السلطة المحلية بحضرموت تعلن تأييد قرارات الرئيس وتدعو إلى الالتفاف حول القيادة الشرعية    مجلس الدفاع الوطني يبارك القرارات الرئاسية لحماية المدنيين وإنهاء التواجد الاماراتي في البلاد    الخارجية السعودية: الإمارات ضغطت على الانتقالي للتصعيد على حدود المملكة    قيادي في الانتقالي يتهم السعودية بالاعتداء على حضرموت ويصفه بالانتهاك الصارخ للقانون الدولي    مصادر: استئناف الأنشطة الملاحية في ميناء المكلا عقب تعرضه لضربات جوية    مكون الحراك الجنوبي يعلن تأييده لبيان قائد الثورة بشأن الصومال    اتفاق الأسرى.. وخطورة المرحلة    أمريكا تزود الكيان بصفقة طائرات (اف 35)    انخفاض للحرارة الى مستوى الصفر    تأهل 14 منتخبا إلى ثمن نهائي أمم أفريقيا.. ووداع 6    الطيران السعودي ينفذ ضربة جوية في ميناء المكلا    عدوان سعودي بغارات جوية على ميناء المكلا (تفاصيل الضربة)    نائب وزير الثقافة يزور الفنان محمد مقبل والمنشد محمد الحلبي    الصحة: العدوان استهدف 542 منشأة صحية وحرم 20 مليون يمني من الرعاية الطبية    الصحفي والأكاديمي القدير الدكتور عبد الملك الدناني    سفر الروح    بيان صادر عن الشبكة المدنية حول التقارير والادعاءات المتعلقة بالأوضاع في محافظتي حضرموت والمهرة    صنعاء: الاعلان عن موعد بدء صرف مرتبات نوفمبر 2025    صنعاء.. الحكومة تدرس مشروع برنامج استبدال سيارات المحروقات بالسيارات الكهربائية    فريق السد مأرب يفلت من شبح الهبوط وأهلي تعز يزاحم على صدارة تجمع أبين    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل في وزارتي الشؤون الاجتماعية والعمل والخدمة المدنية والتأمينات    أذربيجان تؤكد دعمها لوحدة اليمن وسيادته وسلامة أراضيه    النفط يرتفع في التعاملات المبكرة وبرنت يسجل 61.21 دولار للبرميل    التحالف الإسلامي ينظم دورة حول القانون الدولي الإنساني وعلاقته بمحاربة الإرهاب    لملس يناقش أوضاع المياه والصرف الصحي ويطّلع على سير العمل في المشروع الاستراتيجي لخزان الضخ    إيران والسعودية تتباحثان حول اليمن ولبنان وتعزيز التعاون الإقليمي    لقاء تشاوري بوزارة الاقتصاد حول تعديل قانون مهنة تدقيق ومراجعة الحسابات    صنعاء تحتضن أول بطولة لكرة القدم لمبتوري الأطراف من جرحى الحرب    لوحات طلابية تجسد فلسطين واليمن في المعرض التشكيلي الرابع    الصين تدعو إلى التمسك بسيادة اليمن ووحدة وسلامة أراضيه    تحذير أمريكي: تحولات شرق اليمن تهدد التهدئة وتفتح الباب لصراع إقليمي    الأرصاد يتوقع حدوث الصقيع على أجزاء محدودة من المرتفعات    إدارة أمن عدن تكشف حقيقة قضية الفتاة أبرار رضوان وتفند شائعات الاختطاف    قراءة تحليلية لنص "من بوحي لهيفاء" ل"أحمد سيف حاشد"    صنعاء.. البنك المركزي يوقف التعامل مع خمس كيانات مصرفية    بسبب جنى الأرباح.. هبوط جماعي لأسعار المعادن    المنتخبات المتأهلة إلى ثمن نهائي كأس الأمم الأفريقية 2025    وزارة الصحة: العدوان استهدف 542 منشأة صحية وحرم 20 مليون يمني من الرعاية الطبية    الإفراج عن 108 سجناء من الحديدة بمناسبة جمعة رجب    حمداً لله على السلامة    خلال تدشينه مشروع التحول الإلكتروني لصندوق التقاعد الأمني .. اللواء المرتضى: المتقاعدون يستحقون الاهتمام فقد أفنوا سنوات طويلة في خدمة الوطن    