ثعلب يمني ذكي خدع الإمام الشافعي وكبار العلماء بطريقة ماكرة    قطوف مدهشة من روائع البلاغة القرآنية وجمال اللغة العربية    بعد خطاب الرئيس الزبيدي: على قيادة الانتقالي الطلب من السعودية توضيح بنود الفصل السابع    الحرب القادمة في اليمن: الصين ستدعم الحوثيين لإستنزاف واشنطن    الحوثي والحرب القادمة    كيف تفكر العقلية اليمنية التآمرية في عهد الأئمة والثوار الأدوات    الأكاديمي والسياسي "بن عيدان" يعزّي بوفاة الشيخ محسن بن فريد    بمنعهم طلاب الشريعة بجامعة صنعاء .. الحوثيون يتخذون خطوة تمهيدية لإستقبال طلاب الجامعات الأمريكية    تفاصيل قرار الرئيس الزبيدي بالترقيات العسكرية    المشرف العام خراز : النجاحات المتواصلة التي تتحقق ليست إلا ثمرة عطاء طبيعية لهذا الدعم والتوجيهات السديدة .    شيخ حوثي يعلنها صراحة: النهاية تقترب واحتقان شعبي واسع ضد الجماعة بمناطق سيطرتها    الحوثيون يزرعون الموت في مضيق باب المندب: قوارب صيد مفخخة تهدد الملاحة الدولية!    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    الحوثيون يلفظون أنفاسهم الأخيرة: 372 قتيلاً خلال 4 أشهر    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    " محافظ شبوة السابق "بن عديو" يدقّ ناقوس الخطر: اليمن على شفير الهاوية "    رسالة حوثية نارية لدولة عربية: صاروخ حوثي يسقط في دولة عربية و يهدد بجر المنطقة إلى حرب جديدة    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    مأرب تغرق في الظلام ل 20 ساعة بسبب عطل فني في محطة مأرب الغازية    مقرب من الحوثيين : الأحداث في اليمن تمهيد لمواقف أكبر واكثر تأثيرا    ريال مدريد يسيطر على إسبانيا... وجيرونا يكتب ملحمة تاريخية تُطيح ببرشلونة وتُرسله إلى الدوري الأوروبي!    17 مليون شخص يواجهون حالة انعدام الأمن الغذائي باليمن.. النقد الدولي يحذر من آثار الهجمات البحرية    تكريم مشروع مسام في مقر الأمم المتحدة بجنيف    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الحوثيون يستعدون لحرب طويلة الأمد ببنية عسكرية تحت الأرض    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    #سقطرى ليست طبيعة خلابة وطيور نادرة.. بل 200 ألف كيلومتر حقول نفط    آرسنال يفوز على بورنموث.. ويتمسك بصدارة البريميرليج    مكتب الأوقاف بمأرب يكرم 51 حافظاً وحافظة للقران من المجازين بالسند    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و654 منذ 7 أكتوبر    نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين تصدر بيانا مهما في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    أول مسؤول جنوبي يضحي بمنصبه مقابل مصلحة مواطنيه    الرئيس الزُبيدي : نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خرائط العنف على ساحات الثورات العربية
نشر في المساء يوم 02 - 05 - 2013

لم يكن العنف حاضراً فى مشهد البداية لثورات الربيع العربى، حيث تدفقت الجماهير، برغم تناقضاتها الداخلية العديدة لتؤسس الحدث الثورى. ومن الطبيعى أن تحافظ على مساحات الالتقاء بين مختلف الفئات المشاركة فى الثورة، وهى مساحة الإيثارية التى يتطلبها الحدث الثورى. فى لحظة أسقطت الجماهير حسابات المصالح الأنانية، لتبقى على مصلحة واحدة أثيرة تتمثل فى ضرورة نجاح الفعل الثورى. فى أثناء ذلك تساقطت حواجز النوع والدين والمذهب والأيديولوجية، وكل الحواجز الأخرى، بحيث شكلت الجماهير نتيجة لذلك كتلة صلبة، أصبح لها صوتها المدوى الصاخب، الذى عبر عن مخزون القوة الغاضبة، التى فرضت بسلامية رائعة – أذهلت العالم المتحضر – أن يسقط نظام سياسى، سامها سوء القهر والعذاب. ولتؤسس نظاما جديدا، توسمت فيه تجسيد شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة. وإذا كان نجاح الثورات حالة يعمل فيها الإنسان كل إرادته التى تحدد إتجاه حركة التاريخ، فإنه فى أعقاب لحظات الثورة يبدأ التأمل، حيث تتراجع الإيثارية التى نجح بها الفعل الثورى لتبدأ لحظة حساب المصالح ذات الطبيعة الأنانية. فى هذه اللحظة تبدأ الكتلة الثورية فى التشقق، وتأخذ حسابات المصالح فى التباين، وتتسع التشققات لتصبح اختلافات وتناقضات، وذلك ارتباطا برصيد القهر الذى فرض من قبل النظام السابق، والأمل فى تحقيق الطموحات على ساحة نظام اجتماعى وسياسى جديد، يعبر بنا إلى المستقبل، وعلى هذه الأسس تتحدد المواقف، ويبدأ العنف فى الوجود والانتشار على ساحة الفعل الثورى.
