حارتي أو (حافتي ) باللهجة المكلاوية الدارجة هي إحدى حارات مدينة المكلا الجميلة . يسكنها العديد من الناس والجيران الطيبين الذين تربطهم علاقات اجتماعية عديدة ومختلفة . وصمام أمن وأمان حافتي هو العم (عبد ) أطال الله في عمره ، ذلك الرجل الذي يتحلى بكثير من الصفات الحميدة ، فهو رمز من رموز حافتنا إن لم يكن أهمها ،فعندما نريد وصف بيت من بيوت حارتنا فإننا نجد أن خير معلم للوصف هو ( دكان عبد) وهذا ليس لأهمية المحل ، بل لأننا ندرك أن بداخل المحل رجل سيحقق للتائه ضالته ، كيف لا وهو الخبير بشئون حارتنا ولن نبالغ حين أقول إنه العالم لأسرارنا والكاتم لها. فنجده نِعم المُرشد ونِعم الناصح لمن أراد نصحه ومشورته وخاصة شباب الحارة الذين فقدوا أهاليهم القدرة والسيطرة عليهم ، فبصوته الخافت وأسلوبه الجميل ينزوي إليه العاصي مهما بلغت قوته الفولاذ. أما دكانه فقد تعلمنا فيه أفضل الدروس والعبر وسطرنا فيه أجمل الذكريات والصور، فأجمل ذكرى كانت للعم القدير عبد (أبي حمد) هي كلمة (الو) تلك الكلمة التي كان يصدح بها ليل نهار فقد كان يستعملها دائماً للمناداة لأي أمر طارئ . ولكنني كنت اضحك كثيراً عندما أسمع هذه الكلمة الدخيلة فقد كنت على ثقة من أمري بأن لو سمعه عالمنا النحوي ( سيبويه ) وجماعته من اللغويين لصرفوا العم عبد صرفا ولقذفوه قذفا بحروف ( النداء ) . والواقع بأن العم عبد كان يستخدم هذا المصطلح حين يريد مناداة أهله لأمر ما ، أو أن هناك ضيفاً عزيزاً قد أتاه ويريد أن يضيفه الضيافة الحضرمية الأصيلة فحينها ينزل إليه الشاي الحضرمي المتقون والمُعتبر ، وإلا كيف يسكون مُعتَبَراً ومرضياً للكيف إلا وقد صنعته يدان حضرمية المنشأ. ولكن في بعض المرات كان العم (عبد ) يطلق لعنان لكلمة ( ألو ) فتباشره حرمه المصون من شرفة البيت ، فيبادلها الإشارات والحركات الإيماءات التي لا يمكن لأي كائن كان فهمها أو فك شفرتها. هذا هو العم ( عبد) الرجل الخلوق البشوش بل والمشاكس أحياناً ، لكنني هنا أقصد تلك المشاكسة العذبة اللذيذة التي لا تمس الكرامة الشخصية . البشاشة والضحك تلك الصفات التي افتقدناها كثيراً ، بل ويبدو لي أنها تلاشت وتوارت وراء جدران عصرنا الجائر . أتذكر أيضاً للعم (عبد) بو حمد حين يريد أن يتكلم مع بعض الأشخاص في أمر مستجد وسري ، فكان سريعاً مايغير لهجته ( الحضر _ مكلاوية ) إلى اللهجة واللكنة ( السواحيلية ) التي كان يتقنها بفن . فحينها تكون الكلمة والفصل قد حانت للكبار ولحظة انسحاب ومغادرة قد آنت للصغار . ما زلت أتذكر جيدا وقت المغرب عندما نجتمع مع إخوتي في المنزل ، وهي ( ساعة الصفر ) كما يحلو لنا تسميتها ، وتعني تفصيلا عندما تصل البطن إلى درجة ( الصفر المئوي _ جوعي ) فتجدنا أمام خيارين ، إما نتناول ما تبقى من وجبة الغداء ، وإما أن نتناول حبات البسكويت والكيك الذي أجلبه من دكان العم عبد فقد كنت أتذكر أنه إن يضعه في كرتون محكم الغلق حتى لا تصله الأتربة والغبار ، وحين لا يكفي المال الذي بحوزتي لشراء الكيك الذي كان سعره يفوق البسكويت آنذاك فإن العم عبد يكسر شوكة المستحيل حتى لا يردني خائبة فيقوم بقطع الكيك إلى نصفين فأستحوذ أنا على أحد هذين النصفين ويبيع هو النصف الآخر ضامناً بذلك بيع الكيك كله وعدم إبقاءه ، هذا هو عمنا الحبيب عبد ، دائما ما يعطينا أروع دروس حسن التصرف والتدبير مانحا أُلي الأمر علينا والذين لهم الكلمة الفصل في جميع أمورنا أحلى فنون الإدارة والاقتصاد . أما بعد صلاة العشاء فيبدأ التلملم والتجمع حول دكان عبد ( العريق) إنهم أقران العم عبد وأصحابه من ( جلساء لعبة الضمنة ) الذين يشكلون أروع تجمع ديمقراطي حر ، فالديمقراطية هي الصفة السائدة في مجلسهم المؤقر الذي يجمع كافة المستويات والشرائح الاجتماعية والمادية والمهنية والشئء الذي يجمعهم ( الحب والجنون ) لهذه اللعبة الشعبية التي كانوا من عشاقها وروادها على صعيد المنطقة . فيبدأ الالتفاف والحماس فتتعالى الأصوات في التشجيع والتحدي والشماتة أحيانا لكنها الشماتة البيضاء التي لا تجرح النفوس. ولكن اللعبة لها قانون والقانون له فنون والفنون لها مهارات والمهارات لها ميدان والميدان لسعيدان الذي يفرح بلذة الانتصار وليس للمغلوب الذي تنتابه نوبة الانهيار. أما أنا فألعب دور المراقب العام من شرفة البيت فتختلجني ذروة من الحزن العميق وذلك ليس تحيزاً للمهزوم ، بل حزناً وشفقة على لوح الضمنة الخشبي من بطش أيديهم التي لا تهدأ و لا ترحم