فيما مصير علي عشال ما يزال مجهولا .. مجهولون يختطفون عمه من وسط عدن    في خطابه بالذكرى السنوية للصرخة وحول آخر التطورات.. قائد الثورة : البريطاني ورط نفسه ولينتظر العواقب    رسائل اليمن تتجاوز البحر    قدسية نصوص الشريعة    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    تطور القدرات العسكرية والتصنيع الحربي    الاجتماع ال 19 للجمعية العامة يستعرض انجازات العام 2024م ومسيرة العطاء والتطور النوعي للشركة: «يمن موبايل» تحافظ على مركزها المالي وتوزع أعلى الارباح على المساهمين بنسبة 40 بالمائة    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    في ذكرى الصرخة في وجه المستكبرين: "الشعار سلاح وموقف"    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    ملفات على طاولة بن بريك.. "الاقتصاد والخدمات واستعادة الدولة" هل يخترق جدار الأزمات؟    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    العدوان الأمريكي البريطاني في أسبوع    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    صنعاء .. طوابير سيارات واسطوانات أما محطات الوقود وشركتا النفط والغاز توضحان    العشاري: احراق محتويات مكتب المعهد العالي للتوجيه والارشاد بصنعاء توجه إلغائي عنصري    التحذير من شراء الأراضي الواقعة ضمن حمى المواقع الأثرية    الآنسي يُعزي العميد فرحان باستشهاد نجله ويُشيد ببطولات الجيش    شركات طيران أوروبية تعلق رحلاتها إلى "إسرائيل"    دوي انفجارات في صنعاء بالتزامن مع تحليق للطيران    وسط إغلاق شامل للمحطات.. الحوثيون يفرضون تقنينًا جديدًا للوقود    نصيحة لبن بريك سالم: لا تقترب من ملف الكهرباء ولا نصوص الدستور    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 52535 شهيدا و118491 مصابا    تحالف (أوبك+) يوافق على زيادة الإنتاج في يونيو القادم    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    وزير الدفاع الإسرائيلي: من يضربنا سنضربه سبعة أضعاف    ريال مدريد يتغلب على سيلتا فيغو في الدوري الاسباني    «كاك بنك» يدشن خدمة التحصيل والسداد الإلكتروني للإيرادات الضريبية عبر تطبيق "كاك بنكي"    أعضاء من مجلس الشورى يتفقدون أنشطة الدورات الصيفية في مديرية معين    وفاة طفلتين غرقا بعد أن جرفتهما سيول الأمطار في صنعاء    شركات طيران أوروبية تعلق رحلاتها إلى إسرائيل بعد استهداف مطار بن غوريون بصاروخ يمني    الخبجي : لا وحدة بالقوة.. ومشروعنا الوطني الجنوبي ماضٍ بثبات ولا تراجع عنه    الدكتور أحمد المغربي .. من غزة إلى بلجيكا.. طبيب تشكّل وعيه في الانتفاضة، يروي قصة الحرب والمنفى    وجّه ضربة إنتقامية: بن مبارك وضع الرئاسي أمام "أزمة دستورية"    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    بن بريك والملفات العاجلة    92 ألف طالب وطالبة يتقدمون لاختبارات الثانوية العامة في المحافظات المحررة    يفتقد لكل المرافق الخدمية ..السعودية تتعمد اذلال اليمنيين في الوديعة    ترحيل 1343 مهاجرا أفريقيا من صعدة    هدف قاتل من لايبزيغ يؤجل احتفالات البايرن بلقب "البوندسليغا"    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    لاعب في الدوري الإنجليزي يوقف المباراة بسبب إصابة الحكم    السعودية تستضيف كأس آسيا تحت 17 عاماً للنسخ الثلاث المقبلة 2026، 2027 و2028.    أين أنت يا أردوغان..؟؟    مع المعبقي وبن بريك.. عظم الله اجرك يا وطن    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    - حكومة صنعاء تحذير من شراء الأراضي بمناطق معينة وإجراءات صارمة بحق المخالفين! اقرا ماهي المناطق ؟    "ألغام غرفة الأخبار".. كتاب إعلامي "مثير" للصحفي آلجي حسين    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مصر.. اكتشافات أثرية في سيناء تظهر أسرار حصون الشرق العسكرية    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    مانشستر سيتي يقترب من حسم التأهل لدوري أبطال أوروبا    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعليمنا التلقيني ومؤسساته .. تحت المجهر