ويرجع انتشار العنف على ساحة الحدث الثورى، بسبب تفاعلات عديدة تؤسس مناخه او سياقه، منها أن أداء القوى الثورية لم يكن متناغماً، الأمر الذى أسس كثيراً من المشكلات وتخوم الاحتكاك، الذى دفع البعض أحيانا إلى الاحتكاك بالبعض الآخر ولو من خلال العنف. كما يرجع وجود العنف إلى مشاعر الإحباط، التى بدأت فى التكثف فى أعقاب الحدث الثورى، ذلك لأن الطموحات التى ازدهرت أثناء الحدث الثورى تبدأ فى التساقط. حينما تكاثرت المشكلات وأصبحت لها وطأتها على البشر، وتأكد البعض أن الجميع لم يكن على نفس القدر من المسئولية والاستجابة لنداء الحدث الثورى. فالبعض ناضل واستشهد، بينما البعض الآخر لازال يناضل، حاملا فى صدره قابلية الاستشهاد. بينما البعض الثالث تسلل بين الصفوف والشقوق وإستولى على مضامين الحدث الثورى. وقد دفع ذلك بالكتلة الجماهيرية الصلبة، إلى التشطى، وبرز نوع من التشرذم الأيديولوجى، الذى تقوى أحيانا ببعض مشاعر التعصب. وإذا كان الجميع قد توقع أن تجسد الثورة شعاراتها بعد سقوط النظام القديم، فإذا بالنظام الجديد يبدد الطاقة دون أن يجسد هذه الشعارات. بالإضافة إلى ذلك، فقد تفاقمت المشكلات وتكاثرت الهموم، ووجدت الأغلبية نفسها فى مأزق، فى هذا السياق انتشرت سلوكيات التحالف والاستبعاد والإقصاء. الاسلاميون رأوا أن الفرصة التاريخية جاءت، وتجسيد أحلام الخلافة أروع من شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وأدرك الليبراليون، أن اللحظة أصبحت مواتية حتى يشق التحول الديموقراطى طريقه، وليتمتع الجميع بحرية التعبير وصون الكرامة، وتأكيد العدل الاجتماعى، بحثا عن بناء المجتمع الحديث، تستعيد مصر من خلاله قوتها المادية والناعمة، بينما رأى الشباب أنهم هم الذين قدموا الشهداء، وكبار السن – مع كل الاحترام لهم – ما زالت خطواتهم ثقيلة، وأن الأحداث تسقهم. وعلى الشباب الذين فجروا الثورة، واستشهد رفاقهم من أجلها أن يتحملوا قدرها، حتى تستقر سفنها على خير مرفأ. فى هذا المناخ تفجر العنف على ساحة المجتمع، بين قوى الثورة وبعضها بعضا من ناحية، وبينها وبين النظام السياسى وليد الثورة من ناحية ثانية، وبين الجميع فى مواجهة أجهزة الدولة العميقة من ناحية أخيرة، فى هذا الإطار برزت ظروف عديدة ساعدت فى انتشار العنف.
من هذه الظروف أن الثورات الإنسانية تعقبها عادة حالة من الفوضى، حيث يسعى رفاق الثورة إلى اقتسام كعكة الثورة، ومن الطبيعى فى هذا الإطار أن تكون هناك أحداث عنف (1). بالإضافة إلى ذلك فإن الطموحات والآمال التى دفعت الجماهير للمشاركة فى الثورة، قد تشكل طاقة العنف، إذا لم يسفر الحدث الثورى عن إشباع حاجات الجماهير التى عانت من الحرمان. يساعد على ذلك ظرف ثالث، يتمثل فى تدفق السلاح الغربى على ساحة الثورات العربية، بقصد أو بدون قصد، حتى يجد الفرقاء ما يتقاتلون به (2). من الظروف التى ساعدت على انتشار العنف فى أعقاب الثورات العربية، أن الدولة لا تزال رخوة لم تترسخ أعمدتها بعد، إضافة إلى أن الثورة ظلت مهدده بعودة النظام السابق للقضاء عليها، واستعادة النظام القديم لموقعة (3)، إلى جانب وجود المهمشين وفقراء المدن الذين يشكلون ضغطا على الحدث الثورى ويهددون بتحويله إلى فوضى (4). ومن الطبيعى أن تلعب هذه الظروف مجتمعه دورها فى تأسيس مواجهات العنف، وترسم خرائطه على ساحات الثورات العربية.
أولاً: خريطة التيار الاسلامى كفاعل فى احداث العنف:
يعد التيار الإسلامى بكل فصائلة أكثر الفواعل المشاركة فى الحدث الثورى تنظيما، وذلك بسبب خبرته التاريخية الطويلة، التى تشكلت له نتيجة لتعاملة مع أنظمة سياسية علمانية مختلفة ومتتابعة. تباينت فصائل هذا التيار لتضم – السلفيين – المفتونين بعظمة الماضى، حيث بدأ هذا الفصيل يستدعى مضامين هذه العظمة، ليعيد إنتاجها فى الحاضر، ليبنى مجتمعا إسلاميا منفصلا عن عصره وعالمه. بينما رأى الفصيل الثانى – جماعة الجهاد الإسلامى – أن تأسيس المجتمع الإسلامى فرض عين، ولو بالثورة والعنف والقتل، على حين رأى الفريق الثالث – الأخوان المسلمون – أن السياسة هى حاكمة كل شئ، ومن ثم فبناء المجتمع الإسلامى يمكن أن من باب السياسة. وجميعهم يختلف فى تدينه عن مرجعية التدين المصرى، الوسطى، المعتدل والمتسامح والمتفائل، والذى يدرك الإسلام من خلال مرونته وسماحته.
