أرحب بك أخي القارئ في هذه السلسلة التي نسلط الضوء فيها على علم من إعلام الفكر و الدعوة من الذين أوقفوا شعرهم للإسلام وممن داروا معه أينما دار ، وهو شخصية فريدة كتب النجاح لها فيما تدعو إليه ، وكتب التوفيق لها على صعيد مجالها فقد أصبح الناس يتناقلون أدبه الرفيع وإنتاجه الغزير الثري الذي وصل أطراف الأرض ، وما من أحد يحمل قدرا ضئيلا من الثقافة والاطلاع إلا وسمع به ، إنه عملاق الفكر والشعر الأديب والشاعر والمفكر / محمد إقبال . وفي سلسلة حلقاتنا هذه سنتطرق إلى الكثير من الجوانب التي عاشها واعتملت في فكره و شعره وشغلت هامشا كبيرا من عقله وحيزا من شعره فإلى هذه السلسلة التي نستهلها باستعراض قبس من حياته فقد ولد محمد إقبال في الرابع عشر من ذي الحجة من العام 1289 ه الموافق 1877 م في بلدة سيالكوت الباكستانية .وقد كان لوالده تأثيراً كبيرا في حياته حيث نال منه الصفات السامية والأخلاق العالمية وحبب إليه العطف والبر بالفقراء .مستخدما في ذلك القرآن الكريم و أنسام من الرسالة المحمدية . وقد تلقى علومه الابتدائية على يد والده بالإضافة إلى دخوله كتاتيب بلده لتحفيظ القرآن . ثم كان التحاقه بمدرسة البعثة الأسكوتية الثانوية في مدينة سيالكوت . ليلتحق بعد ذلك بكلية الحقوق في مدينة لاهور وتخرج منها حاصلا على الماجستير في الفلسفة وقد عين بعدها أستاذا في الكلية الشرقية في لاهور لمادتي ( التاريخ والفلسفة ) . و أستاذا في كلية الحقوق التي تخرج فيهاوكذلك لمادتي ( الفلسفة واللغة الإنجليزية ) . ثم شد الرحال إلى أوروبا والتحق بجامعة كمبردج لدراسة الفلسفة . ليسافر بعدها إلى ألمانيا ملتحقا بجامعة ميونخ وكتب رسالته ( الدكتوراه في الفلسفة ) بعنوان ( تطور ما وراء الطبيعة في فارس ) . ثم جاءت عودته الى لندن ليدرس القانون فيها وحصل على إجازة المحاماة من جامعة لندن وهناك خلف أستاذه آرنولد في عمله في التدريس ، وهو الاستاذ الذي تأثر به إقبال كثيرا كونه كان قريبا منه في فكره وطريقة نظرته للأشياء ليجد نفسه بعد ذلك يتوسع ويبحر في قراءته عن فلاسفة الغرب وقارن بينهم وبين فلاسفة الشرق ثم عاد من أوروبا إلى الهند ليمنح شهادات عدة في الدكتوراه الفخرية وهو يتنقل بين هذه البلاد آثر اللغة الفارسية لأدبه وخاصة لشعره على الأردية لانتشارها الواسع في العالم الإسلامي بعد اللغة العربية . حيث نشر ثلاثة دواوين بالأوردية وخمسة دواوين بالفارسية هي كالتالي . جناح جبريل ضرب موسى صلصلة الجرس . أما دواوينه باللغة الفارسية أسرار الذات أسرار نفي الذات رسالة الشرق . مسافرة هدية الحجاز . ولعل كتاب ( تطور ما وراء الطبيعة في فارس ) هو أول كتاب في الفلسفة اطلع الناس خلاله على مقدرة محمد إقبال على النظر والبحث وسعة إطلاعه في الفلسفة وأرسله إلى أستاذه آرنولد فنشره في لندن . شجعه على ذلك قراءته لأبرز فلاسفة الشرق والغرب من أمثال ( ابن رشد ، ابن سينا ، ابن عربي ، جلال الدين الرومي ، الشيرازي ) وكذلك ( نيتشه ، هيجل ، شوبنهاور ) . أمابقية كتبه فهي : علم الاقتصاد وكتاب ازدهار علم ما وراء الطبيعة في فارس وكذلك كتاب الأفكار المختلفة وكتاب تجديد الفكر الديني في الإسلام . وفي حياته كان لإقبال طريقتان كانتا تتنازعانه تمثلتا في طريقة العمل و طريقة الفكر وقد منح محمد إقبال شهادات عدة في الدكتوراة الفخرية ولقب ب ( الدكتور ) من كبرى