إيمان الهوية وهوية الإيمان    تكريم البروفيسور محمد الشرجبي في ختام المؤتمر العالمي الرابع عشر لجراحة التجميل بموسكو    مرض الفشل الكلوي (34)    الهوية والوعي في مواجهة الاستكبار    حين يكون الإيمان هوية يكون اليمن نموذجا    المكلا حضرموت ينفرد بصدارة المجموعة الثالثة بدوري الدرجة الثانية لكرة القدم    فلسطين الوطن البشارة    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    محمد صلاح يواصل تحطيم الأرقام القياسية في «كأس أمم إفريقيا»    ضربة بداية منافسات بطولة كأس العالم للشطرنج السريع والخاطف قطر 2025    اتحاد حضرموت بحافظ على صدارة المجموعة الثانية بدوري الدرجة الثانية    العطاس: نخب اليمن واللطميات المبالغ فيها بشأن حضرموت"    الكشف عن عدد باصات النساء في صنعاء    الكتابُ.. ذلكَ المجهول    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخميسات وقهقهات بحر الظلمات على اسوار رباط الفتح
نشر في هنا حضرموت يوم 26 - 09 - 2014

دقائق معدودة وقليلة هي التي ظلت فيها الحافلة واقفة في محطة مكناس، ثم تحركت في طريقها صوب الرباط والدار البيضاء . ولم يعد الطفل المشاغب الى مقعده بجواري , بل ولم يظهر اثر له ولا لاسرته . وظل المقعد المجاور لي فارغاً لم يجلس فيه أحد . فحمدت الله على ذلك حتى اخلو الى نفسي وافكر فيما حولي واتأمل بعمق ما اراه امامي من عمران ومن مظاهر الطبيعة الخلابة . وتركنا خلفنا مكناس وبكل ماحوته من طرائف ولطائف وسحر وجمال طبيعي أخاذ . والمحطة القادمة هي بلدة الخميسات والتي لاتبعد سوى 60 كيلو متراً غربي مكناس كالمسافة بين الشحر والمكلا , اي حوالي ساعة زمن . والخميسات هذه هي من مدن الطريق التي ازدهرت مؤخراً , كما انها ليست بعيدة عن الرباط بأكثر من 87 كيلومتراً . وهذا يجعلها في منتصف الطريق بين الرباط العاصمة السياسية والادارية ومكناس العاصمة الزراعية والفلاحية ان صح التعبير .
ووصلنا الى بلدة الخميسات فوجدتها ذات نشأة حديثة بوجه عام . ووقفت الحافلة على محطة مخصصة لها على الطريق. ونبهنا السائق بأنه سيتوقف ربع ساعة فقط . وكان الوقت في حدود الرابعة والنصف عصراً ولاتزال الشمس ساطعة والجو يشوبه شيء من الدفء رغم شتاء ديسمبر القارس البرودة في هذه المناطق . وشاهدت امامي من النافذة مسجداً فسيح المساحة وحسن الصنعة وبهي الطلعة كما يقال , فنزلت مع جمع من الركاب الى هذا المسجد للصلاة جمعاً للظهر والعصر . وعندما عدنا الى الحافلة كانت الربع ساعة قد انقضت فتحركنا صوب الرباط .
وبلدة الخميسات كان يسكنها عند زيارتنا لها (1981) حوالي 30 ألف نسمة . اما اليوم (2004) فقد بلغ عدد سكانها حوالي 100 ألف نسمة . ولاشك ان الزيادة في عدد سكانها قد اتت من خلال موقعها المتوسط بين كل من الرباط ومكناس بل وفاس. وهي تستفيد من حركة النزوح والهجرة الداخلية المسنمرة بين المناطق الريفية المحيطة بمكناس ومناطق القوة الاقتصادية والادارية على ساحل الاطلنطي. وخلال حركة النزوح هذه يستقر في الخميسات بعض هؤلاء المهاجرين. كما ان مدينة الخميسات هي عاصمة لاقليم الخميسات والذي يضم حوالي نصف مليون نسمة، وهو ثاني اقليم بالجهة الادارية المسماة( جهة الرباط سلا – زمور – زعير). وهذه الجهة الادارية تحوي اقليمين هي الخميسات والصخيرات تمارة وتحوي عمالتين هما الرباط وسلا.
