توقف المراقبون في عموم العالم العربي أمام التطوّرات المستجدة في اليمن، والتي بَدتْ في أعين البعض منهم كما لو أنها حالة سريالية مُستعصية على الفهم والاستيعاب، لكن هذه الحالة وإن بدت بذلك القدر المشوب بالغموض عند المراقبين؛ إلا أنها عند العليمين بتاريخ وجغرافيا اليمن ليست سوى إعادة إنتاج ملهاوي لتاريخ طالما تقدَّم على خُطى التناسخ الأكروباتي لثقافة الكر والفر، بقدر ثقافة التعايش والتكامل. فاليمن التاريخي كان مستودعاً أفقياً لفرق الكلام بتنوّعها، وكانت الخلافات بين تلك الفرق واجتهاداتهم المتنوّعة إلى حد التناقض تُحل عبر السمات الخاصة للتعايش والتسامح والقبول بفكرتي النصر والهزيمة، بوصفهما تُرجماناً لحقيقة موضوعية. ومن هنا يمكن الإشارة إلى أن المُغالبة الميدانية التي جرت بالأمس القريب انطوت في تضاعيف بيانها عن معادلتي الأمر الواقع المقرون بالضرورة؛ ذلك أن انهيار النظام السياسي في اليمن بدأ منذ أمد بعيد، بل بدأ منذ أن تحوّلت الجمهوريتان السابقتان على الوحدة إلى شكل من أشكال الإقامة في الماضي السلبي. والشاهد على ذلك التاريخ الصعب لجمهوريتي الشمال والجنوب السابقتين على وحدة مايو المخاتلة، إنهما أعادا إنتاج صراع النموذجين العائمين في فراغ الديماغوجية السياسية، ليقع الجميع في حرب النموذجين، ولتتوّج معادلة المتاهة بشطب النموذج الجنوبي بإيجابياته وسلبياته، والبقاء على الأوتوقراطية الناعمة لجمهورية صالح العتيدة؛ قريبة الشبه بجمهوريات الموز الفاسدة في أمريكا اللاتينية، وقد نالت المؤسسة العسكرية اليمنية النصيب الأوفر من ذلك الفساد السرطاني. وهو الأمر الذي يفسّر لنا الانهيار الدراماتيكي لهذه المؤسّسة الكبيرة التي تضم ما لا يقل عن نصف مليون فرد مُدجّجين بكل أنواع الأسلحة، وخارجين من رحم الأكاديميات العسكرية المهنية، فيما ينتصب قادة الألوية والمعسكرات في صورة المتخمين المهمومين باستثماراتهم المالية الناجمة عن رواتب المجنّدين الوهميين، وغيرها من أموال قذرة..!!.