نشر في هنا حضرموت يوم 09 - 01 - 2014

عدم جدوى المناهج الدراسية في المؤسسات التعليمية وأثرها السيئ على الطلاب
بينما يتطور نظام التعليم في العديد من بلدان العالم، يظل تعليمنا في اليمن خاصة وبلاد العالم العربي عامة يرزح تحت أغلال التقليدية التلقينية المقيتة، فأطفالنا يفقدون الإبداع الذي خُلق معهم بالفطرة مع تقدم أعمارهم في الدراسة إلى أن يصلوا إلى الجامعة لتموت إبداعاتهم على محرابها، وتخلّف بموتها الكثير من المآسي المؤلمة التي سيأتي ذكرها آنفاً، ولأجل ألا تتكرر هذه المآسي مجدداً أحببتُ أن أضع بين يدي القارئ الكريم هذا التقرير المفيد الذي أعددته وبسطته من خلال قراءة بعض الكتب التي ناقشت هذه القضية، عسى أن يتنبه مع أنني أشك في ذلك من في أذنه صمم من مسئولينا الأفاضل الذين لا يعون إلى الآن حجم هذه المشكلة العويصة التي يضيع بسببها مستقبل الكثير من الشباب والشابات ويظلون في مسيرة حياتهم العملية يخبطون خبط عشواء ويسيرون على غير ما هدى حتى يلقي بهم الحظ إلى عمل ربما يقبلونه على مضض ولكنهم لا يحبونه.
في عالمنا العربي لم تظهر إلى الآن دعوات جادة لحل هذه الإشكالية، بل ربما وقف السواد الأعظم من المسئولين ضد أية حلول تطويرية للتعليم لأنهم يريدون أن يبقوا على الكراسي أطول فترة زمنية ممكنة دون منازع ليمارسوا هوايتهم المحببة المعروفة لدى الجميع، ويمارسون بكل حرية وصفاقة سياسة التجهيل في الأجيال القادمة، وهو ما نرى نذره في أجيال اليوم التي أصبحت تميل بشدة إلى اللعب واللهو والإسفاف، وتنأى بنفسها عن الارتقاء بمستواها الثقافي والإبداعي.
يرى عدد من المفكرين الذين أحسُّوا بحجم المشكلة وخطرها القادم بأن حلها الجذري يكمن في إلغاء المدارس التقليدية التي تقوم على التلقين وتقتل الإبداع، وهذه الدعوة رغم غرابتها ليست حديثة الولادة والمنشأ بل ترجع أصولها وجذورها إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وظهور حركة التنوير التي مثّلها العلماءُ والفلاسفة والمفكرون العقلانيون، كالمفكر الفرنسي الشهير ( جان جاك روسو ) الذي دعا صراحة إلى إغلاق المدارس التلقينية، والعودة إلى التفكير الفطري الطبيعي الذي قاد البشرية قروناً طويلة نحو تحقيق التقدم والازدهار، وقد اعتَبر المفكر ( روسو ) أن المدارس التقليدية التلقينية تقضي على التخيل وتجعله محصوراً في إطار ضيق إلى أبعد الحدود. ومن أولائك العلماء أيضاً عالم النفس التربوي ( د. و. جلاسر ) الذي قال في كتابه ( مدارس بلا فشل ) : " إنها المدرسة، والمدرسة وحدها هي التي تسجل على الأطفال بِطاقة الفشل"، وقال أيضاً : " إن الطفل الذي كان يؤدي عمله بصورة مُرضية طوال خمس سنوات يكون على ثقة من أنه سيستمر كذلك في المدرسة، وهذه الثقة في تجربة كثير منا ممن يعملون في المدارس قد تضعف ولكنها تظل فعالة لمدة خمس سنوات أخرى تقريباً بصرف النظر عن عدم كفاية تجربته المدرسية، ومع ذلك فإذا عانى من الفشل المدرسي إبان هذه السنوات الخمس ( من سن الخامسة وحتى العاشرة ) فإنه حين يناهز العاشرة تنهار ثقته ويتحطم حافزه ويأخذ في التطابق مع الفشل" هذا الكلام الخطير يعني أن أطفالنا بعد سن العاشرة ونظراً لواقع التعليم المضني يدخلون في منعطف خطير يفقدون فيه ما تبقى من ثقتهم وتحفزهم وإبداعاتهم، ويجعلهم يقعون في سلسلة من الفشل المتتالي الذي يؤثر دون شك على مستقبلهم بمنحنياته المختلفة، ولعل نظرة إلى الواقع المَعيش تنبؤنا إلى صدق ما قيل، فأبناؤنا صاروا اليوم يكرهون التعليم أكثر من أي وقت مضى، ويتمنون أن تكون المدارس مغلقة ولو طوال العام، ويستغلون أية حوادث يمكن أن تطرأ نتيجة لحالة البلد السياسية في الهروب من المدارس، فكما أن الدكتور طارق السويدان يقول: " أنظمة التعليم علمتنا ألا نبدع " فأنظمة التعليم كذلك علمت أبناءنا سرعة الهرب من المدارس و ( النفشة ) والتسكع في الطرقات .
