لم يعد الكثير أو حتى القليل في جعبة الرئيس لسيتند عليه ويستمر في مناورات عبثية غير مجدية لأن اللعب الآن صار مع الكبار . والمعارضة الشريفة والحق يُقال كانت من الكبار بمواقفها وحساباتها ولكنه كان يسعى بصورة حثيثة لإحراقها وتمزيقها وتقزيمها وتشتيتها ، وخيراً وحسناً فعلت إذ ظلت متماسكة أمام جبروت النظام الذي لم يوفر وسيلة إلا واستخدمها ضد معارضيه . ومن توجيه الضربات الموجعة لشريك الوحدة ، الحزب الاشتراكي ، من بعد الوحدة مباشرة في عام 1990 إلى الإجهاز عليه في عام 1994م بالسطو على ممتلكاته ومقاره ومحاولات تفكيكه و إغراء واستقطاب بعض رموزه ، إلى تزوير الانتخابات بغرض تقزيم دور المعارضة والمحاولات المستميتة واليائسة لإلصاق تهمة الإرهاب ببعض فصائلها لاستجلاب الدعم والتعاطف الدولي لضربها. وهذه الأخيرة من أخطر الوسائل لأنها كانت تهدف إلى سحب التأييد والغطاء الشعبي عن المعارضة . وكانت طرائق النظام للوصول إلى هذه الغاية في تحجيم وتقزيم المعارضة محاولات إحراجها أمام قواعدها و إيهام العامة من أفراد الشعب بأن المعارضة لا تتورع عن عقد صفقات مع النظام وخذلان الناس الكارهين للنظام والتواقين للتغيير وتيئسهم من الحل ، في حين أن المعارضة كقوة سياسية كانت تمارس دورها وتحت كل الضغوط في الوصول إلى أقصى ما تستطيع الوصول إليه لمعالجة الاختلالات وللحفاظ على المصالح العليا للمجتمع ، ولو كانت قد رجحت المصالح الفردية الضيقة على مصالح الوطن لما سلط عليها النظام غضبه وحقده ، واستل سيوفه لمحاربتها بكل الوسائل ولكانت قياداتها ترفل بنعيم السلطان ومباهجه مثلما عملت المعارضة المولودة من رحم الحاكم وقلة قليلة جداً من رموز المعارضة الحقيقة التي أعمتها الإغراءات والمكاسب الشخصية متجاوزة القيم والمبادئ والأخلاق . ولعل وثيقة الإنقاذ السياسي والوطني الذي أطلقته المعارضة في عام 2008 كان المشروع الوطني الذي أشهرته في وجه النظام ، مما أفقده صوابه لأنه يتضمن إصلاح المنظومة السياسية المولدة للاستبداد والفساد ، مما جعل النظام يدير ظهره لكل محاولات التفاوض والحوار ، لأنه شعر أن المعارضة تقترب من الخطوط المحظور الاقتراب إليها ألا وهي النظام ذاته . تكررت دعوات المعارضة للسلطة من أجل الحوار ، وتوسيع قاعدة الحوار ليشمل كل الأطراف المعنية والممثلة لكل شرائح المجتمع والأطراف المقصية والمستبعدة من النظام مثل الحراك الجنوبي والحوثيين ، لأنه لم يعترف بالأولى وأراد الاستفراد بحوارات ثنائية وغامضة وغير معلنة مع الثانية لينكث بالاتفاقات معها قبل أن يجف مدادها . ومنذ منتصف 2010 ومع اقتراب نهاية مدة مجلس االنواب في 27 أبريل 2011 التي تم التوافق عليها بين طرفي المعادلة السياسية ، الحاكم والمعارضة ، كان لابد من استئناف الحوار والذي رفضته السلطة أيضاً بصلف معتقدة بأنها يمكن أن تنظم انتخابات برلمانية منفردة على غرار التجربة المصرية اليائسة التي أفضت إلى أعظم ثورات مطلع القرن الواحد والعشرين . وحين وصلت المعارضة إلى طريق مسدود مع السلطة أعلنت عودتها إلى قواعدها ونادت بهبة شعبية طرحتها قبل اشتعال الثورتين التونسية والمصرية ، وبدأت قياداتها في النزول إلى جماهيرها في مختلف المحافظات . وسخر الحزب الحاكم من دعوة المعارضة ، وحاول كما هو ديدنه التضييق على لقاءات ومهرجانات المعارضة الشعبية ، وإذ كانت المعارضة ماضية في تلاحمها مع الجماهير انطلقت الثورتين التونسية والمصرية تباعاً لتلهب حماس الجماهير وتعيد لهم حلم وأمل التغيير الذي أغلقته السلطة تماماً . وحينئذٍ استشعر الحزب الحاكم بالخطر ليبدأ هو طلب الحوار بعد أن صد الطرف الآخر وتمنع وامتنع وأدار ظهره دون أي ذرة من إحساس بالمسؤولية ، وبالكارثة التي تحيق بالوطن نتيجة لسياساته الاقصائية والاستفرادية والاستحواذية. وحينما حاولت المعارضة الاستجابة لدعوة الحوار مع السلطة لتنقذ ما يمكن إنقاذه وتخوفاً من المجهول الذي تريد السلطة جر الجميع إليه حفاظاً على السلطة فحسب ، ودونما اكتراث بالنتائج . في تلك اللحظات الثورية كان صبر الشارع قد نفذ وثقته بالنظام قد اهتزت ، فحذر المعارضة وتصدى لقبولها بالحوار مع النظام . فما كان من المعارضة إلا الانحياز لصف الشعب ، للحفاظ على