قال المفكر الفرنسي "روجيه جارودي: "كل ثورة مالها الإخفاق اذا تطلع الإنسان الى تغيير كل شيء الا نفسه"، وهذه المقولة المعبرة عن وجهة نظر مخلوق انما هي في حقيقة الامر مستمدة من قول الخالق في سورة الرعد (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) صدق الله العظيم فبتزكية النفس يتم تزكية الواقع "بمعنى النمو" ومن ثم يعد التغيير الداخلي مقدمة ضرورية للتغيير الخارجي الذي ينعكس على سعي الإنسان في "تحريك الحياة" فبحركة الإنسان الداخلية من خلال حريته الملتزمة غير الراكدة يتحرك التاريخ ويتطور الزمن، وتتغير مظاهر الحياة، فالتزكية في البناء الحضاري الإسلامي مفهوم يستجمع معاني النمو والخيرية معا، او مفهوم ذو إبعاد قيمية تقوم على التطهير او التحلية للنفس من كل عوارض القدح والرجم بالغيب ونوازع الشر وشوائب الكلالة التي تتعاور بها وتحليتها – أي النفس- بكل ما فيه من صفاء النفس وبركتها وصلاحها، فالتزكية تخلية من الرذائل وتخلية بالفضائل بما يستوجب للنفس الصلاح في الدنيا والفلاح بالآخرة فاختار لها ما به كما لها، ودفع الرذائل عنها ويقابلها مفهوم "التدسية" القائم على الخفاء والإغواء والإفساد في النفس بما يستوجب لها الخيبة في الدنيا والخسران في الآخرة ويجمع المفهومين قوله تعالى "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد افلح من زكاها، وقد خاب من دساها"، وإذا كان المسلم غير المسيس للدين في سعيه الحضاري وتغيير واقعه بصورة دائمة يتحكم فيه "مبدأ الطاعة في العبادة" فانه أيضا يتحكم فيه مبدأ "الطاعة في المعاملة" التي تعني تزكية النفس بمراعاة حق الغير في إطار إشكالية ال"انا" والآخر، وفق المنهج الإلهي الذي لا موضع فيه إلا للعدل وامتداده الإحسان الذي يؤطر حركة المسلم في علاقته بالآخر، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )،(النحل: 90). الهرم النسقي والمراد "بالغير" كل ما سواء الذات سواء اكان هذا الغير هو الآخر المسلم والمنتسب الى القيم الأصيلة والمبادئ العليا التي جاء بها الإسلام كمبادئ صالحة لكل زمان ومكان ام كان الآخر المفارق في العقيدة في ساحة وطن ليس من حق احد ان يلغي عليه قداسة وطنيته فسلوك المسلم الذي ينطق فقط بالشهادتين مع الغير وفق منهج التزكية يتحكم فيه مجموعة من المعايير هي جماع تلك الطاعة في المعاملة بما فيها من دوافع وضوابط وما ينبثق عنها من مقاصد ووسائل أهمها: معيار العدل وهو المعيار المحوري في قيم التعامل مع الغير فلا ترى القيم الأخرى الا في سياقه فجميعها مشدودة إليه بدءا وعودا ومقتضاه : ان يحفظ العبد حق الغير كما يحفظ حق الذات، وفقا للمبدأ الإسلامي "ان لكل خلق حقا"، او حقوقا تخصه ومما ينبغي التنبيه إليه هنا ان العدل المؤسس "لفقه شغوف بأداء الحق" وآخر "شغوف بمراعاة الحرمات" لا يؤسس لحقوق المسلم على المسلم فقط، بل انه يؤسس :ان لغير المسلم أيضا من الحقوق ما ينبغي ان تحترم او تراعى وان يحافظ على حقهم في الاختلاف والمغايرة، بل اوجب الإسلام حراسة هذه المغايرة وهذا الاختلاف والذود عنهما وحمياتهما بجعل ذلك -دينا لا يجوز الخروج عنه ، وعلى المسلمين ان يقتفوا سيرة وكفاح ومواقف "نيلسن مانديلا" الذي قضى في السجن 27 عاما جراء مواقفه الرافضة للتمييز في جنوب إفريقيا يوم ان كان اغلبية البيض يحرمون السود من حقوقهم وما ان خرج من السجن الى قمة الهرم النسقي حتى بادر بإلغاء التمييز وعدم الاعتراف بحق الآخر من قاموسي السياسة والدين، ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ظلم معاهدا او انتقصه او كلفه فوق طاقته او اخذ منه شيئا بغير طيب نفس فان حجيجه يوم القيامة، وزاد في رواية البيهقي وأشار رسول الله "صلى الله عليه وسلم" باصبعه الى صدره ألا ومن قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله حرم الله عليه ريح الجنة، وان ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفا، بل وقارن ذلك المؤسس على قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" واعتبرها الأساس الدستوري الإسلامي الذي لا يجوز الاجتهاد معه حتى ان الإسلام لم يعرف مصطلح الأقلية وإنما عرف مصطلح الأمة الواحدة بجميع أطيافها، وهذا ما توضحه الوثيقة او الصحيفة او الكتاب الذي كتبه الرسول الكريم بين المهاجرين والأنصار وبين يهود حيث وادعهم فيه وعاهدهم واقرهم فيه على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم ولم يقتصر الأمر على مجرد الاعتراف بهم بل امتد إلى اعتبارهم في إطار الدولة الواحدة "لبنة من لبنات الأمة الإسلامية" بالرغم من اختلاف عقيدتهم ما داموا قد اختاروا الإسلام اختيارا حضاريا يعيشون في كنفه، وان لم يختاروه اختيارا عقيديا، ومن ثم فلهم كل الحق في صنع هذا الاختيار الحضاري، والمشاركة في إدارته وفق منهج الإسلام في ذلك.
النخب الصنمية يقول الأمام "القرافي" مقارنا (ان عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لهم) لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا ، وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء او غيبة في عرض احدهم، او نوع من أنواع الأذية او اعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله ورسوله فما بالنا اليوم بمن يتجاوز كل ذلك فيقتل ويشيع ويشنع بمن يخضعون لحكمه من غير المسلمين، وجراء ذلك امن لهم كل حياتهم واعطاء لهم من الحقوق ما للمسلمين واعتبر ذلك دينا لا يجوز الخروج عنه كما اسلفنا، بل وقارن "القرفي" ذلك بموقف اليهودية والمسيحية، المحرقة، من الآخر حيث العبودية والظلم كما جاء في سفر "اشعياء" الإصحاح 49 والخطاب لصهيون :"بالوجوه الى الأرض يسجدون لك"، ويلحسون غبار رجليك: وفي التلمود: ان الكتاب المقدس يعلمنا ان نقدر الكلب اكثر من غير اليهودي فكل يهودي يريق غير يهودي فإنما يقدم أضحية للرب وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له وكأنه يعيش اليوم بين ظهرانينا ويشاهد ما طرأ من تغير معاكس لمقتضيات تعاليمنا وقيمنا بدءا من تسييس الدين مرورا باستثمار البعض لنصوصه بغرض تحقيق غايات ما اتى الله بها من سلطان كالتكفير والتخوين وعدم القبول بالآخر، واستهداف المستأمنين، بقصد التكسب غير المشروع ولا المشرع وانتهاء بتحكم بعض النخب الصنمية في مصائر المخلوقات بقوله – أي ابن حزم – "ان من كان في الذمة وجاء اهل الحرب تحت مسميات مختلفة ومسيئة لديننا الحنيف الى بلادنا او هبوا منها لذات الغرض وجب علينا ان نخرج لقتالهم، ونموت دون ذلك، صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان العدل هو ان يراعي العبد حق الغير معاملة وحكما كما يراعي حق نفسه، ولا يغلب هذا الحق على حق غيره في القبول والفعل والأداء والمجادلة فان الإحسان كمعيار ثاني هو تقديم حق الغير على حق النفس، وادنى ذلك ملاحظة الخير في أفعال الغير وفي أعلاه التضحية بالنفس من اجل الغير وفي أوسطه الصبر على اذى الغير، والتماس العذر له، والعفو عن إساءته، ومكافأة الإساءة بالإحسان فلا يكون تعامل الإنسان مع اخيه مجرد تحصيل خدمات منه او توصيلها إليه، وانما جلب صلاح له او استجلابه منه، ودفع فساد عنه او استدفاعه به وهذا مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم :"ان الله كتب الإحسان على كل شيء" وعلى ضوء ذلك يقول الامام القرطبي في شرح هذا المعنى :فانه تعالى يحب من خلقه احسان بعضهم الى بعض، حتى ان الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي ان تقصر تعهده بإحسانك، وإنما بمراعاة وزنه وقيمته كمخلوق خلق للتمتع بحق الحياة لان العصر تغير..