ورغم ان نشأة الخميسات كانت حديثة نسبياً، اي في منتصف ثلاثينات القرن العشرين المنصرم الا ان المناطق المجاورة لها قد شهدت استيطاناً بشرياً يعود الى آلاف السنين. وقد وجد في احدى المغارات القريبة من الخمسيات وتسمى (مغارة ايفري عمرو موسى) هياكل عظمية بشرية تعود الى عام 2500 قبل الميلاد، كما وجد بها ادوات مصنوعة من الفخار ومن عظام حيوانات لم يعد لها وجود في شمال افريقيا، كما توجد بهذه المغارة ادوات معدنية نحاسية وابر ذات ثقوب مصنوعة من عظام الحيوانات تستخدم في اغراض عدة ومنها الزينة.
وبدأ الاستيطان الحديث للخميسات في عام 1935م حين اقامت السلطة الفرنسية انذآك معسكراً فيها لتهيئة الجنود المغاربة وارسالهم الى جبهة الحرب العالمية الثانية والتي بدأت نذرها تلوح في الافق حينها. واغلب هؤلاء الجنود كانوا من الامازيغ وهم سكان المنطقة الاصليين وينتمون الى قبائل زمور وزيان، ثم استقر بها فيما بعد قبائل زعير وبني احسن وهم من بني معقل العربية والمنحدرة من شرق الجزيرة العربية.
وقد بادر السكان المسلمون في الخميسات ومنذ تأسيسها الى بناء مسجد سمي بالمسجد العتيق من خلال اكتتاب ومساهمة مالية من سكان المنطقة آنذاك وبمشاركة وجهاء قبائل زمور و زعير، وكذلك من بعض اوقاف الملك المغربي الراحل محمد الخامس. وقد اثار بناء هذا المسجد في الخميسات غيظ وحقد الفرنسيين آنذاك فشرعوا في بناء كنيسة في وسط المدينة باسم (كنيسة القديسة تريزا)، فثارت جموع المسلمين في الخميسات ضد هذه السياسية الفرنسية المستفزة لدينهم. وقامت اول مظاهرة كبرى فيها في 22 اكتوبر 1937، بل اعتبرت من اولى المظاهرات الشعبية المغربية ضد السياسة الفرنسية. ولا تزال هذه الكنيسة قائمة الى اليوم في الخميسات. ولكن ازداد عدد المساجد فيها، وبعضها صارت له شهرة ملحوظة في المحيط الجغرافي المجاور للخميسات ومنها مسجد البراق. وهو جامع كبير بوسط المدينة ويحرص اهل الخميسات والمناطق المجاورة لها على الصلاة فيه خلال شهر رمضان المبارك وكذلك خلال المناسبات الدينية المعروفة.
ومن الآثار الباقية والمهمة في منطقة الخميسات بقايا حطام قنطرة سميت (قنطرة الديك). وهي مقامة على ضفتي وادي بهت. وكانت تربط الخميسات بمكناس وقد بنيت في عهد السعديين، ثم تحطمت هذه القنطرة وبقي حطامها , فكانت الديكة تصيح وهي تقفز من بين هذه الحطام للعبور الى الضفة الاخرى من الوادي . وبجوار بقايا هذه القنطرة توجد دار اثرية تسمى ( دار أم السلطان ) واسمها ( لا لا مسعودة ) , وهي ام السلطان منصور الذهبي السعدي , ويقال انها صاحبة فضل ومشاريع خيرية وعمرانية على هذه المنطقة . وخارج المدينة توجد بحيرة للمياة العذبة تسمى ( ضاية الرومي ) تعيش حولها مجموعة من الطيور والحيوانات ويستفاد من مياهها في ري المزروعات .
ورغم ان بلدة الخميسات لاتتمتع بمقومات اقتصادية ثابتة وحسنة , وليس بها مصانع حديثة الا ان بها معامل اهلية تقوم بانتاج افضل انواع السجاد في المغرب والمسمى هناك الزرابي . وبها سوق اسبوعي كل يوم ثلاثاء للزرابي هذه , كما انها ناشطة في المجال التعليمي وبها اكثر من 173 مؤسسة تعليمية مابين مدرسة ومعهد . وكذلك بها اربع جمعيات للتنمية المحلية والحفاظ على البيئة والعناية بالشباب والمرأة الريفية والطفولة . وهي ضمن منظمات المجتمع المدني وهذه الجمعيات هي ( جمعية ثيميزار للتنمية والثقافة ) وهي مهتمة بتطوير وتنمية اللغة والهوية الامازيغية ثم ( جمعية بسمة أمل للتنمية الاجتماعية ) و ( جمعية التنمية والبيئة ) و(جمعية جذور للتنمية والمواطنة ) والتي تهدف الى ازالة مشكلات التهميش والاقصاء والفقر والنهوض بالمرأة الريفية المغربية . وينتظم بالخميسات مهرجان سنوي للفرسان والخيول يسمى ( آيت يدين للفرسان ) .