بعد القرن الثامن عشر الميلادي استمرت تلك الدعوات وتجددت في عصرنا الحديث على يد عالم يُدعى ( إيفان إيليش ) الذي دعا في كتابه الشهير ( مجتمعات بلا مدارس ) إلى الخروج من المدارس وإلغائها كلياً، وتخليص المجتمعات البشرية من المدارس لأسباب عدة أهمها؛ أن التأثيرات السلبية للمدارس التقليدية التلقينية تحد من قدرات الفرد وإمكانياته الإبداعية، وقال إيليش بأن النابغين في التعليم " يأتي نبوغهم على رغمٍ من المدراس لا بسببها " .
ومع أن هذه الآراء ربما يستغربها الكثير من الناس الذين يرون المدرسة مرحلة هامة من مراحل الحياة التعليمية التي يمر بها الإنسان المكتمل اجتماعياً، لكن يمكن لنا أن نتبين من خلالها بعض الحقائق الهامة ومنها التأثير السلبي للمدارس، خاصة تلك المدارس التي تنتهج في مناهجها الدراسية سياسة التلقين وهي بالطبع أكثر المدارس انتشاراً في العالم وبالأخص في العالم الثالث بما فيه عالمنا العربي وإن بدت متفاوتة من بلد إلى آخر.
على أية حال هناك بعض الدراسات التي تشير بل وتثبت أن الطفل مبدع بطبعه، وأن كلاً من المجتمع والمدرسة يتحملان المسئولية الكبرى في تقويض إبداعه، وهناك دراسة روسية حديثة تشير إلى أن ( جميع ) الأطفال لديهم ملكة الإبداع، وأن 90 % منهم يملكون إبداعاً خارقاً، كل ذلك حتى سن الخامسة، ثم تنخفض هذه النسبة على نحو متسارع حتى تصل إلى 10 % في سن السابعة، وما أن يصل الطفل إلى سن الثامنة حتى تنحدر موهبة الإبداع لديه إلى 2 % فقط . وهكذا نخسر نحن، ويخسر العالم طاقات إبداعية هائلة ربما كانت ستعود بالخير على الجميع ما لو تم استغلالها بالشكل الصحيح ونجت من عوامل الموت والاضمحلال.
