زرت اليمن زيارة واحدة سريعة، ولكنها كانت كافية لإدراك كثير من حقائق الأمور التي كنت أبحث عنها قبل الزيارة، حيث زودتني الزيارة بحقائق كثيرة من التي لا يسهل الوصول إليها وإنما يتأتى إدراكها بالتضافر بين رؤيتي العين والحواس من ناحية، وبين المعرفة التي تأتي أيضا بسماع الأذن وإدراك العين من ناحية أخرى. ببساطة شديدة فإن اليمن يعاني أول ما يعاني من كثرة حالات التربص، وليس من حالة واحدة فقط من التربص. ويتمثل التربص في الخوف من قوة اليمن بمواردها البشرية المتميزة وما تؤهلها هذه الموارد له من تقدم ساحق، ويبدو معظم المتربصين باليمن مدركين لحقيقة لا يشكون فيها وهي أن دورهم سيضعف إن لم يتوقف تماما إذا صعدت اليمن صعودها الطبيعي. وهكذا يحرص هؤلاء بكل ما يملكون من قرارات إدارية ومن سياسات علنية وعلاقات غربية على أن يوقفوا تقدم اليمن بإدخاله في دوامات من المشكلات الكفيلة باستنزافه، فإذا ما لاحت الفرصة للخلاص من الاستنزاف لم يبذلوا جهدا في مساعدة اليمن على إيقاف النزيف وإنما بحثوا عن مسببات جديدة لنزيف جديد في موضع جديد.. وهكذا ينسى اليمن الصعود، ويفكر بديلا عنه في الصمود وشتان بين الدافعين والحالين. 4- وتطورت الأمور بعد هذا إلى معركة تقسيم الولاء بنسب القوة، بحيث يظهر للعالم (ولليمن أيضا) أن هذا الاتجاه أو ذاك لم يفز على هذا الاتجاه أو ذاك.. وفي هذه الجزئية كانت المعرفة بالقبائل وبشبكات النسب والنفوذ والتاريخ أكبر بكثير من قدرات النظام المصري على الاستيعاب، كما كانت أيضا أكبر بكثير من قدرات غيره على الانحياز الصريح، ومن ثم كان الوضع القلق غير المحدد هو الحل الأمثل، وهو ما كان يعني استمرارا لثلاثية أو مسلسلة التوجس فالتربص فالتآمر. إذا انتقلنا من نقطة التدخل المفرط للنظام الناصري في اليمن إلى مراحل تالية، فإننا سوف نجد التاريخ يكرر نفسه مع وضع "آخرين" في موضع عبد الناصر من الصورة اليمنية، ومع وضع سياسات أحدث في موضع السياسات الناصرية. وعلى سبيل المثال فقد كان لصدام حسين وجود في سياسات اليمن لفترة طويلة كما كان للكويتيين وجود واضح في خطط التنمية الحكومية لفترة طويلة، وكان انقطاع الكويتيين عن هذه الخطط (مهما كان السبب وجيها) بمثابة المبرر الذي يجعل أي مؤرخ غربي أو باحث سياسي غربي يخرج بتقييم المساعدات التنموية الكويتية إلى إطار سياسي وإستراتيجي لم يحظ بعد بالخوض فيه بالطريقة الغربية المادية التي لا تقيم للحب وللعواطف قيمة، ولا تفهم التعاون إلا في اطار المصلحة القريبة أو البعيدة. وفي كل هذه الأحوال، فإن اليمن الذي كان من الدول العربية القليلة المستقلة في بداية القرن العشرين قد أصبح في بداية القرن الحادي والعشرين من الدول العربية التي تعاني من نفوذ الآخرين معاناة كبيرة لا يمكن بالطبع أن تهدد الاستقلال الوطني لكنها للأسف الشديد تهدد استقلال القرار الوطني. كان اليمن من الدول العربية الست الواضحة الحدود والمعالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مع مصر والعراق وسوريا والسعودية والأردن، وقبل لبنان بالطبع وقبل دول المغرب العربي وغيرها، لكن هذا اليمن العظيم أصبح اليوم يعاني من مؤامرات دول لم تكن قد وجدت إلا بعده، وبعده بسنوات، وليس هذا فحسب بل إن صورة اليمن في الأدبيات الغربية رسمت (ولا نقول صورت) عن عمد بما لا يضمن تشجيع الاستثمارات فيه، وبلغ خلط الأكاذيب والحقائق في صورة اليمن حدا لم يعرفه التاريخ من قبل، بما في ذلك الحديث المفرط عن القات وعن العادات القديمة وعن النزاع السني الشيعي والزيدي الشافعي واليمني الحوثي.. إلخ. وهنا أستأذن القارئ أن أعود إليه لاحقا إن شاء الله لأقص عليه قصتين بالغتي الدلالة في مسلسل التربص باليمن. المصدر : الجزيرة