" بقلم الشيخ أبو إبراهيم محمد بن صالح بابحر – خطيب جامع سميح بحي السّحيل / سيئون" في المقال الثاني تكلمنا عن ثلاثة أسباب رئيسة لما أصيبت به الأمة اليوم , من الضعف والهوان , والخيبة والخسران, حتى آل أمرها بيد غيرها, وفي هذا المقال الثالث سأتابع الحديث عن أسباب هلاك الدول والملوك ودمار الشعوب والأمم , من الناحيتين : الشرعية , والسنن الإلهية . فمن تلك الأسباب التي هي كفيلة في محو سلطان كل ذي سلطان , وزوال ملك كل ملك ظالم : 5- موالاة أعداء الله والارتماء في أحضانهم : قال تعالى :{ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ }. قال القاسمي في " محاسن التأويل ": أي : ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية ، يعني : أنه منسلخ من ولاية الله رأساً . وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان ، كما قيل : تُوِد عدوّي ثم تزعم أنني *** صديقك ليس النوك عنك بعازب ولنضرب مثالاً من القديم : فهذا أمير غرناطة ابن الأحمر : عقد معاهدة، مع ملك النصارى ملك قشتالة، ما هي هذه المعاهدة ؟ . اتفق معه على أن يحكم ابن الأحمر مملكة غرناطة، باسم ملك قشتالة وفي طاعته وأن يؤدي له جزية سنوية , ودليلاً على حسن الطاعة تنازل له – أيضا – عن بعض بلاد المسلمين , وقدم وفقا لتعهده قوة من الفرسان لمعاونة النصارى في حصارهم للحاضرة الإسلامية والاستيلاء عليها. فلما مكنهم , واستولوا على بلاد المسلمين , غدروا به وأُخرج من ملكه وهو يبكي ؛ جلس على صخرة يبكي، فقالت له أمه : – لأنها بذلت محاولات جبارة للمحافظة على الأندلس، وحاولت أن تبذل المستحيل، وقامت بأدوار قوية للحفاظ على الأندلس، لا يستطيع أن يقوم بها أكابر الرجال -. قالت له: " ابكِ مثل النساء ملكا مضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال ". ولذلك صور الشاعر كلماتها بهذه الأبيات تخاطب ابنها بعد تسليم الأندلس فتقول : تذكر الله باكياً هل يرد الدمع *** مجداً ثوى وعاراً أقاما هدّني فوق خطبنا أنك ابني *** يا لأمٍ تسقى العذاب تؤاما لم تصن كالرجال ملكاً فأمسى *** ركنه آنذاك فابكه كالأيامى [" سقوط الأندلس دروس وعبر- للعمر "]. وأما في الوقت الحاضر : فيكفيك علماً ما فعلوا بصدّام العراق , الذي أسلموه إلى أعدائه ليشنقوه في يوم عيد , وأما الرئيس التونسي المخلوع – الذي كان ربيباً لفرنسا – فكم مكث يحلّق بطائرته في الأجواء , فلم يجد من يأويه من أوليائه السابقين , وهكذا رئيس مصر الذي خدم الغرب وأمّن حدود العدو , لم يجد في ساعاته الأخيرة من يغيثه من أصدقائه وحلفائه , وإذا قارنت موقف الأعداء من هذين الحليفين الاستراتيجيين لهم , لم تفاجأ أو تندهش وأنت تراهم يسلمون أوليائهم الواحد تلو الآخر , وفي ذلك عبرة لكل معتبر . 6- ظلم الشعوب وقهرها : قال تعالى :{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة (124). قال ابن كثير : واختار ابن جرير أن هذه الآية -وإن كانت ظاهرة في الخبر -أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً. ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل، عليه السلام، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه، كما تقدم عن مجاهد وغيره، والله أعلم. وقال سيد في " ظلال القرآن "(1 / 112): والظلم أنواع وألوان : ظلم النفس بالشرك ، وظلم الناس بالبغي .. والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة : إمامة الرسالة ، وإمامة الخلافة ، وإمامة الصلاة .. وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة. فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها. ومن ظلم – أيّ لون من الظلم – فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها بكل معنى من معانيها. وعَنْ أبي ذَرٍّ – رضي الله عنه – ، عَنِ النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فيما يَروي عَنْ ربِّه – عز وجل – أنَّه قالَ : ( يا عِبادي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلمَ على نَفسي ، وجَعَلْتُهُ بَينَكُم مُحَرَّماً فلا تَظالموا .. ) [ رواه مسلم ]. وقال صلى الله عليه وسلم :( واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ). [متفق عليه]. في " فتح الباري ": أي تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم , وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم. قال في " التبر المسبوك في نصيحة الملوك "(1 / 3): واعلم أنّ ما كان بينك وبين الخالق سبحانه فإن عفوه قريب، وأما ما يتعلق بمظالم الناس فإنه لا يتجاوز به عنك على كل حال يوم القيامة , وخطره عظيم ولا يسلم من هذا الخطر أحد من الملوك إلا ملك عمل بالعدل والإنصاف ليعلم كيف يطلب العدل والإنصاف يوم القيامة. فإن الولاية نعمة من نعم الله عز وجل، من قام بحقّها نال من السعادة ما لا نهاية له ولا سعادة بعده، ومن قصّر عن النهوض بحقها حصل في شقاوة لا شقاوة بعدها إلا الكفر بالله تعالى. إ.ه. وقال بعض الحكماء : بالراعي تصلح الرعيّة ، وبالعدل تملك البريّة , ومن عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه ، والظلم مسْلَبةُ النعم ، ومجلبة النقم ، وأقرب الأشياء سرعة الظلوم , وأنفذ السهام دعوة المظلوم ، ومن سل سيف العدوان سُلب من السلطان . وقال الفُضيل بن عياض رحمه الله : إن الله تعالى لا يهلك الرعية إن كانت ظالمة إذا كانت الأئمة هادية مهديةٌ , ويهلك الرعية وإن كانت هادية مهدية إذا كانت الأئمة ظالمة ، لأن أعمال الأئمة تعلو أعمال الرعية . [" الجوهر النفيس في سياسة الرئيس " (1 / 123- 124)]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الحسبة " (ص / 4): فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة ، وعاقبة العدل كريمة ، ولهذا يُروى : الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة . وفي البرامكة عبرة لكل غافل : فقد سادوا وحكموا وملكوا , وردّت إليهم مقاليد الأمور في زمن الرشيد , لا سيما جعفر بن يحيى بن خالد ابن برمك . قال الذهبي : ثم انقلب الدست في يوم .. فقتل وسجن أبوه وإخوته إلى الممات ، فما أجهل من يغتر بالدنيا ! وقال الأصمعي : سمعت يحيى بن خالد يقول : الدنيا دُول ، والمال عَارية ، ولنا بمن قبلنا أُسوة ، وفينا لمن بعدنا عبرة . قيل : إن ولداً ليحيى قال له : وهم في القيود يا أبةِ بعد الأمر والنهي والأموال صرنا إلى هذا ؟ قال : يا بُني دعوة مظلوم غفلنا عنها لم يغفل الله عنها . مات يحيى مسجونا بالرقة سنة تسعين ومائة عن سبعين سنة . قال الحافظ ابن كثير – بعد أن ساق ما أصاب البرامكة من الذل والهوان بعد العز والإكرام -: وكان الناس ينبذونهم بعد التسابق على أبوابهم، ويعتلونهم بعد الاستئناس بهم، فهل من مدّكر بما حصل؟. فهل يعرف الناس قدر الدنيا، فيتقوا الله تعالى في أنفسهم، وفي أهليهم، وفي جيرانهم، وفي مجتمعهم، ويتورع القوي من ظلم الضعيف . ومتى يعتبر برامكة العصر ! ويتوبون من ظلم شعوبهم , ومن عمالتهم لأعداء دينهم وأمتهم , حتى يرفع عنا وعنهم هذا البلاء الداهم والطوفان القادم . يتبع في الحلقة الرابعة – إن شاء الله تعالى -.