حينما يهل رمضان فإن نفوس المؤمنين تنتظره بشغف وتترقبه بشوق ، أولئك الذين عرفوا ماذا يعني لهم رمضان ، إنه فرصة العمر في تكفير الذنوب ومضاعفة الحسنان ، إنه عمر جديد يضاف للعبد الصالح في أيام وليالٍ تكتنفها من كل جوانبها هبات ونفحات ورحمات لا تقع تحت حصر ، فالحقيقة هو شهر تعجز الكلمات عن وصف خيره وبركاته وهباته ، ولك أن تتخيل هول التغيُّر في الكون ، سمائه وأرضه ، ملائكته وجنه ، بحلول أول ليلة منه ، جاء في مسند أحمد والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا كانت أول ليلة من رمضان صفد الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النّار، وذلك كلَّ ليلة).زاد الطبراني: ((بُعداً لمن أدرك رمضان فلم يغفر له، إذا لم يغفر له فيه فمتى؟)).ورواه البيهقي بسنده وزاد: ((ونادى منادٍ من السماء كل ليلة إلى انفجار الصبح: يا باغي الخير يمم وأبشر، ويا باغي الشر أقصر وأبصر، هل مستغفر يغفر له؟ هل من تائب نتوب عليه؟ هل من داع نستجيب له؟ هل من سائل نُعطي سُؤْلَه؟ ولله عز وجل عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفا، فإذا كان يوم الفطر أعتق مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفا ستين ألفا )) قال المنذرى (2/63) : حديث حسن لا بأس به في المتابعات. إنه شهر لا مكان فيه للشر، فما كان من مصدره كالشياطين ومردة الجن يجب أن يسلسلوا ويصفدوا حتى يخلوا الطر يق للنفس البشرية كي تنطلق إلى الله العفو الغفور في شهره الكريم ، علها أن تشق طريقها بين مواكب العائدين العابدين فتلتذ بطعم العبادة والذكر بعد أن منعت نفسها من لذته حيناً من الدهر، وكأني بأولئك المردة الغواة يُخطفون من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، وتؤخذ السلال والأغلال طريقها إلى أيدهم وأرجلهم ! لطالما أغووا عباد الله ، وزينوا لهم القبائح والخطيئات ، وأوقعوهم في حمأة الشهوات ، وحجبوا قلوبهم عن رب الأرض والسموات. وأبواب الجنة تفتح على مصراعيها ولا يغلق منها باب ، وأبوابها مغلقة لا تفتح إلا عند تمام النعمة ، ورمضان من جلائل النعم ، ليدل الفتح على مدى الرحمة الواسعة للخلق في شهر الرحمة الواسع، وفي رواية مسلم "فتحت أبواب الرحمة" فمجرد أن يخطو العبد بقلبه لله يجد رحمة ربه الكريم تتلقفه من كل جانب تحدوا إليه مكْرِمة ، وليسعَ العبد الصالح بكل قلبه وجوارحه ليصل إلى الجنة التي فتحت أبوبها وزينت ليكون من أهلها ، وهنا يدرك الإنسان قيمة فتح أبواب الجنة في رمضان. أما أبواب النار فتغلق ولا يفتح منها باب ، والنار محل غضب الله وعذابه ، فكأن الغضب والمقت مرفوع لكرم الشهر وبركته! ولو كشفت لنا الحجب لسمعنا منادي الله ينادي يقول : "يا باغي الخير أقبل" كنت ترجو وتؤمل، فهذا شهرك الذي كنت تؤمل ، إن كل بذرة تضعها اليوم ستحصدها سبعين ضعفاً ويزيد، يا باغي الخير هذا شهرك الذي تدلف فيه إلى الله جل جلاله وهو أرضى ما يكون وأرحم ما يكون قد فتح أبواب جنته وأغلق أبواب ناره. و"يا باغي الشر أقصر"كفاك وقوعا في السيئات ، وانتهاكاً للحرمات وشروداً عن ربك الرحيم ، أقلِع عن الذنوب والأوزار، وأظهِر النّدم والاستغفار، فقد أكرمك الرحمن بشهر خيره عميم ونواله جسيم ، وأبواب القبول والغفران والصفح على أوسع ما تكون . وماذا بعد النداء " هل مستغفر يغفر له؟ هل من تائب نتوب عليه؟ هل من داع نستجيب له؟ هل من سائل نُعطي سُؤْلَه؟" إنها مواهب وعطايا ، إنها منح وهدايا ، إنها فرصة العمر لمن أدرك هذه الهبات الإلهية! ومن غلبته نفسه الأمارة بالسوء فبقي حبيس شهوته وهواه فذاك من كتبت شقاوته وأورد نفسه موارد الحرمان ، "بعداً لمن أدرك رمضان فلم يغفر له، إذا لم يغفر له فيه فمتى؟"كما عند الطبراني ، وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان صعد رسول الله المنبَر يوماً فقال: ((آمينَ آمينَ آمين))، فقيل: يا رسول الله، إنّك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال : ((إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: مَن أدرك شهرَ رمضانَ فلم يُغفَر له فدخَل النار فأبعَده الله قل: آمين، قلت: آمين)). وهل أشقى من عبد أدركه رمضان -بكل خيره ونواله-فأعرض عنه وأدار له ظهره كأنه غير معنيٍّ به؟! إما العتق من النار فتلك منح ربانية ومكرمات إلهية غاية في التودد والإحسان ، ولعلها من أعظم هبات هذا الشهر الشريف ، إنه يعني الانتقال من حال الشقاء إلى حال السعادة الأبدية السرمدية ، فمن وقعت عليه عين الله الرحيمة فقد نال فوز الأبد ، وهو غاية ما يتمناه العابدون ، وأقصى ما يطلبه المشمرون وإذا العناية أدركت عيونها *** نم ! فالمخاوف كلهن أمانُ ومن عجبٍ أن هذا العتق في كل ليلة من لياليه الغراء ، ثم في آخر ليلة أعتق الله مثل ما أعتق في جميع الشهر ! ترى هذا العتق يكون نصيب مَنْ من الناس؟ إنه بكل تأكيد من نصيب التائبين العابدين التالين الذاكرين القائمين والركع السجود ، لا من نصيب اللاهيين السادرين الغافلين! شهرٌ الصيام منحه الإله مزية *** بعتق لياليه فُضّلت تفضيلا طوبى لعبدٍ صحَ فيه صيامه *** ودعا المهيمنَ بكرةً وأصيلا وبِليلِهِ قد قامَ يختم وردَه *** متبتلاً لإلهه تبتيلا أما تاج رمضان وشرفه الأعلى فهي ليلة القدر، مكرمة الرحمن لهذه الأمة المرحومة {وما أدراك ما ليلة القدر} هي ليلة النفحات والرحمات والهبات {ليلة القدر خير من ألف شهر}قال النخعي "العمل فيها خير من ألف شهر"، إنها ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى في صورة نورانية ليس لها مثيل في الليالي{تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر}وفي مسند أحمد مرفوعاً:(إن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى) إنها ليلة يفتح فيه الباب ويقرب الأحباب ويسمع الخطاب ، ليلة يربح فيها من فهم ودرى ويصل إلى مراده من جدَّ وسرى وأصابت عيناه الكرى ، قال صلى الله عليه وسلم:(من حرمها فقد حرم الخير كله ، ولا يحرم خيرها إلا محروم) يهون العمر كله إلا هذه الليلة! فمن فرط في عمره استدرك ما فات في ليلة العمر. شفيت بها قلباً أطيل غليله *** زماناً فكانت ليلة بليالي ألست ترى معي -أخي الحبيب- أن رمضانَ فرصةٌ من فرصِ الآخرةِ التي تحمل في طياتها سعادةَ الإنسان الأبدية..؟ أليس يردد قلبك كما يرد قلبي " أهلاً رمضان ..ففيك الرضوان"؟!