فصيل الجهاد الإسلامى يتحدث عن إمارة إسلامية يحاول تأسيسها فى سيناء، يتبنى العنف لبناء هذه الإمارة، يأتية السلاح من الجهاد الليبى ليخترق الفضاء المصرى ليستقر فى سيناء. فى أعقاب ثورة 25 يناير ارتكبوا باطلا وحراما كثيراً دخل بهم إلى منطقة الحرمة والحرام، فقد هاجموا مقار الشرطة فى العريش، وقتلوا ستة عشر جنديا مصريا فى رفح أثناء تأهبهم لتناول الأفطار (5). وفى تونس احتجوا على عدم السماح للطالبات المنقبات بدخول الجامعة، وعلى تشخيص قناه «نسمة» للذات الإلهية ودعوا إلى إقامة إمارة إسلامية (6). كما أسس أنصار الشريعة، المرتبطون بهذا التيار فى تونس بقيادة «سيف الله بين حسين» المكنى «بأبى عياض» الذى قاتل فى أفغانستان جماعة أطلق عليها «الجماعة الاسلامية المقاتلة فى تونس» (7)، وفى سوريا يتدفق جهاديون من الجزائر وليبيا ومصر وتونس ومن وزيرستان فى باكستان، إضافة إلى عناصر من تنظيم القاعدة برعاية مخابراتية أمريكية. وإلى جانب القتل الذى مارسه الجهاديون فى مصر، فقد قتلوا زعماء علمانيين فى تونس، كما قتلوا السفير الأمريكى واربعة من أعضاء السفارة الأمريكية فى ليبيا (8).
ويشكل السلفيون الفصيل الإسلامى الثانى، وبرغم أنهم قد تميزوا قبل الثورة بالهدوء، ودعوا دائما إلى عدم الخروج على الحاكم. فإننا نجد أن سلوكهم بعد الثورة قد تغير، حيث تبنوا سلوكيات العنف، مثال على ذلك نظمت السلفية فى مصر، مليونية تطبيق الشريعة فى 9 نوفمبر 2012 للضغط على الجمعية التأسيسية للدستور لتضمين الشريعة كمصدر رئيسى للتشريع (9). كما أحبطت قوات الأمن الأردنية، مخططا للجماعات السلفية، للقيام بعمليات إرهابية، إستهدفت بعثات دبلوماسية أجنبية ومراكز تسويق تجارية فى 21 أكتوبر 2012. وتم إعتقال 11 عنصرا من بينهم ينتمون لتنظيم القاعدة عائدون من سوريا. كما اندلعت إشتباكات بين قوات الأمن الليبية، والمليشيات السلفية عقب الهجوم الصاروخى على القنصلية الأمريكية فى بنى غازى، الذى أسفر عن مقتل السفير الأمريكى «كريستوفر إستيفنز» فى منتصف سبتمبر الماضى عام 2012 (10). كما وقعت صدامات بين الجماعات السلفية والشرطة التونسية فى أكتوبر الماضى، عقب تدخل الشرطة لفض مشاجرة بين السلفيين وتجار خمور (11). كما وتندد التيارات السلفية فى مصر بالسلطة، برغم توجهاتها الإسلامية، تأكيداً لذلك قول «أحمد عشوش» أحد قياديى التيار السلفى، أنهم لا يعترفون بشرعية الرئيس، لأنه لا يحكم بما أنزل الله، داعيا له للتوبة»، وهو الأمر الذى يمثل تحولاً فى نهج السلفية. القائم على عدم الخروج على الحاكم (12). وفى تونس إتهم «رضا بالحاج» المتحدث الرسمى باسم حزب التحرير الإسلامى السلفى، الرئيس منصف المرزوقى «بالإلحاد والكفر». بعد تأكيد الأخير بأن السلفية تعد خطراً على الدولة، أثناء زيارته للولايات المتحدة فى السادس من أكتوبر 2012. وقد إتجهت التيارات السلفية أخيراً لاستخدام العنف بهدف إثبات وجودها، حيث تجلى ذلك فى مصر من خلال محاولة قطع يد ولسان أخوين فى السويس، اعتراضا على اقتحام سلفيين لمتجرهم. ودعوة «مرجان سالم» أحد القيادات السلفية لتحطيم الأهرامات وأبو الهول والتماثيل، وألبسوا تمثال أم كلثوم النقاب. وفى تونس وقعت احداث عنف قام بها السلفيون، إستهدفت الحانات والجامعات والتجمعات العامة. وفى ليبيا لا تزال الجماعات الاسلامية السلفية تقوم بدور الضبط المجتمعى، على الرغم من تفكيك بعض خلاياها (13). وفى اليمن مارس الحوثيون العنف مع النظام السياسى، وحينما قامت الثورة انضموا إلى الثوار السلميين، وإن تميزوا بالقيام ببعض أحداث العنف.