رصيدها وذخيرتها في مواجهة النظام الذي قد استنفذت معه كل الوسائل والأساليب . وهذه المرة ومع الأخذ بعين الاعتبار المستجدات والمعطيات الحديثة كان لابد من أطراف إقليمية ودولية أن تشارك في الحل ، فجاءت المبادرة الخليجية بمباركة امريكية وأوروبية ، مع استعداد الشباب لحسمها بطريقتهم الثورية واضعين نصب أعينهم التضحيات الكبيرة لهكذا حل . وقد رفضت المبادرة مختلف ائتلافات وتحالفات الثورة ، يعني الشارع برمته ، للشعور بالغبن والضيم منها ولشعورهم بأنها جاءت لتعين الظالم على ظلمه ، بل ولتوفر له حماية تجعله يستمر في غيه لأنه لا يخشى الردع والعقاب ، وقد اضطرت المعارضة لقبولها على مضض ، وهي وجلة وخائفة على تناقص رصيدها الشعبي وتحمل تلميحات وتصريحات شباب الثورة بخيانتها لمطالبهم ، آملة أن يدركوا لاحقاً مقاصدها ومراميها ومحدودية خياراتها أمام التعهدات الإقليمية والدولية تحديداً ، أما النظام فقد نفضت يديها منه ليس من اليوم أو الأمس بل منذ بدء التعامل معه ، لأنه لا يتعامل بأخلاق السياسة وأعرافها ولكن بالفهلوة والتذاكي والتحاذق ، ومن منطلق الاستعلاء والاستقواء بمقدرات الدولة في مواجهة الخصوم غير عابئاً بنتائج هذا السلوك الكارثي على الوطن . وقد برزت محاولات التذاكي منذ البداية على الشركاء الخليجيين – في محاولة للتملص من المبادرة – حينما تحجج بقطر ودورها وقناة الجزيرة ورسالتها ، ثم برفض التوقيع تحت صفته الرسمية وإنما بصفته الحزبية وهذا شأن داخلي يخصه بالمؤتمر الشعبي العام ولا دخل للشعب فيه ، لأنه ينظم العلاقة بينه وبين قيادات وأعضاء حزبه. ومطلب الثورة كان واضحاً تنحي رئيس النظام عن سلطاته كرئيس جمهورية وإسقاط النظام كاملاً. ويمكن اعتبارالمبادرة الخليجية حل جزئي قيمي وأخلاقي تفرضها عليهم دواعي الجوار ، وكذلك قلق مشروع من هبوب عواصفها عليهم ، و تحمل في طياتها ما يُقصد به تجنب الصدام والصراع أو بمعنى أدق الحرب الأهلية التي ظل النظام يلوح بها كلما تنامت مطالب التصحيح والتغيير مهدداً بالصوملة والأفغنة والعرقنة . و يعلم القاصي والداني أن النظام راهناً يسعى إليها بكل الوسائل ، لأنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتكئ عليها لضمان استمراره في الحكم ، وقد عهدناه يدير البلاد بالأزمات والحروب ، ومن حرب 1994م الظالمة على الجنوب إلى ستة حروب متفرقة منذ عام 2004 وحتى 2010 على الشمال. ناهيك عن افتعال أزمات هنا وهناك ليتمكن من الاستمرار في الحكم والقاعدة أنموذجاً لها ، غير عابئاً بالخسائر البشرية والمادية التي ستأتي لا سمح الله على الأخضر واليابس ، وتقوض إمكانيات أي تنمية لبلد تنميته بسبب الفساد أصلاً متعثرة منذ عقود . ويبدو أن الأطراف الإقليمية والدولية بدأت تتجرع من نفس الكأس الذي تجرع منه الشعب وتجرعت منه المعارضة طويلاً وكثيراً. ولكني أجزم بأن اللاعبين الإقليميين والدوليين ليس لهم طول بال الشعب اليمني مع النظام وآساليبه ومناوراته ، وأقلها بالنسبة لهم وأكثرها إيلاماً بالنسبة للأطراف اليمنية المختلفة أنهم ممكن يديروا لنا ظهورهم ويتركونا نعالج مشكلاتنا بأنفسنا محاولين إتقاء آثارها وتداعياتها عليهم ، وهو سيناريو غير مفضل لكثير من الأطراف بسبب التداخل والتقاطع بين المصالح الوطنية والإقليمية والدولية. والآن فإن لسان حال الكثيرين من العامة والخاصة تقول عليكم به ليوقع أولاً ، وعليكم به لينفذ ثانياً قبل أن ينفذ صبر الشارع لأن لديهم تجارب مريرة معه في نقض العهود والمواثيق مثلما عمل باتفاقية الوحدة ودستور دولة الوحدة و بوثيقة العهد والاتفاق في فبراير 1994 م وكما يفعل بشركائه الوطنيين في المعارضة الذين فجر في خصومتهم ومن شدة كرهه – بسبب منازعتهم له على الحكم بصورة مشروعة ضمن المبدأ الدستوري المعطل في التداول السلمي للسلطة – من شدة كرهه لهم لم يوفر صفة مذمومة إلا ووصفهم بها إبتداء من الخيانة والعمالة وانتهاءً بقطاع الطرق في خروج واضح عن الحصافة واللياقة تفقده الرشد وأهلية الحكم . الآن الرئيس في سباق مع الزمن في خيارين لا ثالث لهما لأن الشعب من أمامه والزياني من خلفه ، فإما المبادرة توقيعاً وتنفيذاً والحصول على أكبر المنافع والمكاسب له تحديداً أو مواجهة الشعب .