المقال الذي كتبه الفنان فؤاد الكبسي، مؤخرا تحت عنوان " تراثنا المحتل"،له أهمية. وأهميته من كونه واحداً من أهم فنانو اليمن، و فيه غيرة على التعدد الفني. وأيضا، لأنه يأتي في وقت تضيق فيه صدور اليمنيين من بعضهم وما عادت ثقافة التنوع في مساحتهم. فللفن سطوة. ويعلم الناس التعايش والتسامح. والتراث المتعدد، كان كذلك حين كان ناس زمان ابسط، وأكثر قدرة على التعايش. واليوم نختنق سياسيا واجتماعيا، وليس فقط دينيا.. وأصبح تراثنا بلون واحد.. وان كان فنانو اليمن الذين تغنوا بلهجات اليمن وألحانها، يتحدثون اليوم عن تراثنا اليمني المتنوع ومنه اليهودي، فهي بادرة خير، وهي ما نفتقده في مجتمع ضيق، لم تعد فيه مساحه للتسامح، ولم يعد نسيجه الاجتماعي متنوعاً، وكذلك مادته الفنية فقيرة ومحصورة. والكبسي، وزملاؤه، نشد على أيديهم، لمواصلة إحياء هذا التراث، لنحيي قيماً ماتت فينا، وهذه المبادرة التي لا يجب أن تقف عند حدود المقال، ونقول: علينا المقالات، وعليك الغناء، واسمعنا عود طربك.. ولحن أدائك لأغنية يمنية يهودية. لأنه بصراحة، مما زاد في إسهام تبعثر تراثنا، ان فنانيناً اليمن، لم يدافعوا عن تراثنا المتعدد، واقتربوا منه على استحياء، وتركوا معظمه يذهب مع الريح، وإن كانوا قد غنوا بعضا منه مثل "يا هزلي .." وهي جزء من التراث الصنعاني، فالاغينة اليهودية ليست صنعانية فقط، بل هي حضرمية ويافعيه و تعزية، فاليهود كانوا في كل اليمن. ولا نريد ان نقف عند.. يا هزلي.. نعم، أوافق كل حرف كتبه الكبسي، ولكن يجب ان نضيف أننا في اليمن والدول العربية في منتصف القرن الماضي قدمنا لإسرائيل هدية غالية، على طبق من ذهب. حين طردنا، او أخرجنا، أو أسهمنا في خروج اليهود العرب، الذين كثير منهم لم يكن يتفق مع فكره اقامه دولة يهودية، لاسيما وأن تعاليم التوراة نفسها، تنص على عدم تجمع اليهود في مكان واحد. وأبناء جلدتنا، من اليهود اليمنيين، الذين يعدون من أكثر طوائف اليهود تدينا، والتزاما بالتعاليم التوراتية، خرج كثير منهم مكرها، وأخذ معه جزءاً كبيراً من الموروث اليمني الفني والثقافي. لنستمع بعد سنوات، لفنانين وفنانات يهود في إسرائيل، من أصول يمنية يذكرونا بهذا اللحن و تلك الأغنية،ونقول فلانة يمنية وفلاناً أصله يمني، ونجد أن دولة لا جذور لها ولا تاريخ، تفتخر بموروث تراثي ضخم. تراث، أسهمنا نحن في تكوينه، وأصبح لديها الحان وفن وثقافة، توصلها للعالم، على أساس أنها صاحبة حضارة وموروث، فلا هي دولة، ولا لها موروث. و كما أن المطبخ الإسرائيلي ما هو إلا "بدعة صهيونية أخرى" وأطباقه من كل البلاد وللمطبخ العربي- اليمني نصيب. فهاهي أيضا الأغنية، بكل ما يمكن أن تفعله من إيصال صوت الشعوب وتاريخها وحضارتها،نتبرأ منها لمجرد حساسية دينية. كل ما يمكن فعله، ان نواصل غناها، وكما لم نتوقف عن طباخة الأكلات التي يتشدق بها مطبخ الصهاينة، فعلينا ، ان لا نتوقف عن الغناء بالعبرانية. ومواصلة مسيرة اللحن اليمني، هي اعتراف بالتطور الاجتماعي الذي توقف. بشمول لكل الألحان الأخرى التي تنسب ليهود هم أصلا جزء من موروثنا.
فكما قال الكبسي في مقاله، وكما نعرف جميعا أن اليمن اعتنق اليهودية والنصرانية، قبل أن يعتنق بعد ذلك بعض أهله الإسلام، والقضية هنا ليست قضية دينية إطلاقا، ومن الدناءة ان تتحول قضية الثقافة إلى قضية دينية.. القضية أننا بأمس الحاجة للتعدد الثقافي و الفني. ولعل أزمتنا في اليمن هي أننا لم نعد أصحاب تعدد، ضقنا ببعضنا اجتماعيا وسياسيا، بعد أن ضقنا فنيا، وقبلها دينيا. وللحق، ان ابناء عمومتنا لم يخطئوا حين اخذوا تراثهم معهم، ولكننا أخطأنا حين نظرنا له انه يخصهم و حدهم، وحين أنكرناهم كما نفعل اليوم مع من تبقى منهم في اليمن. ان كثيراً من التراث اليهودي أهمل، وتم الانسلاخ منه، و استثنائه وحذفه من المكتبة اليمنية لاعتباره تراثا نجسا، ولا يمت لنا بصلة، وكأننا نتبرأ من أنفسنا، وحين عرفنا انه في يد غيرنا احلو في أعيننا. الآن، لا يمكن لأحد ان يصادر حقنا في ان نغني. وأن نغني من تراثنا، وفؤاد الكبسي قلم سلس وقوي، ولكنه صوت أقوى.
الغناء أقوى من الطرق الرسمية التي تقدمت بها اليمن لليونيسكو لتشتكي نهب تراثها من إسرائيل ، كما فعلت قبل أكثر من 15 سنة، الغناء أقوى رد. وكما نتلهف لسماع أغنية جديدة من التراث، فإن اللهفة أيضا لتراث لم نسمعه من قبل، بأصوات فنانين يمنيين، حتى وان لم يكونوا مسلمين. فالأغنية اليمنية حين تصل، لا تعلن من أية ديانة هي.