ويشكل الإخوان المسلمون الفصيل الثالث للتيار الإسلامى، ولدى هذا التيار شك فى أجهزة الدولة القائمة، مؤشر ذلك حديث منظريه عن مقاومة الدولة العميقة التى يحاولون تطويعها. ويدعى هذا الفصيل تبنى الأسلوب السلامى فى التفاعل، وهو السلوك الذى ينطلق من قول الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة فى محاولة تعريفها بقوله إنها «دعوة سلفية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية» . ويشير تأمل هذا التحديد أو التعريف إلى تأكيده على أربعة مكونات، المكون الأول هو «دعوة سلفية وحقيقة صوفية ورابطة علمية ثقافية. باعتبار أن هذا المكون يهتم بتربية «الأخ» عضو الجماعة، بينما يشير المكون الثانى إلى أنها «هيئة سياسية»، وهو مكون يؤكد على أنها ليست دعوة دينية وأخلاقية فقط، ولكنها سياسية كذلك، بما يتضمن ذلك أن تكون الجماعة لاعبا سياسياً من حقه أن يكسب اللعبة، فى حين يبرز المكون الثالث كونها شركة اقتصادية، بمعنى أن يكون لها إمكانياتها الاقتصادية، بينما يؤكد المكون الرابع على كونها جماعة رياضية تهتم بالتربية البدنية، إذا جاء اليوم الذى نحتاج فيه إلى إستخدام القوة، وهو ما يعنى أن تنظيم وجود هذه المكونات يشير إلى السعى لبناء دولة، موازية للدولة القائمة (14)، وهو ما نلاحظ بعض تباشيره الآن. وبرغم أن جماعة الإخوان المسلمين، كانت ضمن معارضي النظام السابق، إلا أنها لم تسع ابداً للإطاحة به، خوفا من أن ينالها العنت والعقاب. غير أنها التحقت بالثورة حينما لاحت فى الأفق مؤشرات انتصارها، وبسبب قدراتها التنظيمية العالية، مقارنة بالقوى السياسية الأخرى، فإنها تمكنت من السيطرة على مضامين الثورة ومن ثم على بعض مؤسسات الدولة، بما فى ذلك مؤسسة الرئاسة. وبرغم أن ميلها إلى العنف محدود من الناحية الظاهرية، إلا أنه كامن فى بنيتها، تجلى أحيانا خلال بعض الأحداث. نذكر منها تظاهراتها لتأييد الحاكم الإخوانى كما حدث فى تأييد الإعلان الدستورى، وأحداث العنف التى صاحبت انتخابات الرئاسة، أو الاستفتاء على الدستور (15). يضاف إلى ذلك التواجد المتعمد فى ساحات التظاهر السلمية، التى يقودها الشباب الثورى وتحويلها إلى ساحات عنف. إلى جانب ذلك حصار المحكمة الدستورية، حتى لا تصدر حكما بحل الجمعية التأسيسية للدستور. يضاف إلى ذلك الحديث المتكرر شعبيا عن وجود الميلشيات التى تجلى وجودها من خلال بعض افعالها إبتداء من إعتقال بعض الشباب، الذين حاصروا قصر الاتحادية، وحتى التعامل العنيف معهم وحرق خيامهم حتى استشهاد بعضهم (16). يضاف إلى ذلك تصريحات بعض قادتها، بأن شبابنا – أى شباب الإخوان المسلمين - على استعداد «للاستشهاد» كأنما نحن فى معركة مع عدو خارجى، وليس صراعاً داخلياً بين قوى اجتماعية شاركت فى الثورة (17). ويمكن القول بأن عنف التيار الإسلامى يرجع عموما إلى عدة عوامل أساسية. من هذه العوامل، أن العمل طويلاً تحت الأرض طور قدراتهم التنظيمية، وأن لم يفلح فى تنشئتهم سياسياً، وفق قواعد اللعبة السياسية العلنية. بينما يتصل العامل الثانى بأن أحلام بناء المجتمع الإسلامى بدت تلوح فى الأفق حينما أمسكوا بالسلطة. ومن ثم فقد أعجزهم ذلك عن رؤية المتغيرات الداخلية والخارجية، بحيث كانت تصرفاتهم ذات طبيعة تكتيكية وليست استراتيجية، إلى جانب الفشل فى إدراك مغزى التجارب الإسلامية الناجحة التى وصلت إلى الحكم، كما هى الحال فى إيران، التى عمقت تدين الجماهير أولاً، ثم انتقلت من الدين إلى السياسة، أو كما هى الحال فى تركيا، التى أجادت النخبة الدينية فيها قواعد اللعبة السياسية ووصلت إلى السلطة، ومن باب السياسة إتجهت تدعيم الدين. على عكس ذلك لم ينجز التيار الدينى فى مصر وتونس وليبيا وحتى سوريا تديين الجماهير، كما حدث فى إيران، ولا أتقن قواعد اللعبة السياسية كما حدث فى تركيا. نتيجة لذلك شعر بالحصار، وبمناخ عدائى محيط، فلم يكن أمامه وأمام قادتها، سوى العناد والعنف، كطريق لكسر طوق الحصار.