ولعله من المفيد الاشارة الى ان دار ابي رقراق للطباعة والنشر بالرباط قد اصدرت في عام 2012م كتاباً للدكتور المغربي مولود عشاق تحت عنوان ( مدخل الى تاريخ مدينة الخميسات 1911-1956 ) وضمن سلسلة دراسات مونوجرافية ( جغرافية وتاريخية واجتماعية ) وفيه الكثير من المعلومات المفيدة للباحثين والقراء .
ودخلت الحافلة الى سلا والتي يعتبرها البعض ضاحية شمالية لمدينة الرباط . وقد اوشكت شمس العصاري على المغيب وعبرنا على جسر مقام على نهر ابى رقراق . وترآى امامي سور مدينة الرباط المطل على الضفة الجنوبية لهذا النهر . وسارت الحافلة على الطريق الموازي لشرقي هذا السور، ثم اتجهت يميناً واصبحت بموازاة السور الجنوبي. وعلى مقربة من احدى بواباته وعلى مشارف ساحل المحيط الاطلس توقفت الحافلة في محطة مخصصة لها هناك لنزول وصعود ركاب.
ونظرت من النافذة فرأيت موجة عاتية من مياه المحيط الاطلس تصطدم بسور المدينة المطل على البحر ويتناثر رذاذها الابيض حول جدار هذا السوار. وفي تلك اللحظة كأنني سمعت قهقهات انبساط وفرح آتية من موج هذا البحر المحيط والذي كان يسمى عند العرب والقدماء (بحر الظلمات) لان ارتياده كان محفوفاً بالمخاطر. واستبشرت بما خيّل لي من قهقهات، وسادني فرح داخلي بان موج البحر يرحب بقدومي الى هذه الديار القصية عن بلادي وموطني ويخفف عني لوعة الشوق والاشتياق الى مكلانا الحبيبة وبعد طول غياب عنها حينها لسنوات عشر متصله كانت من اجل العلم والتعلم وقد اصبح البحر رفيقاً لي وصديقاً عزيزاً مؤنساً في كل ارض اطأها.
وكانت لحظات الهامية فريدة تلك التي غمرتني حينها. وتذكرت قولة قالها القائد العربي موسى بن نصير فاتح المغرب والاندلس مفادها لو انه يعلم ان وراء هذا البحر المحيط أرضاً لخاضه بخيله من اجل نشر دين الاسلام.
ولم تقف الحافلة في محطتها بمدينة الرباط سوى دقائق قليلة ثم واصلت سيرها الى الدار البيضاء. وقبل تحرك الحافلة صعد اليها ركاب، فاقتربت امرأة ترتدي الزي المغربي المعروف للمرأة ووجدت الكرسي المجاور لي خالياً فهمت بالجلوس عليه، ولكنها تراجعت بعد ان رأت الكرسي الذي خلفي والمجاور للنافذة خالياً هو الآخر فاستحسنت الجلوس عليه. وحسناً فعلت، فقد اقبل شاب طويل القامة في الثلاثينات من عمره، اي في مثل عمري آنذاك ومرتدياً الملابس العصرية من بنطلون وجاكيتة وخلافه. وألقى التحية ثم سألني ان كان المقعد المجاور لي خالياً، فأجبته بانه كذلك، فجلس عليه وقد عرف من حديثي القصير هذا انني لست مغربياً. وسألني بلغة عربية واضحة وبكلمتين فقط: من اين؟ فقلت له: من حضرموت ومن دولة تسمى اليمن الديمقراطية
فسكت برهة ثم قال : لدي بعض المعلومات العامة عن حضرموت هذه , ففيها كما اعلم قبر النبي هود عليه السلام . ولديكم مدينة دينية لها شهرة في التاريخ الاسلامي واسمها تريم . ونظامكم السياسي اشتراكي , بل انه ماركسي النزعة ويحظى بقبول في اوساط الماركيين والاشتراكيين المغاربة فقط . واضاف : وربما تعانون من هذا النظام لصرامته وشدته . وهي طبيعة استبدادية في مثل هذه الانظمة .