الزمان الغابر وبالأمس البعيد كان البعض يقول بالخيل والسيف والبيداء "كآليات تقليدية للحرب "احتدمت في زمن بعيد عن قرب ووجها لوجه مواجهات بين عشيرتين استمرت أربعين عاما بسبب الخلاف على حمارين احدهما يدعى داحس والأخرى تدعى الغبراء، وفي سبيل كل من داحس والغبراء قتل العشرات وجرح مكرراتها وذلك يدل بحسب عقول ذلك البعض ان قيمة الحمار كانت لا تقدر بثمن في زمن غابر واغبر، لم يكن فيه الإنسان قد عرف "ألف باء" حكوك الإنسان، ولا الدواب والكلاب بعكس عصرنا الذي أصبحت فيه المواطنة المتساوية والحقوق المتوازية بين الناس وفصيل النسناس لا تقبل الاجتزاء وبخاصة في الغرب ولا بين الحيوان الناطق والجرو الأليف طبقا للمواثيق غير المكتوبة التي جعلت من ثقافة الألفة والتآلف قاسما مشتركا ومترسخا في عمق الضمير الجمعي بين سائر المخلوقات الناطقة فيها والصامتة الى درجة ان الكلب الأليف صار له في الغرب غرفة معيشة تحاذي غرفة حليفه الناطق والمالك له بل وفنادق من ذوات النجوم المثنى والثلاثى والرباعى التي يحلم المواطن القاطن في دولة نامية بمجرد ارتياد عتباتها ويحسد الكلب على ما حظي بها من نعمة وبالمقارنة بين ذلك الزمان الغابر وبين زمننا الحاضر المنعوت بالمعاصر نستنتج بان ما كان يسود في ذلك الزمن البالغ في القدم من جهل مطبق وثقافة مخلفة متخلفة وعلائق اجتماعية يطغى عليها التوحش والتفتت للتركيبات الاجتماعية ويغلب فيه التفكير في حتمية وضرورة الجهاد في سبيل الجواد بل وتسود خلاله التعددية العقيدية التي كانت تتخلق وتتولد من رحم الجهل وحلفاؤه والتعصب وشركاؤه كان له ما يبرر توطد وتجسيد مثل تلك العلائق والمزالق، ومن ثم فان ذلك كله يقودنا الى معرفة الهوة الفارقة بين ما كان وبين ما هو كائن بما في ذلك التغييرات التي ظلت تتوالى عير الزمان بمثلث اضلاعه حتى وصل بنا في حسابات التمييز بين مقتضيات الانتقال من البسيط الى المعقد الى ما وصلنا إليه من تطور في الوعي والتفكير ومخرجات العقل غير الحجري ولكنه تطور ما تزال فيه الصراعات والتوترات عوامل معيقة للتعايش كما كانت في الماضي السحيق وبفارق تغيير الوسائل المنتجة للأهداف..
* نقلا عن اسبوعية "حشد" العدد 354 الموافق 12 يناير 2014م