ثانياً: خريطة العنف على ساحة الشباب:
يعتبر الشباب هم الكتلة الفاعلة منذ بداية ثورة 25 يناير 2011، حيث توافرت لهم مجموعة من الخصائص التى أهلتهم لأن يلعبوا الدور المحورى فى تفاعلات الحدث الثورى. وترجع الفعالية الشبابية فى الثورة لعدة عوامل أساسية، منها أن التكوين الديموجرافى للمجتمع المصرى، يشير إلى أن الكتلة الشبابية تصل إلى 44% من حجم السكان. ومن الطبيعى أن يكونوا هم أصحاب المصلحة الغالبة فى المجتمع الحاضر والمستقبل (18)، يضاف إلى ذلك أن الشباب هم الذين عانوا من مجتمع ما قبل الثورة، حيث ارتفعت معدلات البطالة، وتردت الأوضاع المعيشية، وتضاءلت مختلف فرص الحياة أمامهم، إضافة إلى تردى أوضاع التعليم، وضعف المؤسسات الأسرية، وعجز مؤسسات المجتمع المدنى عن استيعابهم، وهو الأمر الذى رسخ فى وعيهم أن إشباع حاجاتهم ليس فى المجتمع الحاضر، ومن ثم ينبغى تغييره، وقد ساعد على ذلك أن الشباب، بسبب تكوينهم النفسى والاجتماعى، يميلون دائماً إلى المستقبل، وأنهم - خاصة شباب الشريحة العليا للطبقة المتوسطة - بحكم قدرتهم على التواصل من خلال تكنولوجيا المعلومات، هم الأكثر إدراكا لمدى التردى الذى أصاب مجتمعهم، إذا قورن بمجتمعات العالم المحيط (19).
لذلك شكل الشباب المفرزة الأولى لحركة التغيير، التى تحولت إلى ثورة شاملة، وقد استندت ريادتهم للثورة، إلى أنهم كانوا الأكثر دراية بما يحدث فى العالم من حولنا، وبالتفاعل فى نطاق المجتمع الافتراضى. وقد ساعد انتشار المدونين والمدونات بين الشباب إلى إبرازهم باعتبارهم يشكلون كتلة متماسكة تعبر عن رأيها بصورة سلمية دون خوف أو قلق (20). يضاف إلى ذلك امتلاكهم لثقافة ومهارات العمل الجماعى، من خلال تشكيلهم اللجان الشعبية التى تولت حماية الثورة، إضافة إلى تنظيم المليونيات المتتابعة للحفاظ على الثورة حية فى الضمير والوعى المصرى الجماهيرى (21)، وهى الممارسات الشبابية التى دفعت السفير الألمانى فى القاهرة إلى القول «نشارك الشعب المصرى ذلك الشعور، وننظر إلى الشعب المصرى بإكبار، ونود فى هذا السياق أيضا تقديم دعمنا، حتى تتوج هذه الثورة الديموقراطية بالنجاح الحقيقى الذى تكون نتائجه لصالح كل أفراد شعب مصر» (22). كما أشارت بعض المصادر الأمريكية المنشورة على شبكة المعلومات إلى أن ثورة الشباب المصرى جعلت 70% من الأمريكيين ينظرون بإيجابية للشعب المصرى، إضافة إلى إعجاب القارة الأفريقية بالثورة ومحاولة تقليدها. يؤكد ذلك إشارة نائب الرئيس الغانى إلى «الدرس المصرى للحكام الأفارقة» (23). وبرغم إبهار الشباب المصرى العالم بثورته السلمية، إلا أنه وقعت مجموعة من الظروف التى شوهت ثوبها الأبيض.
من هذه الظروف، أن الأنظمة السياسية التى ظهرت فى أعقاب ثورة 2011 بددت طاقة الحدث الثورى للشباب، سواء عن عدم دراية أو سوء قصد. وحينما طالب الشباب بتصحيح المسار، وقعت أحداث عنف وصدامات، كان الشباب ضحيتها إما استشهادا أو زجا فى المعتقلات. من هذه الظروف كذلك أن الفصائل التى تولت بناء الحدث الثورى، اختلفت عن الفصائل التى استولت عليه واستمتعت بالسكنى فيه. من هذه الظروف أيضا أن التنظيمات والقوى السياسية المختلفة، لم تستطع استيعاب الكتلة الشبابية، أو تطوير الحركة الثورية فى إتجاه مسارات محددة. إضافة إلى المطالب الفئوية التى بدأت تزدهر، وبدلاً من مواصلة القوى الثورية دفع الحدث الثورى انصرفت تبحث عن الغنائم، بحيث أسلم حصار الحدث الثورى ومحاولة اختزاله إلى تفكيك الكتلة الشبابية، وبروز ائتلافات شبابية طورت رؤى مختلفة للمجرى الذى ينبغى أن ينطلق فيه الحدث الثورى. بحيث أصبحت نتيجة لهذا التشرذم هدفا لعنف تدفق من مصادر عديدة (24).