وعلى كلٍّ فالمناهج في المدارس تهتم بتعليم التلاميذ ما قد أنتجه تفكير الآخرين، أكثر من أن يفكروا هم بأنفسهم، كما أن التعليم التلقيني التقليدي يحصر ويحد من مجالات تفكير الطفل ويجعلها سجينة بالحدود التي وضعها الكتاب المدرسي، فتنشأ في ذهن الطفل صورة مفادها أن هذه الحدود بمثابة الخطوط الحمراء التي يتوجب بل ويُحرم من التعدي عليها أو تجاوزها، وبهذه الطريقة المؤسفة يتلاشى ويتقلص خيال الطالب الذي يكون حينها طفلاً كالعجينة الطرية الغضة، وتضعف موهبته على الابتكار والتجديد والإبداع، فينمو ويتدرج من مرحلة إلى أخرى ( الطفولة المراهقة الشباب ) وهو على هذه الحال البائسة، يحيط به جليد الجمود الإبداعي والخيالي، كل ذلك بسبب حدود مصطنعة وهزيلة ذُبح عليها إبداع الطفل في مدارسنا، والأمر الأشد غرابة أن بعض الدراسات أشارت إلى أن معدلات الإبداع لدى أولئك الذين تخلفوا عن الدراسة تفوق أقرانهم ممن أتموا دراستهم، وذلك لأن الأخيرين حصروا فكرهم وجهدهم وتحصيلهم في مجال واحد ولم يتجاوزوه إلى غيره، بينما لم يفعل الأولون ذلك، بل انطلقوا وحلقوا في خيالاتهم الإبداعية والفكرية، وتحرروا من أغلب القيود التي فُرضت على من أتمّ دراسته في المدارس التقليدية التلقينية، وفي ذلك يصدق قول الكاتب ( آرثر غترمان ) : " الذي يتعلم بالبحث فإن مهارته تبلغ سبعة أضعاف من يتعلم بالأوامر " . ( كين روبنسون ) وهو استشاري كلّفَتْهُ الحكومة البريطانية عام 1997م بإجراء دراسة بحثية عن الإبداع والاقتصاد والتعليم، قال في كتابه ( صناعة العقل ) : " إن السبب الرئيس في هدر الطاقات أثناء فترة التعليم يكمن في العقلية الأكاديمية، التي تركّز على تطوير الإمكانات المتعلقة بنواحٍ علمية معينة دون غيرها، وربط مفهوم الذكاء بهذه المجالات حصراً، ما أدى إلى هدر كبير في المواهب والطاقات البشرية، وهذا ثمن باهظ لم يعد بالإمكان تحمله بعد الآن " . هذا الثمن الباهظ الذي لا يمكن تحمله الذي تحدث عنه المستشار( كين روبنسون ) ليس في دولنا النامية بل ما يعنيه أنه يحدث في بريطانيا الدولة العظمى، إذاً ماذا كان سيقول لو رأى ما ترزح به جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية من مناهج واهية ؟!، هل سيقول إن الثمن باهظ أيضاً، أم سيقول قولاً آخر من قبيل " أغلقوا هذه المدارس والجامعات بأسرع وقت ممكن فقد قضيتم على مستقبل أبنائكم بما يكفي " .
ربما يعترض معترض مستدلاً بالواقع المعيش، فيقول: أن الجامعات تعمل منذ سنين عديدة وبكل مقدرة وكفاءة على سد حاجة المجتمع من الكوادر والعقول المفكرة والأيدي العاملة بمختلف تخصصاتها، وقد ساهمت هذه المخرجات في تنمية المجتمع وازدهاره ورقيه وتطوره، على قدر الإمكانيات المتاحة ورغم التحديات الكثيرة المحيطة بواقعنا على العموم، فلماذا يأتي من يتشدق ويطالب بتغيير طرق التعليم ومفاهيمه ؟
والكلام في مجمله صحيح، فالقول أن الجامعات والمؤسسات التعليمية قد سدت حاجة المجتمع والسوق من الكوادر والأيدي العاملة قول لا غبار عليه على الإطلاق، لكن ليس بالطريقة التي نعتقدها. كيف ؟ سنوضح الأمر بالإحصائيات والدراسات التي تدلل أننا لم نكن نحن وحدنا الضحايا فحسب، بل إن الدول المتقدمة كانت كذلك واستشعرت حجم الخطر الذي تقع فيه وتسعى لحل المعضلة الموجودة .
فقد أثبتت الدراسات الأمريكية أن ( 80 % ) من خريجي الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية يعملون في مجالات لا علاقة لها بتخصصاتهم، وذلك بعد عشر سنوات من تخرجهم ". وهذا يعني أموراً خطيرة أهمها، أن ( 80 % ) من مخصصات التعليم العالي في أمريكا تذهب هدراً، وأن ( 80 % ) من الشباب الأمريكي لا يعرفون حقيقة مواهبهم الفطرية، فإذا كان هذا الأمر الخطير يحدث في بلد ( شديد التقدم ) كالولايات المتحدة الأمريكية، فما هي الحال بالنسبة لنا نحن في ( اليمن )، هذا البلد الذي لا يزال يرزح تحت آصار التخلف والفقر والجهل والمرض، ولعل الإجابة متروكة لمسئولينا الأفاضل والقائمين على التعليم، إن كان ما نسميه تعليماً وإلا فهو في الأصح ( سياسات تجهيل بعيدة المدى ). الجميع عرف الخلل، ولا يمكن أن ينكره إلا كل فاسد متغطرس، ولكن بالمقابل يتعامى الجميع عن وضع الحلول الناجعة، فهل نحسب أن الحل يكمن في تطوير التعليم، ستُفاجأون إن علمتم أن الإجابة بالنفي، ليس الحل في تطوير التعليم، إذن فما الحل ؟ . للتوضيح أكملوا قراءة الأسطر التالية بتمعن.
