يكتب الصحفي اليمني احمد الشلفي سلسلة حلقات عن ما شاهده حول أحداث مصر واقتحام ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة اثناء زيارته للميدان ،وهذه الحلقة الأولى من شهادته وابتداء من يوم الأحد ستبداء صحيفة مأرب برستنشر بقية الحلقات. قلت سأكتب.. أمسكت بالقلم ونحن في الجو على متن طائرة اليمنيه المتجهة من مطار القاهرة إلى صنعاء فعلا أصبحنا في الجو.. ولم يحدث مما توقعنا جميعا في المطار أي شيء ..لا استوقفني احد ولا سأل عن هويتي أحد. الحمد لله. هاأنذا في السماء ولكن روحي الفزعة في الأرض. اليوم هو السبت السابع عشر من أغسطس الرابعة وخمسة واربعون دقيقه عصرا. بحثت عن ورقة فلم اجد فاستخدمت ذلك الكيس الورقي الموجود على ظهر المقعد قسمته نصفين وطلبت من المضيف أن يمنحني قلما فأعطاني وبدأت أكتب. لم يكن حبرا.. كان قلمي يسكب دمعا ساخنا والقلم عندما يبكي يتعثر الكلام كأنما يغتسل في بحر حزين وكأنه لا يجيد السباحه. هل تعرفون كيف ؟ يجعلك هذا النهم الوحشي للدم والمجازر الذي رأيته في مجررة الأربعاء 14 اغسطس برابعة العدويه بالقاهره تفقد كونيتك وانتمائك للأنسان . يحدث الأمر في داخلك ..اذ يذوي شيء ما وينهار فجأة دون أن يستأذنك. هل جرب أحدكم يوما شعور الوحش والإنسان في آن إذ يبدو أن مشاهدتك الذاهله لشيء يشبهك يحصد أرواح كائنات مثلك يجعلك تشك بمشروعية وجودك ككائن بشري طيب ومسالم. يسيطر عليك الذهول .. حينا تبكي وحينا تطوح بيدك في الهواء .. وحينا تحدق بغباء ذلك الساذج الذي لم يكن يتخيل هذا المشهد. السيسي وشيطنة اعدائه حالة انقسام إذن في داخلك تشبه حالة الانقسام الرهيبة والبشعه التي يمر بها شارع مصر وحالة الكراهية البشعة التي كرسها إعلام مصر للكراهية . لازالت ترن في إذني كلمة أحد المذيعين في احدى قنوات مصر وهو يتحدث عن من يصفهم بالارهابيين في رابعة قائلا: إقتلوهم زي الصراصير. ماالذي سأتذكره أولا؟ قبل المذبحة كنت أحلم بأن اعود من القاهرة وقد استطاع المصريون تحقيق توافق وطني يحفظ الدم والروح والكرامه. لكن موجة الكراهية العارمة لم تكن لتسمح بذلك مدججة بطموح هستيري لرجل مخابرات يعمل قائدا للجيش ويجيد كل الالاعيب لشيطنة اعدائه ( الاخوان المسلمون) ويحضى بدعم دولي وأقليمي. قام خصوم رابعة بشيطنة المكان والإنسان وجمعوا الوثائق والأدله بمزاج تصفوي استئصالي ثم نفذوا الجريمه وكان الأمر للجنود والشرطة والبلطجيه بالقتل المباشر لفض الاعتصام وليكن الثمن أي شيء وقد حدث هذا. كنا في حالة غيبوبة أمنيه ربما هذا أفضل توصيف لما شعرنا به الاربعاء . خرجت من رابعة العدويه الواحدة بعد منتصف الليل بعد اسبوع متواصل من السهر حتى ساعات الصباح وأحيانا حتى الظهر في انتظار تنفيذ الداخلية والحكومة تهديداتها بفض الاعتصام . كل تلك الايام كنا في الميدان في انتظار أي هجوم لنقوم بتغطيته كانت الطائرات تحوم على مدار الساعة ولم تبد اية مظاهر غير عادية للشرطة . كنت والزميل عبد الله الشامي مراسل الجزيره