أغرب ما لفت الأنظار في هذه الأيام هو خطاب رئيس حكومة الوفاق محمد باسندوة والذي أجهش فيه بالبكاء وترقرقت دموعه للمرة الثالثة بعد أن انهمرت في البرلمان على مسودة قانون الحصانة وفي ذكرى جمعة الكرامة. عندما نتوقف عند هكذا خطابات لا ينبغي أن نحمل مجس الوطنية لكي نقيس به مستوى وطنية الشخص أو نتوهم له خلفيات أو نتنبأ له غايات سلبية كانت أو إيجابية ولكن نحن أمام معطيات متوفرة سنناقشها في إطارها الواقعي والطبيعي . ظاهرة البكاء ظاهرة صحية بالنسبة للإنسان فهي في معظم الأحيان تعبير عن حالتين متناقضتين، الحالة الأولى: حالة الانتصار والعزة والقوة التي لا يتمالك الإنسان شعوره عند اكتمالها فتغلبه دموعه وتنهمر بسخاء لتعبر عن لحظة شموخ معبرة جداً وهذه الحالة أبعد ما تكون عن واقعنا الذي نعيشه اليوم في مجتمعنا بكل فئاته الاجتماعية والسياسية . الحالة الثانية: حالة الحزن والألم والقهر والظلم وهي أغلب وأعم الحالات فمن خلالها يسعى الإنسان إلى تعويض ما لديه من نقص أو ضعف ، كما تعد انتصاراً للمظلومية بالسلاح المتوفر سلاح البكاء والدموع الذي ينعش الإنسان ويوفر له نوع من الاستقرار والعزاء. هناك أيضاً حالة أخرى تكون ملازمة لبعض الأشخاص الذين تتسم شخصياتهم بالعاطفة الجياشة فتكون دموعهم قريبة كما يقال وقد ترى أحدهم يجهش بالبكاء وتنحدر دموعه في أبسط جو عاطفي ، هذه الشخصية مثلها الفنان المصري عادل إمام في أحد أشهر مسرحياته عندما سألته الممثلة عن السينما فقال "(رحت مره في فيلم (*أنا يتيم*) وأعدت آعييط كل ما يطلع الولد اليتيم ونا آعييييط يقولوا لي اللي جنبي خلاص يا ولد ونا آعييييط ،بطلوا الفيلم وولعوا النور وجيه الناس اللي في الشارع ،والمواصلات وقفت، وجيه المحافظ ومدير الأمن والعالم ونا آعييييييييط هما فاكريني كنت بآعييط عشان الفيلم لا كنت بعيط عشان الجزمة كانت ضيقة كانت ماسكه أوي)". من هذه الحالة يمكن قراءة شخصية باسندوة والجو العاطفي الذي يحضره فهو شخص يريد أن يرتد إليه طرفه واليمن ينهض ويتقدم نحو الأفضل ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه ولكن ليس لديه حيلة ووسيلة فهو يلتفت إلى الخلف فيرى أشباح ويسمع أصوات مرعبه وينظر إلى الأمام فتقع عينه على متاهة معقدة لا يمكن المرور منها بسلام ، وعن يمينه رقيب وعن شماله عتيد، وبين إرادة النهوض، وصفحة التاريخ، وأشباح الخلف، ومتاهة الأمام ،وعيني الرقيب والعتيد، يتهاوى باسندوة وهو يجهش بالبكاء وتتلعثم كلماته وتتصادم حروفه ولولا نجدة الألطاف لخر مغشياً عليه. والحقيقة التي هي بعيدة عن كل نفي وإثبات أو استدلال على القوة أو الضعف في شخصية باسندوة هي: أننا اليوم نمر بمرحلة خطيرة ومعقدة تحتار فيها أقوى الشخصيات وأشدها اتزاناً ، هذه المرحلة تحتاج إلى مواقف شجاعة وخطوات جبارة وإرادة صادقة وعزيمة متمردة على كل الصعاب والعقبات وبالتالي فالدموع قلت أم كثرت كانت تعبيراً عن القوة أم نتيجة الضعف لن تجدي نفعاً ولن تتبخر دولة مدنية ولن تساهم في تفكيك القوى المتصارعة التي تعبث وتحول دون تشكيل حقيقي وتغيير جذري يساهم في بناء دولة الدستور والقانون والعدالة الاجتماعية ، الدموع قد تكون مقنعة للعامة والبسطاء من الناس في تبرير العجز والتخبط وقلة الحيلة ، أما البناء والنهضة وتقدم الشعوب يا باسندوة فلم تكن آليته دموعاً على مر العصور والأزمان ولن تكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أن العاطفة بهذا الشكل لاسيما في المراكز الاجتماعية الهامة لهي سلبية وذات نتيجة مشوهه ولذالك كانت كل أسباب الفراق بين نبي الله موسى والخضر عليهما السلام ناتجة عن عاطفية موسى عليه السلام وتصرفه وفق مقتضاها وحكمه واعتراضه على ضوئها .