بنظرة فاحصة للواقع نجد أن شكاوى الشركات في تزايد من أن أنظمة التعليم لا تفي بمتطلباتها، وأن مخرجاتها لا تمتلك المهارات التي تتطلبها أساليب العمل الجديدة بسبب أن جامعاتنا تدرّس أشياء قد عفا عليها الزمن وتجاوزها العالم منذ سنين، والدارس مطلوب منه أن يستوعبها ثم يحفظها عن ظهر قلب، ثم يستفرغها في ورقة الامتحان .
ثبت في بريطانيا وغيرها من الدول أن تطوير التعليم ليس هو الحل، بل الحل يكمن في ( تغييره كلياً)، فالأسس التي تقوم عليها نُظُم التعليم نُظُم قاصرة المقصود هنا الدول المتقدمة فما بالك بحالنا نحن وأن هذه النُظُم وُضعت لعصر معين وظروف معينة، لذلك لا تستطيع هذه النظم أن تتجاوب مع التقدم العلمي والمعرفي، الذي أخذ ينمو بشكل متسارع بعد الحرب العالمية الثانية .
ولقد وَعَت الشركات هذه المعادلة جيداً، خاصة الشركات الكبرى، وتفهمت هذه الحقيقة على الواقع، ولم تجعل مستقبلها رهن مؤسسات التعليم، ولم يعد بإمكانها الانتظار لمزيد من الوقت أن تقوم الحكومات ومؤسسات التعليم بتلبية حاجاتها من الأيدي العاملة والعقول المبدعة والمفكرة، فأنشأت الشركات الكبرى جامعات خاصة بها، تمنح مخرجاتها درجات علمية تتوافق ومتطلباتها، وأول من بادر بهذه الخطوة الشجاعة والجريئة هي شركة ( موتورولا ) الأمريكية، ثم تبعتها بعد ذلك مئات الشركات حول العالم .
ومادام الحديث قد جرنا من مناهج المدارس النظامية التقليدية التلقينية التي تُفقد الطفل مواهبه وإبداعاته بالتدريج، إلى الحديث عن المخرجات الجامعية والدراسة الأكاديمية، فإن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الدراسة الأكاديمية يُنظر إليها على أنها مقتصرة على فئة محددة من الناس دون غيرها، نظراً لامتلاكها إمكانات معينة تحدد درجة ذكائهم، متجاهلين احتمال وجود إمكانات أخرى في مجالات مختلفة، قد لا تقل أهمية عن مجال الدراسة الأكاديمية. وإذا كنا جادين فعلاً في محاولتنا تطوير واستغلال مصادر الطاقة البشرية، فعلينا أن ندرك حقيقة تنوع وتعدد أشكال هذه الطاقة وعدم حصرها على الأذكياء فقط أو ممن يملكون ملكات محددة، وبتقديري فإن هذا هو الطريق السليم الذي يتوجب أن نسلكه لكي نفجر الطاقات الإبداعية الكامنة وما أكثرها، خاصة إذا نظرنا إلى بيئتنا الحضرمية الغنية التي هي بالفعل بيئة خصبة وولّادة للكثير من الإبداعات والمواهب الناشئة التي نطالعها كل يوم، والتي رغم ما تمر به وتقاسيه من أنواع التضييق و شتى صنوف التجاهل والمضايقة والإهمال فإنها وبجهودها الفردية واعتماداً على النفس نراها تشق طريقها وتنحته على الصخر لتثبت ريادتها وتفردها، فكيف لو أن هذه المواهب والطاقات أتيحت لها الفرص الجيدة، ووُفّرت لها البيئة المناسبة، لا شك أنها ستنمو وستحقق الكثير والكثير من الإنجازات المحلية والإقليمية بل والعالمية أيضاً، وهذا ليس بغريب، وقد قال مبدعنا الكبير علي أحمد باكثير : " ولو ثقفت يوماً حضرمياً … لجاءك آية في النابغينا " .
