على المطالبين بهيكلة الجيش من كل الأطراف تخليص هذا الشعار من التصورات العابرة المستعجلة وتحريره من المرامي الموجهة أيضاً لغط سياسي خلف خطوط الجيش يشيع شعار هيكلة الجيش إلى حد يبدو فيه أنه اللهجة الأثيرة التي يتحدث بها الناس هذه الأيام. ولقد أضحت جملة قصيرة من مفردتين عماداً للتعبير الأكثر شيوعياً في أحاديث السياسيين ونشطاء الانتفاضة الشعبية التي أطاحت نظام علي عبدالله صالح حتى أن جمعتين متتاليتين أحياهما المحتجون حملتا تسميتين متشابهتين اشتقتا من هذا الشعار. وصار واضحاً أن «هيكلة الجيش» شعار جرى تسطيحه وتجريده من مغزاه الاستراتيجي، فاتخذه الطرفان رمزاً، يشير كلاهما به إلى ما يرميان إليه من مطالب آنية تكتنفها مشاعر الغلبة. فأنصار الانتفاضة مع قادة الجيش الموالي لها يرون فيها تنحية أقارب الرئيس السابق من قيادة قوات الحرس الجمهوري و القوات الجوية و قوات الأمن المركزي، فيما يرى أتباع صالح وقادة قواته في مجمل العملية إعادة الجيش المنشق إلى إمرة الجيش الذي يقوده أقارب صالح. وليس بين هؤلاء إلا قلة من المتروين يولون توحيد الجيش تحت قيادة واحدة أولوية ويقدرون الغاية المفترضة من الهيكلة، بعد أن لمسوا أن انقسامه صار مبعثاً على الفوضى الأمنية وتغول الإرهاب عبر الهجمات الدامية التي يشنها تنظيم القاعدة وجماعات متطرفة على صلة به. سيعني تنظيم الجيش الذي غدا يعرف بالهيكلة توحيد الجيش أولاً وإكسابه المهارات التي تخلق منه جيشاً مهنياً ثم إعادة صوغ عقيدته العسكرية وفق قاعدة الولاء الوطني والحياد. وهذا التنظيم عملية طويلة الأجل، ستشتمل على سلسلة من الإجراءات والقرارات وتنحية قيادات. وقد تستغرق العملية برمتها مجمل الفترة الانتقالية الممتدة لعامين اثنين. بل ستكون هذه البلاد التي تغرق في فوضى أمنية ويعصف بها التناحر السياسي والانقسام الاجتماعي محظوظة إذا أنجز النظام الجديد هيكلة قوات الجيش والأمن خلال الفترة الانتقالية. بقاء الجيش منقسماً في ظل تناحر مرير واستقطاب حاد أخطر من جيش موحد بعقيدة عسكرية مهزوزة أومشوشة. إذ يستحيل أن يثبت نظام الدولة أو يستقر النظام السياسي الجديد وسط سلطتين عسكريتين خارج دائرة الولاء لقيادة الجيش العليا علاوة على جيشين يحشد كلاهما خلف خطوط الآخر وقد يندلع القتال بينهما في أي لحظة. تضغط قيادة الجيش الموالي للانتفاضة الشعبية السلمية ومعها الأطراف السياسية داخل الانتفاضة على الرئيس الجديد عبدربه منصور هادي بمطلب هيكلة الجيش بوصفه هدفاً تالياً من أهداف الانتفاضة بعد إطاحة الرئيس السابق علي عبدالله صالح. وهي إذ تفعل ذلك، إنما تحرف نظرات أنصار الانتفاضة الموجهة إليها أساساً صوب الهدف التالي فترفع معهم شعار هيكلة الجيش محفوفاً بتصوراته الظرفية العاجلة بالرغم من إدراكها لمدلولات الشعار والتعقيدات المرتبطة به. ينبغي للمطالبين بهيكلة الجيش من كل الأطراف تخليص هذا الشعار من التصورات العابرة المستعجلة وتحريره من المرامي الموجهة أيضاً واستيعاب مدى التحدي الذي ينطوي على دمج قوتين كبيرتين في جيش واحد ثم إخضاعهما لقيادة موحدة. ويغيب عن هؤلاء أن هيكلة الجيش هي عملية ينبغي أن تأتي تتويجاً لمجموعة إجراءات مترابطة لإعادة فرض الأمن وإنهاء المظاهر المسلحة التي تغطي المدن الحضرية ومناطق الريف منذ اندلاع التناحر بين قسمي الجيش المنقسم والاقتتال العشائري القبلي بين النظام السابق وخصومه القبليين. تشكل تلك الإجراءات تهيئة منطقية لا بد منها لخلق أرضية صالحة لإعادة تنظيم الجيش والأمن فضلاً عن أنها تؤلف مجتمعة الغاية من إنشاء اللجنة العسكرية التي