كالعادة وأنا جالسة في القطار في طريقي إلى العمل، أتصفح الجرائد الهولندية، واقرأ تقريبا كل خبر، صغيرا كان أم كبيرا، مهما أو اقل أهمية. اليوم تسمر نظري على إعلان مرفق بصور لطيفة لأناس مع حيواناتهم. ينظرون بحنان أليها، في أحدى الصور شابة تحمل قطة صغيرة، وفي أخرى فتاة تلامس بأنفها وجه أرنبها الأبيض، وصورة لامرأة ممددة على الأرض ووجهها قبالة وجه كلبها اللطيف. فوق هذه الصور كتب التالي: تكاليف باهظة تدفعها إذا مرض حيوانك الأليف أو تعرض لحادث ما؟ لم افهم ما المقصود ولكن في أسفل الصور كان هناك المزيد. جاءني الجواب سريعا وهو أن هذا الإعلان كان من قبل شركة للتأمين الصحي، ولكن للحيوانات. الرفق بالحيوان أمر جميل، ولكن الرفق بالإنسان أجمل. قرأت الإعلان وفي بالي تكاليف العملية الجراحية الباهظة التي يجب على والدي تأمينها والتي تتخطى 4 الآلاف دولار. التأمين الصحي مشكلة مزمنة في بلداننا العربية وهو حكرا على الغني أو الشاب، وهكذا أصبح ملايين الفقراء وكبار السن تحت رحمة الحسنة والشفقة أو الأولاد. والدي لم يكن رجلا كسولا في حياته، عمل بنشاط لتربية أولاده السبعة وتعليمهم وصولا إلى التعليم الجامعي الذي أرهق جسمه النحيل. لكن الظروف عاكسته مثل العديد من الآباء في لبنان، وقع ضحية الحرب والتضخم المالي والبورصة التي أزهقت روح الليرة اللبنانية وجعلت جنى 30 سنة من العمل الشاق لا يتجاوز 200 دولار. نعم تعويض نهاية الخدمة كان لا يكفي لتسديد إيجار المنزل لشهر واحد. هكذا أصبح والدي تحت رحمتنا، نحن أولاده. هذا الرجل صاحب القلب الكبير والذي كان قد علمنا ونحن صغار أن الإنسان يجب أن لا يأكل من المال الحرام، وكان يردد على مسامعنا كيف أن احد الباعة المتجولين قد اخطأ معه وأعطاه 3 ليرات عوضا عن ليرة واحدة. لم ينتبه والدي في حينها إلى الخطأ، وبعد ذلك بقي والدي لعدة أيام ينتظر البائع المتجول ليرد له المال، لكن دون جدوى، ذهب إلى اقرب مكان للعبادة ووضع المال في صندوق للفقراء. والدي نموذج للكم الهائل من الآباء في الدول العربية وغيرها من الدول، يأكل ويتداوى إذا تيسر له ما يكفي لذلك والاتكال على الأولاد. لكن من لم ينعم الله عليه بالأولاد ماذا يفعل عندما يقسو الدهر عليه؟ وهل من العدل أن يصبح الأهل هما أضافيا لأولادهم؟ لن نسأل عن الحكومات التي اصمت أذهانها وأدخلت الناس في معمعة المشاكل الكونية الكبيرة والمؤامرات التي تحاك لهم من قبل أهل المريخ، وكل ذلك لإشغالهم عن ما هو حق مكتسب لهم. في هولندا لا يخاف الغني أو الفقير إلا من المرض، أما كلفة المرض ومصاريف المستشفى ليست بالأمر الذي يشغل بال المريض وأهله. الجميع لديه تأمين صحي في هذه البلاد، وحتى الحيوان سينال هذه النعمة. لن اخبر والدي عن هذا الأمر...... قال لي احد الظرفاء من الأصدقاء العرب " أحيانا أتمنى أن أكون حيوانا أليفا هناك، عندها أعيش دون هموم وقلق". جانيت نمور - مواليد عزة- لبنان درست في الجامعة اللبنانية كلية الأعلام، عملت لسنوات في محطة إذاعية في لبنان وفي صحيفة يومية. انتقلت في عام 1993 للعيش في هولندا. بعد تعلمها للغة الهولندية، عملت مع مؤسسات إعلامية هولندية متنوعة، ومع جامعة ليدن.