ويبدو ان الرجل مثقفاً بما يكفي وملماً الى حد ما باوضاع العرب والعالم . وكان يتكلم بصوت خفيض وبلغة عربية واضحة . وتركته يكمل مالديه . وسألته عن عمله فاجاب بانه استاذ فيزياء في احدى ثانويات الرباط , ثم سألني عن عملي فاخبرته بانني طالب دراسات عليا في الجغرافيا في تونس . واضفت : وقد اتيت الى المغرب براً من تونس والجزائر بقصد السياحة وانني في طريقي الى الدار البيضاء . فقال اهلاً وسهلاً بك في ارضنا المغربية وبين اخوتك المغاربة , ثم سألني : وكيف وجدت المغرب واهله ؟ فقلت على الفور : بلدة طيبة ورب غفور , فأبتسم لهذا الرد . وصمت برهة , فسألته بدوري : والى اين انت ذاهب ؟ فقال الى بن سليمان . فسألته : واين تقع بن سليمان هذه ؟ فاجاب : في منتصف الطريق بين الرباط والدار البيضاء . وعلمت فيما بعد انها مدينة صغيرة تقع على مسافة 65 كيلومتر الى الجنوب الشرقي من الرباط .
وخلال حواري مع هذا الشاب المغربي والذي عرفني طواعية باسمه وعنوانه فأضطررت ان اعرفه باسمي وعنواني . وعرفت منه انه امازيغي الاصل من منطقة بركان القريبة من مدينة مليلية المحتلة من قبل اسبانيا وان اسم عائلته هو البركاني , وهو يقيم حالياً مع اسرته في الرباط , فأخبرته بدوري ان في الجمهورية العربية اليمنية (حينها) عائلة تسمى البركاني , وان في تعز بجنوب صنعاء لوكاندة بمنطقة باب موسى بهذه المدينة للنوم تسمى لوكاندة البركاني وقد اضطررت للمبيت فيها ليلة عند زيارتي لتعز في صيف عام 1977 م , ولم يكن يوجد بتعز في ذلك الوقت فنادق رخيصة للطلاب والشباب . وكانت هذه المعلومات التي اقدمها للبركاني المغربي طريفة وجديدة , فوجدته ينصت اليها بعناية وحرص .
ووصلنا الى مدينة المحمدية اي على بعد حوالي 60 كيلو متراً جنوب الرباط . ووقفت الحافلة في المحطة المخصصة لها خارج المدينة . ونهض رفيقي البركاني المغربي وودعني بحرارة وانطلق الى حال سبيله , وكما اخبرني فأنه سيركب حافلة اخرى من المحمدية الى بن سليمان حيث مقصده . ولم تمكث الحافلة في محطة المحمدية سوى دقائق قليلة ثم انطلقت الى الدار البيضاء وقد اصبحنا على مسافة 30 كيلومتراً منها . وتركنا خلفنا مدينة الرباط عاصمة المملكة المغربية منذ عام 1957م , وان كانت في فترات سابقة عاصمة لدول مغربية اخرى سادت ثم بادت ومنها دولة الموحدين من عام 1150م الى عام 1269م , اي على مدى حوالي قرن وعقدين من الزمن .
