من قال أن السلف الصالح كله كان صالحاً؟ ومن قال أن تقواهم أشد من تقوانا؟ وكيف تكون التقوى في عصر العلم والمدنية والتقدم؟ هل تكون بحلق الرأس، ولبس السراويل، وإطلاق اللحا؟ هل هي بإظهار بقايا الوحش في الإنسان وإثارة الرعب بين الناس؟ من قال أن الإسلام يطلب من المسلم أن يلغي عقله ليجري في حياته على سنة آبائه وأجداده؟ ومن قال أن التدين يعني الخنوع للشيوخ والأوصياء باسم الدين، والثورة والتمرد والضرب بالسيف، ضد الحاكم وضد الدولة وضد النظام، وفي غير ما يقبله العقل والدين؟ من هو هذا الذي يسمح لنفسه القضاء في مسألة هي من اختصاص الخالق فقط، ومن صلاحياته دون غيره؟ ما الفرق بين هؤلاء وبين أهل الجاهلية الذين كان أشد ما يثيرهم من الدعوة الإسلامية ويزيد حنقهم على رسول الله هو تسفيه أحلام الآباء والأجداد، فكل ما كانوا يقولونه في الغضب منه والتحريض عليه أنه يسفّه أحلام أبائنا ويستخف بعقول أسلافنا. قال تعالى: "وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون. قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون" الزخرف 23-24. وقال تعالى: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون" البقرة 170. إن الاعتقاد الحق في نظر الإسلام، هو الذي ينشأ عن دليل واختيار، وليس الموروث عن الآباء والأجداد، وهذا ما لا ينفيه الإسلام بل يدعو إليه، وجعله وظيفة رئيسية من وظائف العقل، وهي هداية الناس إلى الإيمان بالله عن طريق التفكير في آياته سبحانه وتعالى، فلا يذكر القرآن الكريم العقل إلا في مقام التعظيم والإجلال، وضرورة العمل به والرجوع إليه. ولعل أوضح مظاهر التقليد الأعمى بغير دليل، هي عبادة السلف، التي تسمى بالاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية والخوف منهم. فلا غرو أن ترك الإسلام للعقل في مجال التشريع، أن يجول ويصول في فهم النصوص، تبعاً لتغير ظروف الزمان والمكان، بل إن المسلمين مطالبون بأن يفهموا القرآن في عصرهم وبفكرهم الجديد، لا بما كان يفهمه السابقون، قبل ازدهار العلوم الكونية، والنفسية، والاجتماعية، وسائر العلوم الإنسانية. إن مصدر الإسلام هو المولى سبحانه وتعالى، والعقل البشري لا يستطيع أن يضع ديناً. فوضع الدين من حق الله وحده، والذين يذهبون إلى غير ذلك، يكونون من المعتدين على حقوق الله. على أن التطور الفكري في المفهوم القرآني، جهد موصول، وليس بداية من صفر، ولا خروجاً من إطار الإسلام وبيئته، ولا استغناء عن أصوله الثابتة، وكلياته الأساسية، فلا تناقض بين التأهيل والتجديد، إذ هما عنصران متكاملان لا ينفصلان. فمن الدين، ترك العقل أن يستفيد من تجارب الآخرين، وينتفع بتراث السابقين ومعارف اللاحقين "فاعتبروا يا أولي الأبصار" الحشر 2. "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" الحج 46. ولا شك أن هذا التوجه الإلهي، يرشد الناس إلى التفكير والاعتبار، ويطلق العقل البشري باحثاً منقباً متطلعاً، إلى اكتشاف أسرار الحياة والكون، بما يفيد التطور والارتضاء البشري. صالح خريسات