بالعودة إلى الإحصائية السابقة نجد أن الحديث يتوافق معها، فهي تقول أن ( 80 % ) من خريجي الجامعات الأمريكية يعملون في مجالات غير محالات تخصصاتهم، فهؤلاء ال ( 80 % ) اكتشفوا بعد سنوات من تخرجهم ( تصل إلى عشر سنوات ) أن مجال دراستهم ليس المجال الحقيقي الذي خُلقوا من ليبدعوا فيه، وعرفوا أيضاً أنه إذا كان هناك ثمة نجاح لهم في هذه الحياة، فهو ليس بالتأكيد في المكان الذي يعملون فيه، بل في المكان الذي يحبون فعلاً أن يعملوا فيه .
وفي العالم العديد من الشخصيات المبدعة والعظيمة ربما كانت ضحية التعليم التلقيني قد ابتعد أصحابها عن مجالات تخصصاتهم، إلى مجالات أخرى لا علاقة لها بتخصصاتهم البتة، ليكتشفوا أنها ما يعشقون ويحبون، لكن بالمقابل قد خسروا سنوات طويلة من الدراسة والتحصيل في تخصصات لم يجدوا أنفسهم فيها أو يرغبونها، من هؤلاء ( مارجريت تاتشر ) أول رئيسة وزراء في تاريخ بريطانيا، وأحد أشهر السياسيين البريطانيين كانت صيدلانية، والأديب الكبير ( آرثر كونان ) مبتكر شخصية شارلوك هولمز، كان طبيباً، و ( مهاتير محمد ) رئيس وزراء ماليزيا السابق، ومن كان له الفضل العظيم بعد الله في انتشال ماليزيا من ظلام العالم الثالث إلى ركب النمور الآسيوية، لم يكن متخصصاً في السياسة ولا في العلوم السياسية ولا في الاقتصاد أو التجارة أو الإدارة بل كان طبيباً، والدكتور طارق السويدان الإداري المعروف والداعية المشهور والكاتب والمفكر عرفناه كذلك ولم نعرفه مهندساً للنفط كما هو تخصصه، أما المهندس الميكانيكي ( لي أيكوكا ) الذي كان يتقاضى أضخم راتب في أمريكا ليس لكونه مهندساً ميكانيكياً بل لكونه نابغة في مجال التسويق. فكل تلك النماذج وغيرها الكثير والكثير تدل دلالة قاطعة على أن تعليمنا لا يوجه المرء تجاه ما يريده وما يرغبه وما يحبه من تخصص، بل ربما كان التعليم هو المتسبب حينها في تخبط الشخص في حياته حتى يتبين وجهته الصحيحة الذي لم يكن للتعليم أي دور في صناعتها.
إذن .. لماذا انخرط هؤلاء وينخرط غيرهم في تخصصات غير تخصصاتهم ؟، ولماذا ضيعوا عدة سنوات غالية من أعمارهم في دراسة علوم تبين لهم في نهاية المطاف عدم الاستفادة منها في حياتهم العملية ؟
إن السبب هو أن الشخص يريد أن يُرضي من حوله ويتجاهل رغباته وحاجاته، فهو يضع رغباته وعقله وقدراته رهناً للمجتمع الذي يعيش فيه، ويهمل أو يترك ما يريده هو، أو ما يمكن أن يتميز فيه أو يبدع من خلاله، لذلك سلكوا الطريق الذي اختطه لهم غيرهم، ولم يرسموه بأنفسهم غير مكترثين ولا عابئين بمدى تناسبهم أو توافقهم معه .