جامعات الهند تقديرا لمكانته العظيمة واعترافا بفضله الكبير في خدمة العلم . وقد أتقن من الغات اللغة العربية وكذلك اللغة الفارسية و اللغة الأوردية و اللغة الإنجليزية و اللغة الألمانية الأمر الذي مكنه من الانفتاح على جميع الثقافات والحضارات الا أن العوامل التي ينبغي علينا الوقوف عندها والتي تمثل العوامل التي كونت شخصيته الحقيقية التي تنبض بين جنبيه تتمثل في تخرجه من مدرستين ، أما المدرسة الأولى فهي مدرسة الثقافة العصرية والدراسات الغربية ، فلم يزل يتقلب في فصولها ودروسها ، ما بين الهند وإنجلترا وألمانيا ، ويقرا على أساتذتها ويرتوي من مناهلها ، حتى أصبح من أفذاذ الشرق الإسلامي في ثقافته الغربية . أخذ من علوم الغرب وثقافته وحضارته ، من فلسفة واجتماع ، وأخلاق واقتصاد ، وسياسة ، ومدنية غاية ما يمكن لغربي متخصص ، وبلغ بدراسته إلى أحشاء الفلسفة القديمة والجديدة ، هذا التوسع في الآداب الإنجليزية والألمانية والشعر الغربي في مختلف أدواره وعصوره ، ودراسة الفكر الغربي في مختلف أطواره ومراحل حياته . والمدرسة الثانية هي مدرسة الإيمان ، التي خرجت الكثير من الرجال الموهوبين .. وقد تحدث عنها في شعره كثيرا ، ورد إليها الفضل في تكوين سيرته وعقليته وأخلاقه وشخصيته ، وصرح مرارا أنه يدين لهذه المدرسة ما لا يدين للمدرسة الخارجية ، وأنه لولا هذه المدرسة وتربيتها لما ظهرت شخصيته ، ولما اشتغلت مواهبه ، ولا اتضحت رسالته ، ولا تفتحت قريحته ، وقد تحدث عن معلمي هذه المدرسة وأساتذتها كثيرا وذكر فضلهم عليه . وقد لخص لنا من خلال أشعاره وأقواله العوامل التي أثرت في شخصيته ، وصقلت مزاجه وتفكيره ، وتأثر بها أكثر من غيرها ، ومنها : "قوله, لا تعجبوا .. إذا اقتنصت النجوم ، وانقادت لي الصعاب ، فإني من عبيد ذلك السيد العظيم الذي تشرفت بوطأته الحصباء ، فصارت أعلى قدرا من النجوم ، وجرى في إثره الغبار فصار أعبق من العبير " ومثل هذه الأمور مجتمعة جعلت منه رقما حقيقيا يشار إليه بالبنان بين الشعراء والمفكرين الكبار في العالم الإسلامي , وما جعل الآخرين ينظرون إليه كصاحب قضية حقيقية هو دعوته إلى فكرة تأسيس دولة باكستان , ولذا فإن له منزلة وطنية كبيرة عند الباكستانيين , كما يحظى باهتمام الكثير من أهل الأدب والفكر في العالم , وقد ألفت حوله العشرات من الكتب والبحوث لبيان مكانته الأدبية والفكرية . واهتم بعض الأدباء في العالم العربي بدراسة شعر إقبال وتعريفه للأمة العربية منذ قيام الدولة الباكستانية , وفي مقدمة هؤلاء الدكتور عبد الوهاب عزام - رحمه الله - الذي كان أول سفير لمصر في باكستان , ثم أول مدير لجامعة الملك سعود في الرياض , حتى توفي سنة 8591 م , فقد درس آثار إقبال , وترجم بعض دواوينه إلى العربية , بل ألف كتاباً في سيرته وشعره , وبعد ذلك كتب عنه آخرون , حتى أصبح إقبال معروفاً في البلاد العربية . وهناك في الشرق خاصة كثير من الأدباء والعلماء قاموا بتأليف كتب من غير العرب عن إقبال بلغاتهم , في تركيا وماليزيا والفلبين وإندونيسيا وسريلانكا وبنغلاديش والهند وغيرها , بل ألف بعضهم بالعربية , فمن هؤلاء المفكر الإسلامي الشيخ أبو الحسن الندوي , الذي ألف كتاباً بعنوان ( روائع إقبال ) وفيه دراسة مستفيضة عن إقبال الشاعر ويعد الكتاب ترجمة نثرية لأشعار إقبال وبياناً لأفكاره , وقد نال الإعجاب في العالم الإسلامي .