وقد شكل التيار الإسلامى أحد مصادر العنف الموجه للشباب الثائر، وذلك باعتبار أن المؤسسة الرسمية أصبحت تنتمى لهذا التيار، حيث نظر هذا التيار إلى احتجاج الشباب وتظاهراتهم السلمية احتجاجاً على التيار الإسلامى والنظام السياسى الذى ينتمى إليه. لذلك تكررت كثيرا وبصورة كثيفة مظاهر المواجهات بين شباب التيار الإسلامى بفصائله المختلفة وشباب الثوار ذى الأيديولوجيات المدنية أو العلمانية، حيث تكرر ذلك فى الإسكندرية، كما تكرر فى محافظة البحيرة، وفى مدينة المحلة الكبرى، كما تكرر فى محافظة الغربية والدقهلية، إلى جانب بعض مناطق القاهرة. وأبرزها حرق خيام المعتصمين بجانب قصر الاتحادية، والقبض على بعضهم وتقييده وتعذيبه. حسبما أشارت تقارير صحفية وإعلامية عديدة. وقد تكرر هذا المشهد كثيراً، حيث يبدأ شباب الثورة بتظاهرة سلمية، ثم ما تلبث أن تتحول إلى ساحة للعنف. حينما تصبح هدفا للعنف معها سواء من قبل أفراد التيار الإسلامى، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، أو من البلطجية وأطفال الشوارع، أو حتى من جماعات «الفلول» (25).
وتتمثل الظاهرة الثانية فى ظهور جماعات «البلاك بلوك»، التى تعتبر امتدادا لجماعات عالمية، ظهرت فى بعض الدول الغربية بسبب قضايا محددة، حيث ظهرت هذه الجماعات نتيجة للعنف المفرط الذى مارسته الشرطة الألمانية، فى محاولتها إخلاء سكان بعض المناطق لإنشاء محطة للطاقة النووية. وامتدت الحركة إلى الولايات المتحدة أثناء تظاهرات حرب الخليج، وكان من عناصرها نشطاء الأناركية «الفوضية» واللاسلطوية التى «ترفض الدولة»، حيث بدت البلاك بلوك أكثر عنفا فى عام 2011 ، حينما إحتجت على إرتفاع الأسعار، إذ قامت حينئذ بتخريب كثير من المحلات التجارية فى لندن (26). ومن خصائص جماعة البلاك بلوك تبنى العنف واستخدام أدواته كقنابل المولوتوف، والحجارة. كما تميل إلى الدخول فى حرب شوارع مع الأمن، وهى تنصرف سريعا بعد تحقيق هدفها. من خصائصها كذلك أنها قد تلجأ إلى العنف النوعى مثل قطع الطرق أو السكك الحديدية (27)، إضافة إلى التخفى خلف قناع أسود، واستخدامها لغة مشفرة على غرار حركات العنف السرية، إلى جانب أنها تضم الفئة العمرية من 16-25 سنة، ولديهم قدرة عالية على التعامل مع الفضاء الألكترونى، إضافة إلى عدم امتلاكها لأى توجه أيديولوجى أو فكرى (28).
وتوجد مجموعة من العوامل التى دفعت إلى ظهور جماعة «البلاك بلوك»، حيث يتمثل العامل الأول فى فشل القوى السياسية، فى الحكم أو المعارضة، فى استيعاب القوى الشبابية بعد الثورة. يضاف إلى ذلك أن الاستقطاب الدينى – المدنى لعب دوراً أساسياً فى ظهور الجماعة التى برزت لحماية شباب الثورة السلميين من شباب القوى الاسلامية، ومن أجهزة الأمن. تأكيداً لذلك أنه حينما أصدر النائب العام قرارا بضبط المنتمين لهذه الحركة طالبت القوى السياسية بفتح كافة ملفات العنف، ومنها أحداث قصر الاتحادية، دون الاقتصار على التعامل مع هذه المجموعة بشكل إنتقائى (29). يضاف إلى ذلك إتهام بعض عناصر التيار الاسلامى الكنيسة، بدعم شباب البلاك بلوك، ذلك إلى جانب رخاوة الدولة المصرية على صعيد فضاءات الأمن والقضاء والتنمية، الأمر الذى رسخ جرأة على الدولة (30).