قد يكون التخصص بالفعل قوياً ومشرّفاً، فعند ملاحظة تخصصات المذكورين آنفاً نجد أن تخصصاتهم كانت هامة وقوية، فتاتشر كانت صيدلانية، ودويل ومهاتير محمد كانا طبيبين، وإيكوكا وطارق السويدان كانا مهندسين، ويبدوا أن الذي حدث معهم هو ما يمارسه الكثير من الآباء وأولياء الأمور مع أبنائهم، فعندما نريد أن نشيد بطفل نناديه " يا دكتور " أو "يا مهندس" حسب تفوقه الدراسي، فإذا حصل مستقبلاً على نسبة عالية بدأنا بزرع القيم الخاطئة فيه، فيتولد لديه شعور أن النجاح الكبير هو في أن تكون طبيباً أو مهندساً أو غيره، وأن الفشل أو تخصصات الفاشلين هو رفيق ما سواها من تخصصات، وربما تعدى هذا المفهوم الخاطئ إطار الأسرة إلى المؤسسات المجتمع والمؤسسات التعليمية التي تسارع إلى تكريم المتفوقين دراسياً ويطلقون عليهم عن خطأ أو عن حُسن نية صفة " الموهوبين "، في حين يتم تهميش بقية الطلاب على أساس أنهم غير موهوبين، أو لا يملكون الموهبة الكافية التي تؤهلهم للتكريم والإشادة، يقول كين روبنسون : " إن عملية رفع المستويات الدراسية في المدارس والجامعات لا يمكن أن يحل المشاكل التي نواجهها، بل على العكس فهي قد تؤدي إلى زيادة تعقيدها، لهذا علينا أن نعيد تقييم الأمور بشكل جديد، بحيث نفهم المعنى الحقيقي للذكاء والإمكانيات البشرية، وأن نكوّن مفهوماً جدياً عن الإبداع، فالفكر البشري أغنى وأكثر قدرة ونشاطاً مما جعلتنا أنظمة التعليم نعتقد "، ويقول في موضع آخر : " نحن جميعاً نمتلك إمكانات وطاقات نظرية، ولكن بشكل يختلف من شخص لآخر، ولا يوجد أشخاص أذكياء وآخرون غير أذكياء، بل تختلف أشكال هذا الذكاء ومجالاته باختلاف الأشخاص وقدراتهم" .
ومن المعلوم أن تسمية المتفوقين دراسياً ب " الموهوبين" هو خطأ جسيم، لأن التفوق الدراسي في مؤسساتنا التعليمية عند التمعن في كنهه وتحليله نجده تفوق بالحفظ وقوة الذاكرة، وليس تفوقاً بالملكات العقلية والإبداعية، والتاريخ يعجُّ بقصص العلماء والمخترعين والمفكرين والعظماء الذين كانوا على موعد مع الفشل في مسيرتهم الدراسية، وكان ماضيهم الدراسي يشوبه الفشل الكبير، ف ( أينشتاين ) الرياضي والفيزيائي الكبير ( صاحب النظرية النسبية ) كان يأتي دائماً في مؤخرة الناجحين في الرياضيات والعلوم، ويُذكر انه رسب في مادة الرياضيات ثلاث سنوات، واعتبره المدرسون بطيء التعلم، كذلك العالم ( داروين ) كان يهرب من المدرسة ليتسلق الأشجار ويراقب قوافل النمل، أما ( لويس باستير ) مخترع طريقة البسترة ومكتشف الجراثيم فكان كثير الشرود والسرحان إلى درجة صُنّف معها على أنه مريض بالذهان، و( أديسون ) مخترع المصباح الكهربائي اعتبر غير قابل للتعلم، ويُذكر أن ( نيوتن ) تم طرده من المدرسة فلجأ حزيناً تحت الشجرة التي سقطت منها التفاحة الشهيرة التي كان تساؤله حول سقوطها إيذاناً ببدء فصل جديد من فصول تقدم الحضارة الإنسانية، وفي هذا الجانب تُذكر طرفة عن عجز العرب وتخلفهم وغلقهم لعقولهم، مفادها أن نيوتن لو كان شخصاً عربياً وسقطت بجانبه التفاحة، لاعتبر ذلك رزقاً سقط عليه وأكل التفاحة ثم أكمل نومه تحت تلك الشجرة بكل بساطة دون أن يحدث شيء.