ويعود تاريخ الاستيطان البشري في المنطقة المحيطة بالرباط الى حوالي اربعة الاف سنة مضت , حيث عثر في احدى المغارات بجنوب الرباط وتسمى مغارة دار السلطان وكذلك في موقع الروازي بالصخيرات الواقعة على بعد 25 كيلو متراً بجنوب الرباط على جماجم وهياكل عظيمة لانسان العصر الحجري . اما ظهور مدينة الرباط كمستوطنة بشرية هامة ومن ثم عاصمة للمغرب الاقصى فقد تم على يد عبدالمؤمن بن علي خليفة بن تومرت الموحدي الصنهاجي الامازيغي , والذي بني على الضفة اليسرى ( الجنوبية ) من نهر ابي رقراق وقريباً من مصبه على ساحل الاطلسي رباطاً اسماه ( رباط الفتح ) وذلك عام 1150م . وجعل من هذا الرباط مقراً لحكم دولته التي امتدت في زمنه من ساحل المحيط الاطلسي الى طرابلس ليبيا وشملت اراضي المغرب والجزائر وتونس . وكان رباط الفتح هذا نواة لمدينة حصينة تطل على مصب نهر وساحل بحر . وقد بنى فيها عبدالمؤمن هذا قلعة ومسجداً وداراً للحكم واحاطها بسور عليه ابراج وبوابات . وهناك من يرى ان تأسيس هذا الرباط قد بدأ فعلياً في عهد المرابطين الذين سبقوا الموحدين في حكم المغرب . وقد جعل المرابطون هذا الرباط مكاناً محصناً لتجمع المجاهدين المنطلقين لفتح الاندلس ولصد هجمات الاسبان والفرنجة عن الديار الاسلامية في المغرب الاقصى .
ورغم ذلك فانه ينسب الى عبدالمؤمن الموحدي وحفيده يعقوب المنصور الدور الريادي في تأسيس مدينة الرباط , وخصوصاً من حيث استكمال بناء السور واحاطته بالمدينة مع بواباته الضخمة وابراجه المحصنة , وكذلك العديد من المساجد ومنها مسجد حسان , والذي يعد من اقدم مساجد الرباط . اما عن الابواب والابراج التي شيدها الموحدون في سور الرباط فأهمها باب الحد وباب العلو وباب الرواح وباب زعير ثم باب الاوداية فيما بعد , بالاضافة الى 74 برجاً على هذا السور لحماية المدينة واهلها .
وكان لبني مرين الذين اتوا على حكم المغرب بعد الموحدين دوراً في بناء الرباط . وتم ذلك على يد السلطان المريني ابو يوسف يعقوب حيث بنى في منطقة سلا اي في الضفة الشمالية من نهر ابي رقراق والمقابلة للرباط في عام 1284م مسجداً ومقبرة تعرف اليوم بالمقبرة المرينية . ودفن بها بعض سلاطين بني مرين . وفي عام 1339م اقام المرينيون سوراً خماسي الاضلاع حول هذه المقبرة المرينية وذلك المسجد في سلا, والتي كانت منطقه مهجورة في ذلك الزمان وكانت تسمى حينها (سالة). ويقال ان اصل الاسم هو تسلا وهي كلمة امازيغية تعني المرتفع من الارض. وربما يعني ذلك ان الامازيغ قد عرفوا منطقة سلا هذه في عصور غابرة.
ومع هجرة مسلمي الاندلس الى الديار المغربية وصلت في عام 1339م الى الرباط المجموعات الاولى من هؤلاء المهاجرين اما آخر المجموعات منهم فقد وصلت الى الرباط عام 1609م. واغلب هؤلاء المهاجرين كانوا من مدينة بلنسية الواقعة جنوب مدينة برشلونة. وقد عرف هؤلاء باسم (الموريسكيين) واستقروا عند باب الاوداية في شمال سور الرباط المطل على نهر ابي رقراق. وقد ازداد نشاط هؤلاء الموريسكيين حتى انهم انشأوا (دويلة ابي رقراق) بضم ضفتي هذا النهر في كل من الرباط وسلا. وكان لهؤلاء نشاط بحري ملحوظ لكونهم اتوا من مدينة ساحلية بالاندلس. غير ان الاسبان اطلقوا على الملاحين الموريسكيين مسمى (قراصنة سلا) تماماً كما كان الانجليز يطلقون على ملاحي القواسم في الخليج العربي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مسمى (قراصنة الخليج الفارسي)، وهي فرية استعمارية واكذوبة تاريخية الهدف منها تمكين الاجانب والغرباء من خيرات المنطقة على حساب اهلها. والمهم ان الموريسكيين كان لهم الدور البارز في عمران وتطوير وتنمية المغرب من حيث نمط العمران وتوسعه ومظاهر الحياة الاجتماعية من طبخ وازياء وعادات وتقاليد، وكذلك في المجالات الثقافية وفنون الغناء الجماعي والفردي ومنها ما يعرف بالموشحات الاندلسية وغناء المالوف وكذلك فنون المسرح والادب والمجالات العلمية والحياة الإدارية والاقتصادية وغيرها. ولازلت هذه المؤثرات المورسيكية في المغرب قائمة الى اليوم، وخاصة في منطقة قصبة الاوداية وغيرها منذ عهد السعديين والعلويين الذين اتوا من بعدهم.