وتشكل البلطجة والتشبيح الظاهرة الثالثة التى نشرت العنف على ساحة الثورات العربية، حيث تظهر هذه المجموعات فى كل التظاهرات الشبابية السلمية، لتؤسس تحولا نوعيا فى التظاهرات، إذ تبدأ المظاهرات عادة بالطبيعة السلمية غير أنها سرعان ما تنقلب إلى ارتكاب بعض سلوكيات العنف، حيث تستخدم الحجارة وقنابل المولوتوف والخرطوش، ليتدخل الأمن، ويضرب الحابل بالنابل. وإذا كانت ظاهرة البلطجة تشوه وجه التظاهر السلمى، ومن ثم شباب الثورة، فإنه باستطاعتنا أن نتعرف على العناصر التى يهمها نشر هذه الظاهرة فى فضاء التظاهر (31). ارتباطا بذلك هناك من يؤكد على أن أطفال الشوارع يشكلون مكونا بارزا فى هذه الظاهرة، فهم يعانون من الحرمان، وتحتوى شخصايتهم روحاً انتقامية. تسعى لحرق هذا المجتمع. الذى لا ناقه لهم فيه ولا جمل، ولا بأس أن يوجه الانتقام إلى الشرطة، التى طالما سامتهم سوء العذاب، بينما يؤكد البعض الآخر بأن البلاطجة والشبيحة هم أدوات النظام القديم، الذى يسعى أفراده من «الفلول» لنشر حالة من الفوضى، لتكون شاهداً على انحراف الثورة، وهم يتحملون عادة تمويل ما يؤجج الحريق وينشر حالة الفوضى. بينما يذهب البعض الثالث إلى أن بعض هذه العناصر تنتمى إلى قوى الاسلام السياسى التى ترغب فى إثبات أن التظاهر يقف عقبه فى طريق الاستقرار. وتوجد شواهد كثيرة على ذلك، نذكر منها الهجوم على مقر حزب الوفد، وجريدة الوطن، وعلى مدينة الإنتاج الاعلامى، وعلى الثوار فى قصر الاتحادية، وماخفى كان أعظم. وفى أحيان كثيرة قد ينضم إلى هذه الشريحة الباعة الجائلون وأبناء الأحياء الشعبية الفقيرة الذين يتوقعون أن تتيح لهم فوضى التظاهر الحصول على بعض الغنائم.
ويعد التحرش الجنسى بالإناث وربما إغتصابهم عنوة أحد المظاهر السلبية التى ظهرت على ساحة التظاهر الثورى. وقد برزت هذه الظاهرة حينما خرجت المرأة بكثافة لتشارك فى التظاهر السلمى الذى استهدف استمرار الثورة وفى التظاهر، فى مواجهة سيطرة الاسلاميين على مقدرات الثورة. فى هذا الاطار تتعجب الناشطة اللبنانية «رويدا مروة» حول انتشار ظاهرة التحرش الجنسى فى دول الربيع العربى، التى سيطر عليها إسلاميون، الذين من المفترض أن يعمل دعاتهم ورموزهم وبوليسهم باتجاه مراقبة السلوك فى محاولة لإعادة أسلمة المجتمع (32). وإذا كانت الأجهزة الأمنية قد عجزت عن معرفة المتحرشين إلى حد اغتصاب تسع عشرة فتاة فى ميدان التحرير وما حولها فإن المنطق يشير إلى أن التحرش الجماعى يصدر عمن عادة يرفض أن تشارك المرأة فى التظاهر، بل والذى يرفض التظاهر أصلاً، وهو عادة الطرف الذى ينظر إلى المرأة نظرة متدنية، خاصة المرأة السافرة، حيث يتعامل المتحرش معها غريزيا وعنوة، حتى يكسر كبرياءها ولا تعود إلى ساحة الثورة والتظاهر من جديد (33). غير أن المرأة المصرية برغم كل ذلك تشارك فى نسج ثورتها، شامخة ومجيدة، بغض النظر عن تدنى الآخرين إلى مستويات غريزية وحيوانية.
ثالثاً: خريطة الجماهير كفاعل أصيل فى الثورة:
نجح شباب الشريحة العليا للطبقة الوسطى فى تصميم الحدث الثورى فى المجتمع الافتراضى، والنزول به إلى الواقع. حيث تحرك الحدث، وأثناء حركته يكبر وتتسع مساحته مثل كرة الثلج. وحينما هبط الحدث الثورى على أرض الواقع، التحقت به شرائح شباب الطبقة الوسطى، الذين يعانون من البطالة وتوقف حركة الحياة، ثم تداعت الطبقة الوسطى، التى كانت مهددة فى نظام ما قبل الثورة بالسقوط إلى أسفل، إضافة إلى القهر الذى فرض عليها بقانون الطوارئ. كما إنتشر حولها الفساد الذى حرمها من حقها فى الحصول على فرص الحياة (34). فى أعقاب ذلك تداعى فقراء الريف والحضر، يطلبون حياة جديدة، فقد جربوا أن الثورات تأتى دائماً بالخير، وآخرها ثورة ناصر فى 1952، حيث اندفع الجميع فى محاولة للإطاحة بالنظام السياسى القائم قبل الثورة، والذى فرض الحرمان فاستحق الكراهية من الجميع.
فى اليمن أيضا تقدمت القبائل كى تتحالف مع شباب الثوار، وفى ليبيا تداعى الجميع ضد ملك ملوك أفريقيا. وبرغم أن حكام هذه المجتمعات – تونس ومصر وليبيا واليمن - قدموا تنازلات كثيرة، غير أن الشعوب رفضت كل ذلك، لأنها كانت فى شوق إلى مجتمع جديد، وفجر تشرق بعده الشمس. فقد تغيرت سيكولوجية الجماهير، كما تغير عقلها وقد بدأ هذا التغيير فى الشخصية العربية بصورة تدريجية، أدركت معها هذه الشخصية حلاوة مضامين الثورة والاحتجاج (35)، حيث سبقت الثورة فى مصر مرحلة من الاحتجاجات الفئوية، التى قابلها الجهاز الأمنى بالقسوة فى البداية، وبسبب الضغوط العالمية اكتفى بحصارها، حيث لعبت هذه الاحتجاجات دوراً أساسياً فى التساقط التدريجى لحاجز الخوف، فى مقابل التراجع التدريجى لقوة وهيبة النظام السياسى السابق على الثورة، ومعه جهازه الأمنى، إعتقادا منه أن الابتعاد عن ساحة المواجهة سوف يهيئ الخواطر والأمور (36).
