كنت اتصفح بعض الاعداد القديمة من صحيفة ايلاف والتي جلبتها معي عندما جئت الى القاهرة في مايو الماضي، ووجدتُ توطئة لاحد مقالاتي التي كتبتها في مارس الماضي (قبل جمعة الكرامة) قلت فيها “اعتقد أن الرئيس لو يصلي على النبي ويبعد من جنبه بعض (المخلصين) ولو إبعاداً مؤقتا فقط لصلحت أموره وانفرجت الغمة، ولعرف كيف يتصرف بدلا من التصرفات الانفعالية الملاحظة عليه هذه الأيام “كان يستقبل يوميا وفودا مختلفة من القبائل المحيطة بالعاصمة ويغدق عليهم الاموال آنذاك”. والمخلصون التي ذكرتها في التوطئة كانت اشارة الى خطاب الرئيس في الثاني من فبراير الماضي في البرلمان عندما تعهد بعدم تسليم مقاليد الحكم لابنه بعد انتهاء فترة ولايته، قائلاً “لا تمديد ولا توريث ولا تصفير للعداد.. هذا كلام غير وارد في برنامج الرئيس على الإطلاق.. هي إجتهادات أشخاص (مخلصين)، لكن هذا الكلام غير وارد في برنامجي”.
وكان يقصد بالاشخاص المخلصين سلطان البركاني الذي تبجح وقال في احد البرامج الحوارية على قناة السعيده عندما سأله المذيع عن نية المؤتمر الحاكم انذاك تصفير عداد الرئاسة (بعد الانتخابات المصرية) فقال نحن لانريد تصفير العداد بل قلع العداد، وهي الجملة التي كانت الشرارة الاولى للثورة التي قلعت الرئيس صالح من على كرسي الحكم، ومن هذا الباب يمكن ان نقول ان البركاني له فضل كبير على التعجيل بقيام الثورة لانه اخلص الى درجة تحدي مشاعر الناس واستخف بالشعب حتى عجّل بانتفاضته، وكثر الضغط يولد الانفجار..
وحتى لااسترسل كثيرا في الماضي اعود لاستكمال مابدأته عن المخلصين الذين لازالوا حتى اليوم السبب الرئيسي للمراوحة التي نعاني منها في بعض القرارات التي تعتبر مصيرية سواء للرئيس علي عبدالله صالح او للشعب اليمني، فالمخلص سلطان البركاني هو الذي يُحضِّر السبعين وهو الذي يصرفهم بعد كلمته، وهو الذي يدلي بالتصريحات غير المتزنة والتي تزيد الطين بلة، وهو الذي تهجم على نائب الرئيس مؤخرا حتى كاد ان يفتعل ازمة بين الرجلين ربما تهدد بنسف المبادة الخليجية، وهو الذي قال ان الرئيس لن يغادر وانه من سيقود الحملة الانتخابية للنائب، وهو من يتحرك ويصول ويجول وعامل زحمه والشارع فاضي..
عندما قيل في فبراير إن سلطان البركاني غادر صنعاء (حانقا) بسبب توبيخ الرئيس له انذاك بسبب قصة قلع العداد الذي تطور بفعل (جينات الشعوب الثائرة) إلى (قلع الرئيس) فقلت (إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم)، لكني فوجئت بأنه ذهب إلى تعز، وبسبب قانون الحصانة الذي شمله فقد افلت (امس) من العقاب في التهمة التي كانت عليه بضلوعه في إلقاء القنبلة على المعتصمين بساحة الحرية بتعز والتي تسببت في مقتل الشاب البذيجي وإصابة العشرات من الشباب المعتصمين هناك..
بعد القاء القنبلة من سيارته في تعز وانتشار الخبر وتحفز الناس وكانوا يبحثون عنه، فرّ إلى بلاده المشاولة (المعافر) وهناك تسبب في تأزم الوضع أكثر فأكثر، وقام احد أتباعه بإطلاق النار على شخص آخر، فثارت عليه الدنيا وكسر حاجز الخوف وكسرت الهالة التي كانت تحيطه وقام الشعب بطرده وقذف سيارته الفارهة بالبيض والطماطم كبداية كانت ستتطور الى التهشيم بالحجارة، لكنه فهم الرسالة ولملم نفسه وغادر إلى بيروت.
البركاني لم يتعظ مما جرى، ولم يستحٍ مما جنى على الرئيس وعلى النظام وعلى البلاد والعباد بفعل تهوره وتطرفه اللا محدود، وياليته تطرفٌ محمود ولمواقف محسوبة، لكنه تطرف مذموم “يبيع دينا، ومن باع كلع بكع طلع” كما يقول السّلال، ولايعرف من المستفيد ومن الخاسر، الأهم عنده أن يرضى الرئيس وهو “يشقدف” لحميد الأحمر بمناسبة وبدون مناسبة..!!
حقيقة إلى اليوم لم اعرف ولم استطع أن أتذكر موقفا ثابتا لسلطان البركاني، كل مواقفه متحركة ومتماهية، تميل مع توجهات السلطة وإرادتها (حقا وباطلا)، وكل مواقفه في البرلمان بدون استثناء ضد الشعب الذي انتخبه، بل ضد مصالحه ورغباته، بمبرر أنه يرأس كتلة الحزب الحاكم الذي شكل الحكومة، إلا أن تبريره هذا مردودٌ عليه فهو وإن كان يرأس تلك الكتلة إلا أن سُلم الأولويات يقول انه نائب عن الشعب الذي انتخبه للدفاع عن مصالحه أولا، ولو لم ينتخبه الشعب لما استطاع أن يكون رئيسا للكتلة ولا فراشا لها، وبعد مراعاة مصالح ناخبيه (الشعب) والدفاع عنها وانتزاع حقوقه من الحكومة، تأتي المواقف (السياسية) مع حكومته.
