كانت عادةُ العربيَّ قديما مع خيلهِ التي عاشتْ وحاربت ورضعتْ معه ضَنَك الحياة وقسوتها كما حلاوتها وسعادتها, كأنها أحدُ بنيه أو إخوته. وكانت بمنزلةٍ عنده ومكانة. فهي رمزٌ لكل المُثُل والقيم العُليا, بل يُذكر أنَّ الخيل العربي يبكي لموت فارسه, وهذا مالك بن الرَّيب، حينما رَثَى نفسَه، تَذكَّرَ الثلاثة الذين سيفتقدُونه، ويبكُون عليه فلمْ ينسَ فرسَهُ وصديقَهُ في وقت الشِّدة واحْتِدام المعركة، فقال: تَذَكّرْتُ مَن يَبْكي عليَّ فلمْ أَجِدْ ***** سِوَى السَّيْفِ والرُّمحِ الرُّدَينيّ باكيا وَأَشْقَرَ خِنْذِيذٍ يَجُرّ عِنَانَهُ****** إلى الماء, لمْ يتْرُكْ لَهُ الدَّهرُ سَاقيا أمَّا اليوم فلم يعد أحدٌ يبكي على فراقِ أحد, وافتقدَ الخيلُ العربيُّ فارسَهُ, وحتى الفروسيَّة؛ قصروها على اجتياز حواجز خشبية فوق أرضٍ لينة ناعمة, وما عادت حوافرُ الخيل تقدحُ الشررَ, ولا خياشيمُه تنضحُ الضَّبَحَ, لأنها أصبحتْ للتباهي وألعاب الجري ومسابقات جمال الخيول. لكن الخيل في اليمن لازال يرفُسُ ويَرْكُلُ وربما ينطَح, لأن اليمن تأتي بعد الهند مباشرة في العجائب والغرائب, فيها كل المضحكات والمبكيات, فيها ما لا تراه من بدع القول الظريف والفعل الطريف إلا في الهند فقط. لا نطيل كثيرا, ولندخل في صلب موضوعنا. الخيل اليمني عاش زُهاء ثلاثين سنة حاكما يحكي انتفاخ الأسد, وكأنّه سَليل الأمجاد وبقايا العزّ, كأنه كُليب بن ربيعة التغلبي, الذي تملَّكه زهوٌ شديد،, وبغى على الناس, لما هو فيه من عزة وانقيادِ مَعَدّ له، حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب، فلا يرعى حماه، ويجير على الدهر فلا تخفر ذمته، ويقول: وحش أرض كذا في جواري فلا يهاج، ولا تورد إبل أحد مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، حتى قالت العرب: أعزُّ من كليب وائل. واليوم أصابه ما أصاب بني بكر حينما أذلَّهم الزير, وأخشى أن يضمحل ويتلاشى ويتحول لفصيلة الحمير, ولا غرابة في الأمر؛ فالحمار اليوم يحكُمُ مَن تَحكمُ العالم الكبير. خروج سائس الخيل من اليمن وارتمائه بالجارَة والشقيقة, سوف يُسبّبُ جَفافًا حَادًّا في ديار بني قومه, ولن تعُد للرَّاعي مَراعي, كما أنَّ بركانه الهائج دومًا في العُزَلِ والنَّواحي سيخمُدُ خمود الأموات في سكونها. خَيلُنا اليمني -بالعربي والمكشوف- لم يكن يُحسنُ كَرَّ الخيل العربي الأصيل, ولم يكن يُتقِن قفزَ الحواجز والقواطع, بَلْهَ لم يكن يجيد فن المعارك والكرِّ والفرِّ, بل كان يمتهن رَفسَ الحمير, ونَطحَ الثيران, ويُعار الشِّيَاه. عاش الخيل اليمني في الجَنوب ثلاثٍ وعشرين سنة, أكلَ كلَّ شيء, ونمَّى مَهاراته في كلِّ فُنون الرَّفس والرَّكْل والنَّطح أكثر من ذي قبل, لتزاوجه مع رَعَاع الدُّبِّ الروسي الذي استوطن الجنوب من 67, وامتزجتْ همجيَّة الخيل اليمني في دناءة وخِسَّة الدُّبِّ الرُّوسي, فأصبحَ رِيحُهما جَنُوبٌ- توافقا-، فكان النَّتاجُ خِسَّةً على خِسَّةٍ؛ خَيلًا هجينًا مشوَّهًا قبيحًا أَكَلَ برَّ وبحرَ وجوَّ الجَنوب. وعندما انحاش سَائسُ الخيل وطارَ لخارج البلاد, طبيعي أن يأخذ معه عَلَفَ الخيل وكلَّ ما في الإسطبل, وبدون رحمة ولا شفقة, وترَكَ خيله يَتَزَحَّرُ –يَئِنُّ- في اسطبلِهِ يقاسي المتاعب والأزمات والكوارث, وربما تلفحه موجة سكّري أو ضغط أو روماتزم عمَّا قريب, تأتي على ما تبقى من هيكله المتهالك, وهي نتيجة حتمية لأنَّ الخيل منذ أن عرفناه وهو رضيعٌ مُدلَّل؛ لا يجيد غير الرضاعة, ولمْ يشبَّ أو يترجَّل- من الرُّجولة- ليعتمد على نفسه. والحالُ مِن بعضه؛ فإذا كان سائسُ الخيل اليمني هربَ بالعَلَف من الإسطبل, فإن سائس الدُّبِّ الرُّوسي هربَ هو الآخر أيضا بالعَلَف الجنوبي خارج البلاد في 94, وترَكَ الدُّبَّ الجنوبي يَندُبُ حظَّهُ حتى تنتَّفَ فَروُه من الجوع, وأصبح لقمة سائغة للخيل يتصدَّق ويُنفق عليه. والاثنان –سائسُ الخيل وسائسُ الفيل- يتنعَّمان اليوم بالعلف في الخارج, وأمَّا الرَّعَاع يتضوَّرون جُوعا, وربما يصير حالُهم وقد شَمَلَتْ رِيحُهما-تفرَّقا- في بلَدَيْ الحكمة والإيمان. ولكن التَّجربة علَّمتني أن رَعَاع الدُّبِّ الرُّوسي سابقًا؛ يملكون البراعَةَ والمَهَارة في تغير جلودهم عند كلِّ موجة تغيير, فلا خوف عليهم, لأن عَديم المبدأ يرضى بأيِّ جلد. وفي المقابل؛ عظَّم الله أجرَ رَعَاع الخيل, ولا بأس بأخذ تجربة رعاع الدُّبِّ في كيفيِّة سلخِ الجلود وتغييرها, فليس أمامَكم إلَّا جُلودكم بدَّلُوها.