطن المكتمل الذي جلبته الثورة وبالمقابل بدا هدف إسقاط النظام في متناول المعتصمين فتعاملوا معه بغير ذات الشدة المطلوبة. كما برزت الخلافات بين توجهات المعتصمين السياسية والفكرية إلى السطح . وقاتل النظام باستماتة من أجل خلخلة صفوفهم وزرع الشكوك بينهم. يوم الجمعة الماضي خطب صالح في حشد من مناصريه بميدان السبعين قائلاً إن المنتفضين ضده "يتآكلون". ثم كررها في اليوم التالي حين خطب في حفل لقواته. كان مستبشراً وهو يقولها على الرغم من أن نظامه خير من ينطبق عليه هذا التقييم في الوقت الراهن. وهو لم يقل ذلك إلا استناداً إلى تقارير تصله ويراهن هو عليها ضمن تدابيره للنجاة من سلطان الثورة. قبل ستة أسابيع، كانت مقالة بعنوان "حتى لا يتعسر مخاض انتفاضتنا" تملأ هذا الحيز من "المصدر أونلاين" وأوردت فيها رأياً بشأن التعامل تلك المسائل سيكون مفيداً استعارة جزء منها في السطور التالية: "ما يتراءى اليوم لكثيرين ثورة تقترب من ساعة الحسم هي ثورة ما تزال في طور الانتفاضة، تتربص بها تحديات كبيرة كما أن محاذير تكتنفها ويجب أن تخضع للنقاش والمراقبة. فمن المهم ألا يغيب عن القادة الذين يتقدمون صفوف المحتجين أن النظام يراهن في أحد خياراته على تململ المحتجين جراء التكدس الطويل دون تحقيق نتائج سريعة مما يفضي إلى نشوب خلافات بدأت تبرز مؤخرا خصوصا أن غالبية هؤلاء هم شبان غير متمرسين ولم يخبروا السياسة بعد. وظهور اختلافات هو أمر متوقع وطبيعي نتيجة امتزاج مشارب ثقافية وسياسية متعددة، تريد أن تسمع صداها في الجماهير المحتشدة لكن الطريقة التي سيحسم بها الشبان تلك الاختلافات هي ما ينبغي تطويره وضخ دعائم الترشيد إليها. يتطلب ذلك وعياً منفتحاً غير محدود وتجربة عميقة لنتائج الإقصاء والهيمنة. وينبغي تطوير الاحتجاجات الحالية إلى فعل ثوري متقدم حتى لا يتسنى للنظام تدبر أطواق النجاة وحياكة مؤامرات شريرة ضد الانتفاضة.. إنه يفعل ذلك حتماً ولا ينام إلا يسيراً. يفعل الرئيس أشياء كثيرة جدا ويتحرك كثيرا أضعاف التحركات العلنية التي يغطيها الإعلام الحكومي. وصالح ليس زعيماً نبيلاً ولا قائداً شجاعاً ليواجه المنتفضين ضده بشرف بل هو صانع مكائد صغيرة ويفكر بقروية شديدة الضيق وهو ما يجب تمثله دائماً فكلما تسارعت وتيرة الاحتجاجات، أمكنها تضييق دائرة مناوراته وإرباكه إضافة إلى إسقاط أوراقه على نحو مباغت مما يضاعف أعداد المتخلين عنه. وكلما تجلى تخبط الرجل وانتهت أوراق لعبته، ترتفع معنويات المحتجين وتغيب التباينات في صفوفهم. يعتمد الدفع بالاحتجاجات قدماً على المحتجين أنفسهم ويمكنهم التوصل إلى تقرير ذلك عبر نقاشات جماعية وعميقة، وتطوير الاحتجاجات هنا يشير إلى أساليب مختلفة كالعصيان المدني أو الانتقال إلى أماكن أكثر تأثيراً ورمزية وغيرهما". بعد انشقاق الجيش بقيادة اللواء علي محسن وانهيار قسم واسع من بنية النظام كان بإمكان المحتجين الإجهاز عليه بمزيد من التصعيد لا الانتظار والاستمتاع بأخبار الاستقالات المنهمرة. فتحت ضغط تلك الخطوة كان صالح قد وافق على التنحي دون طلب ضمانات أو الإسهام في صياغة الوضع السياسي الذي سيلي حكمه غير أنه نكث بالاتفاق بعد ساعات منتشياً بتجميع عشرات الآلاف من مؤيديه في ميدان السبعين. والاتفاق الخليجي لا يبدو من حيث المبدأ نهاية لائقة بالثورة التي حركت جمود عقود من الزمن، بصرف النظر عما يشتمل عليه من بنود لا ترتقي حتى إلى "فن الممكن" الذي تقوم عليه السياسة. فعوضاً عن أنه يحصن علي صالح وكل رجاله من المحاسبة على وجه الإجمال، لا يحدد الوضع الذي عليهم التقيد به مقابل هذا التخصيص. شهادة الخليجيين والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروربي على الاتفاق هو العصفور الوحيد في يد المعارضة اما بقية بنوده وخطواته التنفيذية فتشكل لصالح مخرجاً فخماً فوق ما كان يرجوه من المخرج الآمن. كأن صالح وافق على الاتفاق معتمداً على تخمينات ظنية برفض المعارضة له وفعلت المعارضة نفس الشيء مستندة إلى ولع الأول بالسلطة وعدم موافقته على اتفاق ينتزع الحكم منه بطريقة تبدو عنده سهلة. والافتراض الأول وارد بقوة إذ من غير الممكن تخيل صالح وهو يتعايش مع شهره الأخير في الحكم وفقاً للاتفاق. سيجهد كثيراً على الإطاحة به وتحميل المعارضة المسؤولية. من جهة ثانية فإن ما بدا في الأيام الماضية تكتيكاً بين المعارضة وغالبية الشبان المعتصمين من تليين طرف لمواقفه مقابل تشدد الثاني في مواجهة الوساطات الخليجية قد يتحول إلى افتراق حقيقي بالفعل. ففي موقف أولي رفض الشبان في صنعاء وتعز الاتفاق. وقال بيان للجنة التنظيمية للثورة الشبابية بصنعاء تؤكد "موقف شباب الثورة الثابت والرافض لهذه المبادرات التي لا تخدم الا النظام الاستبدادي وترى أنها مخرج للنظام من حتمية نهايته التي صنعها صمود شباب الثورة الأحرار" . وأضاف: تؤكد اللجنة أن مثل هذه الاتفاقات لا تلزم شباب الثورة بشيء وأننا مستمرون في ثورتنا وإجراءاتنا التصعيدية حتى تحقيق المطلب الرئيس للثورة والمتمثل في إسقاط نظام علي صالح ومحاكمته مع كافة أعوانه ورموزه". كما شدد شباب الثورة في ساحة الحرية بتعز على "التنحي الفوري وغير المشروط للنظام بكامل رموزه من رأسه حتى ساسه". وأكدوا استمرار الثورة حتى إسقاط النظام ومحاكمة رموزه.