ورغم حساسية الأمر على مستقبل الأبناء فإن المجتمع لم يتوقف في تدخله في خيارات أبنائه خلال مرحلة الطفولة فحسب، بل تعداه إلى مرحلة الشباب، فالشاب المتخرّج من الثانوية العامة بنسبة مرتفعة تنهال عليه الطلبات والتمنيات من كل أو معظم أفراد المجتمع بأن يتقدم لكليات الطب أو الهندسة دون مراعاة لشعورهم الداخلي الذي لم تؤثر فيه رغبات المجتمع وآرؤه، ودون أن يستجيبوا هم للصوت الذي يصرخ بداخلهم المغاير لرغبات المجتمع، فنجد المئات ممن يدخلون تلك الكليات يعانون دوماً من الصراع بين رغباتهم ورغبات المجتمع التي ينقادون لها، في حين تمتلئ الكليات الأخرى بأعداد هائلة من الطلاب الذين تتوق أنفسهم لدخول كليات الطب أو الهندسة لكنهم لا يستطيعون ذلك بحكم معدلاتهم التي لم ترقَ إلى النسبة المطلوبة لدخول الكليات المذكورة، أو لم تكن لهم الواسطة المناسبة التي تمكنهم من تحقيق تلك الأمنيات، وعلى هذا يمكن أن نجد في الكليات التي تقبل الطلاب بنسب أقل؛ طلاباً كانوا من الناحية الواقعية لا المزيفة هم الأولى من غيرهم بدخول الكليات القوية كالطب والهندسة .
على أن ذلك لا يعني إطلاقاً أن من ضمن منتسبي تلك الكليات من لا يخلو من الطموح ولديه الأهلية الكاملة للدراسة فيها، لكن المشكلة أنهم قلة وهذه القلة هي التي تقدم الإبداعات والأفكار المتطورة التي تتجاوز مسمى وظائفهم، بينما يمسي الآخرون عالة على وظائفهم ولا يقدمون أية إبداعات تُذكر، ولا يضيفون على مسمى وظائفهم شيئاً ذا قيمة، هذا إذا لم يتضرر المجتمع جراء جهلهم في تخصصاتهم، وهو ما يعانيه المجتمع جرّاء الكثير من الأخطاء الطبية التي تؤدي إلى الموت، أو على أقل الأحوال البقاء بعاهة طوال العمر، فيما يخص تخصص الطب .
بهذه الصورة المبسّطة يكون القارئ الكريم قد أخذ لمحة سريعة عن أهمية الإبداع وضرورة إعادة النظر في مناهجنا وسياساتنا التعليمية التي نمارسها، والتي أثبتت التجارب فشل هذه السياسات الذريع، وخطرها على التفكير والإبداع، وقد أثمرت النداءات المتزايدة في بعض دول العالم إلى ظهور المدارس والجامعات التي تعتمد على تطوير القدرات الإبداعية التي يتميز بها كل طالب عن غيره من الطلاب، دون خضوعه لمنهج صارم يعيقه عن إطلاق قدراته الإبداعية الكامنة، ومن هذه الجامعات جامعة ( ستراثكلايد ) التي قدمت تجربة ( المركز التعليمي ) والذي يمكن أن يلتحق به الطالب الجامعي متى شاء، بدلاً من تقديم برامج في المهارات الدراسية التلقينية، وكذلك جامعة ( بيتسبيرج ) التي قدمت تجربة ( التعلم الذاتي ) وهي تجربة تقوم على المجموعات الصغيرة، بحيث يشرف الأستاذ المرشد على برنامج دراسي معين يدرسه مع طلابه، بحيث يلعب الأستاذ المرشد دور قائد المجموعة الصغيرة التي تعتبر كفريق متكاتف يساند بعضه بعضاً في عملية التعلّم. وقد طبقت بعض الدول برامج دراسية هدفها اكتشاف مواهب الطلاب في المدارس ومن ثم تطويرها واستغلالها الاستغلال الأمثل، كما أن فنزويلا أنشأت وزارة كاملة سمتها ب ( وزارة الذكاء ) من أجل هذا الهدف، كما طبقت هذه البرامج مدارس النخبة الموهوبة والمدارس العامة في جنوب أفريقيا .
ومن الممكن أن تُعتبر هذه النماذج صعبة التطبيق ومكلفة مادياً، إلا أن الإيمان بالحقيقة المؤلمة وهي أن عدم تطبيق تلك النماذج على مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية والتربوية سيكون أكثر كلفة وخسارة على المدى الطويل، فهل نستيقظ يوماً لنرى تعليمنا في اليمن تعليماً حقيقياً يحيي المواهب والإبداعات ويفجر الطاقات ؟ نأمل ذلك قريباً بإذن الله .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.