الأكثر تواجدا في ميدان رابعة وكان يشترك في التغطية معنا الزميل مراد هاشم في نوبات متبادلة وقبل ان يتجه الى ميدان النهضه كان زميلنا وليد العطار يغطي ايضا. هاجس فظ الاعتصام فض الاعتصام كان هاجسا فعلا. لكننا لم نكن ندرك كيف تجهز الداخلية والجيش خطتها لذلك وكنا يقظين على مدار الساعة الا أنه في يوم الثلاثاء ما قبل المجزرة لم نشاهد ما يدل على ذلك كما لو أنهم استنفروا الناس لأيام ثم انتظروا حتى يشعر المعتصمون بالاسترخاء ليبدأو الهجوم. تحدثنا كثيرا مع شباب وصحفيين وقادة معارضين للانقلاب حول فض اعتصام رابعة لكن خيالي لم يتصور أن ذلك سيحدث . دعوني أصور لكم رابعة الميدان بكل ما فيه ومن فيه . الميدان يمتد طوليا من شارع النصر باتجاه شارع المنصة او تمثال المنصة على نحو اكثر من كيلو ثم يتفرع بعد ذلك داخل الشوارع الرئيسية ومداخل الحارات وفي كل شبر منه تنتصب خيمة كبيرة أو صغيرة أو متوسطة أو تلك الخيام الخشبية الهائلة بعضها اخذ شكل ثلاثة أدوار وقد بدأت تبنى قبل فض الاعتصام بأيام فسر البعض ذلك حتى يصعب فضه على الداخلية. أما المعتصمون فهم لا يقلون بحسب تعداد شخصي كنت أقوم به في الحالات العادية عن مائة الف ونحو ثلاثين في المائة من المعتصمين يسكنون الخيام مع نسائهم وأطفالهم . كنت اعرف ذلك عندما يدعى الناس للخروج من خيامهم خاصة أثناء تحليق المروحيات او في ذلك اليوم الذي أطفأ التيار الكهرباء فيه فقد كان الميدان يمتلأ. لكنه في أوقات الحشد والدعوة والذروة وما بعد العاشرة مساء أو في يوم عيد الفطر فإن الأعداد قدرت بمئات الآلاف اذ يشهد اكتضاضا غير عادي. بعض العائلات والنساء والأطفال قدموا من محافظات خارج القاهره ويقيمون في الميدان منذ الثامن والعشرين من يونيو قبل انقلاب الثلاثين من يونيو على الرئيس المعزول محمد مرسي. يغلب الميدان الطابع السلمي الثوري والاجتماعي والروحاني إذ أن المعتصمين وعوا خطورة وجود أي سلاح داخل الميدان وأن ذلك سيعرز شائعات الاعلام المصري بأنهم أرهابيون ويمتلكون سلاحا . وكان الميدان فعلا بدأ باجتذاب عائلات ومواطنين من كل أبناء مصر خاصة بعد مجزرة المنصة التي راح فيها مئات القتلى والجرحى. أما روح المعتصمين فإنها تتسم بالانضباط والتعايش والفدائية السلمية التي لم اعرف مثلها قط. كل ذلك جعلني اجزم أن اقتحام الميدان سيكون عملية مستحيلة وان القيام بذلك سيكلف بحرا من الدماء وكنت أشكك بنية الداخلية والجيش المصري على ارتكاب مجزرة كتلك التي قتل وجرح فيها آلاف. لكن السلطات المصرية فعلت ذلك وكلف مصر ذلك كثيرا ولم يكن امامها من حل أمام صمود المعتصمين سوى استخدام الرصاص الحي لقتل المعتصمين بشكل مباشر. أعرف ان كثيرين يشككون بمقتل أكثر من الفين وستمائة في فض اعتصام رابعة لكني أعتقد أن العدد ربما يزيد على ذلك وسنترك ذلك للأيام. تنويه هام: " هذه الحلقة الأولى من ضمن عشر حلقات من شهادة الشلفي على أحداث مصر .. وابتداء من يوم الأحد ستبداء صحيفة مأرب برس بنشر بقية الحلقات".