قيل لي في السابق أني حمّلت البركاني فوق طاقته من الاهتمام والنقد، وأرد عليهم بان البركاني هو من ودّف بالرئيس علي عبدالله صالح وجعله يتحدى الشعب بعد الانتخابات المصرية، وتحديدا حينما روّج لمصطلح (قلع العداد) الذي استفز الناس، وكان يجلجل (البركاني) بتصريحاته الرنانة بأنه سيمضي إلى الانتخابات ولن يوقفه احد، وأرعد وأزبد وقرر انه وحزبه سينتخبون أنفسهم في 27 ابريل الماضي..!!
وقلت في مقال قديم اني انظر إلى البركاني من زاويتين، الأولى انه شيخ من بلادي، واغضب كثيرا عندما اسمع من يستهزئ به أو يذكره بسوء لاسيما عندما يربطه بالمحافظة، والثانية انه ضمن المستشارين (المخلصين) للرئيس علي عبدالله صالح، والمودِّف الأول به!، وبالتالي كان لزاما عليّ العمل في اتجاهين أيضا، الأول التحذير منه وانه لايملك رأيا سياسيا بل رأيه يستشفه من نظرات الرئيس وإشاراته ورضاه او غضبه على فلان او علان، والاتجاه الثاني العمل على كبح جماحه ومحاولة إيصال رسالة شخصية له، ولو كانت مؤلمة (فانا منه وهو مني وتأتي مني أفضل من الغريب) مفادها الابتعاد ولو مؤقتا عن الرئيس، لأنه يزيد الوضع سوءا كلما اقترب منه..
طبعا هذا كان في السابق اما اليوم فاني انصحه بالالتصاق به اكثر فاكثر، وانصحه ان يحزم امتعته ويكون جاهزا للانطلاق، فالرئيس سيعتكف كما قال البركاني في يوم من الايام لكتابة مذكراته ولن يجد من يذكره بيومياته ومواقفه افضل منه، وسيجد الفراغ المناسب للعب الدومنة وهي هوايته المفضلة منذ ان كان يسكن في شارع هايل مطلع تسعينيات القرن الماضي.
كنت اقول انه سيتعظ وسيكبح الجماح قليلا وسيتزن، لكني مااراه الا مهرولا بنوع من الانتقام من واقعه وحظه العاثر الذي اوقعه في خانة الرئيس علي عبدالله صالح الذي سيغادر السلطة وربما اليمن، وبالتالي فلا مستقبل برلماني له، اذ من سيرشحه بعد كل هذا، ولامستقبل سياسي على اعتبار ان الجاه والمال والسلطة والمناصب كانت تخلق منه شيئا وهو لم يتعود ان يكون في اي تنظيم سياسي كادح او مناضل حقيقي بالمبادئ، فأي دور يمكن ان يلعبه خلال الفترة القادمة، هو يرى انه انتهى وبالتالي يعمل وفق نظرية الانتحار انا ومن بعدي الطوفان، وهذه النظرية يستخدمها المرضى النفسيين الذين يريدون ان يعيشوا في صدور المجالس والا فلا حياة لغيرهم.
حتى عندما تغيرت لهجة الكثير من أعضاء البرلمان كأحمد صوفان والراعي وغيرهم من قيادات الحزب الحاكم بعد خروج الشباب الى الشوارع، كان البركاني لايزال يتمترس خلف عقليته التصعيدية وفق اتجاهات البوصلة، لاكما يتطلب الوضع السياسي القائم، واعتقد انه لو سُئل البركاني اليوم عن الأوضاع السياسية في البلاد لقال إنها في هدوء تام، والأمور سابرة والخير من كل جانب وفخامة الرئيس حفظه الله.
اعتقد أن البركاني وأمثاله من (المخلصين) لايستطيعون العيش في الأجواء الطبيعية، ولايبرزون إلا في القلاقل والأزمات، لان رصيدهم من النضال (صفر)، وبضاعتهم كلام وصياح وخصام وغباء مستفحل يُحيل الحق باطلا والباطل حقا، وبالتالي فهم يعملون على أن يخلقوا الأزمات لكي يصنعوا لهم دورا في الأحداث، وسيستمرون هكذا الى ان يرحلوا بوجوههم الكالحة عن السلطة وعن البرلمان ايضا فاليمن ولادة ولن يستطيع احد تزوير ارادتها بعد اليوم.
اخيرا، قمة الغباء أن تقوم بإغراق سفينة بأكملها لكي تقتل القبطان فقط، وهذه هي الحكمة التي استلهمها اللقاء المشترك من الاوضاع التي وصلت اليها البلاد من تدمير لكل جميل في البلاد وقتل الشباب وتردي الاوضاع الانسانية والاقتصادية والمعيشية للناس فاثبتوا أنهم وطنيين، وعلى قدر المسؤولية، وكان قرارهم الشجاع بتشكيل حكومة الوفاق الوطني التي اعادت نوعا ما الهدوء والامن والطمأنينة الى الشارع، واذا سلمنا من بعض “طبزات” المخلصين فاننا سنصل الى انتخابات فبراير القادم وسنبني اليمن الجديد ان شاء الله بسواعد ابنائه المخلصين الحقيقيين.. اتمنى ذلك.