نصت عليها اتفاقية نقل السلطة. فقد أوردت آلية الاتفاقية التنفيذية مهمة هيكلة قوات الجيش والأمن في بند مستقل يتلو مباشرة سبعة إجراءات يتوجب على اللجنة اتخاذها لتحقيق الأمن والاستقرار. إذ جاء في الآلية التنفيذية أن على اللجنة العسكرية قبل هيكلة الجيش ضمان إنهاء الانقسام في قوات الجيش مع إخلاء المدن من المجموعات المسلحة غير النظامية وعودة القوات المسلحة وباقي التشكيلات العسكرية إلى معسكراتها مع إنهاء المظاهر المسلحة وإزالة الحواجز والتحصينات ونقاط التفتيش المستحدثة في كل المحافظات. تضيف الآلية إلى المهام المنوطة باللجنة العسكرية قبل عملية الهيكلة «إعادة تأهيل من لا تنطبق عليهم شروط الخدمة في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية» واتخاذ أي إجراءات من شأنها منع حدوث مواجهة مسلحة في البلاد. وليس مجهداً البتة ملاحظة أن أياً من الخطوات السبع لم يطبق بعد، إذ الجيش منقسم ومازال مجندون من قسميه ينتشرون داخل المدن والأحياء السكنية فيما المظاهر المسلحة تخنق الحياة الطبيعية وأعداد المجندين الجدد تتضاعف دون أي معايير مما سيصعب من مهمة تأهيلهم. لا سبب آخر تقريباً وراء تعثر إنفاذ تلك الإجراءات غير قيادتي القوات المنقسمة اللتين تحكمهما علاقة عداء مستحكمة ومخاوف تطغى على الموقف كله فتزداد الحسابات التي تثنيهما معاً عن الامتثال لإجراءات ما قبل الهيكلة. المثير في الأمر أن الأطراف العسكرية التي تنادي بالإسراع في هيكلة الجيش لا تساعد في التهيئة للهيكلة إذ أنها تتقاسم المسؤولية في استمرار التوتر والانتشار العسكري. وخليق بها أن تطبع الأوضاع بحكم أنها لا تخشى من الهيكلة. بل إن استمراء انتشار عناصر الجيش خارج ثكناته صار ورقة ضغط بيد القيادتين، تضغطان به لضمان وضع مناسب إثر عملية الهيكلة والخروج بأقل الخسائر الممكنة التي يعتقدان أنها ستلحق بهما جراء إجراءات الهيكلة. وأكثر من ذلك، بدا أخيراً أن الجيش الذي دأب على تسدد عناصره الرقم الأعلى من الضحايا في سائر الصراعات السابقة سيستخدم في عملية مراباة قذرة لتنمية مكاسب المتصارعين. لعل الرئيس السابق علي عبدالله صالح قد استثار ذاكرته التآمرية فأوحت له بهذه اللعبة التي باشر في إنفاذها ليفرض بها مقايضة، تضمن بقاء أقاربه في مواقعهم العسكرية وتكبح مطالب خصومه بتنحيتهم. يوم الأحد الماضي، تظاهر حشد من العسكريين بالقرب من بيت الرئيس عبدربه منصور هادي مطالبين بإقالة قائد الجيش الموالي للانتفاضة اللواء علي محسن صالح. وقالت وسائل الإعلام الموالية لصالح إن المتظاهرين العسكريين ينتسبون إلى الفرقة الأولى مدرعة والمنطقة العسكرية الشمالية الغربية اللتين يقودهما محسن. كان المتظاهرون الذين ظهروا بزي الفرقة يطوفون قسماً من الشارع المار بقصر الرئيس هادي في الوقت الذي كان الامتداد الآخر من الشارع يغص بعسكريين من سلاح الجو الذين ينظمون احتجاجاً مفتوحاً منذ مطلع هذا العام لإقالة قائد سلاح الجو محمد صالح الأحمر وهو أخ غير شقيق لصالح. ويتهم حزب صالح اللواء علي محسن بدعم المحتجين ضد قائد القوات الجوية. هنا يجلو مسرح الصراع؛ فبهذه الخطوة يضع صالح الرئيس هادي في حرج ويقايض عزل أخيه الذي بدت إقالته مسألة وقت مع توسع الاحتجاجات ضده بعزل محسن أو هكذا يخطط صالح معتقداً أن بإمكانه النأي بباقي أقاربه عن مسرح المقايضات. النأي بالجيش عن صراع المصالح هو محذور آخر يتوجب على القادة المتصارعين مراعاته. الصورة لجنديين في الجيش اليمني على متن مدرعة في صنعاء يوم 9 مارس (رويترز – تصوير خالد عبدالله). اخبارية نت نقلا عن المصدر أونلاين