ومن يبحث في كتب التاريخ الاندلسي، وخصوصاً في هجرة الموريسكيين هؤلاء من الاندلس الى المغرب يجد فصولاً دامية ومبكية ومحزنة وفيها من البشاعة والقسوة مما يندى له جبين الانسانية من حيث هول المعاناة والاستبداد والتعسف والظلم الذي مارسه الاسبان ضد مسلمي الاندلس منذ سقوط غرناطة عام 1492م وطيلة قرنين من الزمن. وهولايقل بشاعة ومأساوية عما لحق عرب فلسطين على ايدي الصهاينة. ومن ذلك ماذكره الاستاذ فهمي هويدي تحت عنوان (في بلاد الموريسيك: غرباء الاندلس) في العدد 228 من مجلة العربي (الكويتية) الصادرة في نوفمبر 1977. وكذلك ماذكره الاستاذ محمد عبدالله عنان في العدد 243 من مجلة العربي الصادرةفي فبراير1979م. وعلى اية حال فرب ضارة نافعة فقد كان لهؤلاء الموريسيكيين اثر ايجابي في تطور وتنمية المغرب الاقصى. وقد استفاد السعديون والعلويون من فنون وخبرة الموريسيكيين في بناء مجموعة من قصور الرباط القائمة الى اليوم، ومنها قصر الرشيدية والقصر الاميري بالاضافة الى الجامع العتيق. والمعروف ان قصبة الاوداية هذه قد ظهرت عام 1757م اي في عهد دولة العلويين وظلت مقراً للحكم حتى عام 1792. ويوجد بقصبة الاوداية متحفاً تعود مقتنياته الى القرن السابع الميلادي وتضم قطعاً من الخزف والحلي والمجوهرات و الملابس التقليدية وعدد من المخطوطات. وبعض هذه المقتنيات في هذا المتحف تعود الى عصر الموحدين.
اما الرباط اليوم ومع توأمها سلافيسكنها اكثر من مليون و600 ألف نسمة (2004م). وربما تظهر نتائج تعداد السكان المزمع تنفيذه في اواخر عام 2014م الى ان عدد سكان الرباط وسلا قد وصل الى اكثر من مليوني ساكن. وهي بذلك تكون ثانية المدن المغربية من حيث عدد السكان بعد الدار البيضاء.
ولاشك ان مدينة الرباط وهي واجهة المملكة المغربية الحضارية والسياسية قد اخذت وضعها هذا عن استحقاق فيزيوجرافي وتطور طبيعي وامكانات حقيقية. وهي تمثل نقطة محورية للمواصلات بين جهات المغرب المتعددة من حيث شبكة المواصلات الحديدية او البرية، كما ان بها مطاراً دولياً يسمى (مطار الرباط سلا) ويقع بالقرب من باب البحر احد ابواب سور الرباط العتيق، كما ان بها احدى الجامعات الكبرى في المغرب هي جامعة محمد الخامس. وبها العديد من الصناعات الحديثة التقليدية. وخصوصاً صناعة النسيج.
ومن المآثر العمرانية التي في مدينة الرباط نفق الاوداية الذي حفر تحت مياه نهر ابى رقراق ويربط بين الرباط وسلا ويسمح بمرور 30 ألأف سيارة يومياً. وكذلك قنطرة تسمى (قنطرة مولاي حسن). وهو جسر كبير اقيم على نهر ابى رقراق ويضم ثلاثة ممرات احدهما للمترو اي الترمواي والذي يطلق عليه هناك (الطرمواي)، وهو يربط بين كل احياء مدينة الرباط وتوأمها سلا وبطول يصل الى حوالي 20كيلو متراً.
وكل ذلك وغيره من المآثر العمرانية والحضارية والثقافية والاقتصادية وما تحويه هذه المدينة في ذاكرتها وخزائن مخطوطاتها و مطبوعاتها من تراث ودور ثقافي ومعرفي عربي متميز جعل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الالكسو) ان تخصص عام 2003م ليكون عاماً للاحتفاء بمدينة الرباط كعاصمة للثقافة العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.