وفى مرحلة تالية بدأت الثورة تنسج رمزيتها، من خلال فريق من المحتجين الذين يطرقون الأطباق بالملاعق، إشارة إلى الجوع والحرمان، بينما فريق آخر يسير ممزق الملابس، يرمز بذلك إلى العجز عن الحصول على الكساء، فى حين افترش فريق ثالث أرضية الوزارات ورصيف مجلس الشعب، إشارة إلى افتقاد المسكن كلية أو المسكن الملائم (37). على هذا النحو شكلت خبرات الاحتجاج واكتمال الرمزية مرحلة التمهيد لثورة سلامية وحضارية، فى أثنائها سقطت رؤوس الأنظمة السياسية بصورة خاطفة، وبسرعة غير متوقعة. أدركت معها الجماهير أن القهر والحرمان الذى فرض عليها، ليس سببه جبروت الحاكم، بل حالة الخضوع والخنوع التى عاشت هذه الجماهير أسيرة لها. وإبتداء من نجاح الثورة لم تتوقف الجماهير عن الرفض، رفض ممارسات الجهاز الأمنى، بتأكيد أن الشرطة فى خدمة الشعب، وليست سيداً له. فى هذا الاطار تعالت الأصوات بإعادة تأهيل وتربية الأجهزة الأمنية، تحت مسمى إعادة الهيكلة. لذلك كانت كثافة العنف فيما بعد الثورة، إذا حاولت الأجهزة الأمنية الخروج على طاعة الجماهير، أو إذا أراد الحاكم أن يكون فرعونا جديداً (38).
وتشكل الأوضاع المجتمعية فى أعقاب الثورة ظرفا ملائما لتفريخ العنف، ففى أعقاب نجاح الثورات العربية وجدت الجماهير نفسها فى مواجهة أنظمة سياسية، فى غالبها ذات توجهات إسلامية. تسعى إلى دفع الثورة فى إتجاهات بعينها، وبحسن نية أو عن سوء طوية، تأرجحت هذه الأنظمة بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية. وفى إطار هذا التأرجح ارتكبت أخطاء غير متسقة مع المزاج الثورى للجماهير، تأكيداً لذلك أن حركة النهضة فى تونس هى التى سيطرت على المجال السياسى. واستيقظت الجماهير فى مصر، فإذا بجماعة الإخوان المسلمين، قد سيطرت بوضع اليد على الثورة. وفى اليمن تحالف الحوثيون مع شباب الثورة، انتظاراً لاختطاف الثورة منهم حين نضجها، وسارت ليبيا وسوريا على نفس الدرب تقريبا، وأدركت الجماهير، خاصة شرائح الشباب، أن تدينها هو تدين معتدل، وسطى وبسيط، عملا بقول رسولنا الكريم «اللهم الهمنى إيمان البسطاء». ترفض هذه الجماهير القتل باسم الدين كما يفعل الجهاديون، كما ترفض هذه الجماهير، الهروب إلى الماضى كما يذهب السلفيون، لأن الاسلام دين التقدم وإلى الأمام. كما يستبعدون استخدام الدين لقداسته، فى إتجاه تحقيق مآرب سياسية، والقفز على السلطة كما يحاول الإخوان المسلمون. بينما رسولنا الكريم مارس السياسة بعد استكمال بناء المجتمع المتدين، لم يدفع للفقراء زيت ولا سكر، بل قال من غش أمتى فليس منى. ومن الطبيعى أن يقع العنف بين الذين يمارسون الدين بنقاء وطهاره، وبين الذين يتاجرون بالدين فى سوق نخاسة.
وإذا كانت الجماهير التى قامت بالثورة قد تغيرت صورتها عن ذاتها، فهى التى صنعت الثورة، ومن الطبيعى أن يؤكد ذلك إنتماءها لمجتمعها (39). فإذا تراجع أداء النظام السياسى فى أعقاب الثورة، وإذا أدركت الجماهير أن الآمال تتساقط من بين اصابعها، فإنها تدرك أن رأس النظام السياسى قد أخل بمضامين العقد الاجتماعى، الذى سطرته أصابع الناخبين وقت الاقتراع عليه. فى هذه اللحظة تدرك الجماهير أن الثورة هى التى أعادت إليها روحها، وإنتماءها وكبرياءها، وهى الآن فريسة سوء الأداء السياسى والاقتصادى على السواء، الأمر الذى يهدد بعودة الحالة السابقة على الثورة من جديد. فى هذه الحالة تحدث حالة من التوحش الشعبى، إذا لم يستجب النظام السياسى لمطالبها المشروعة، فإنها قد تنحدر إلى حالة من الفوضى، غير محمودة العواقب. تأكيدا لذلك حالة الانتفاضات الجماهيرية التى انحدرت إلى العنف، وسقوط قتلى أو شهداء، فإذا عجز النظام السياسى عن إدارة الأزمة، فإن الجماهير تصبح قابلة لكل سلوكيات العنف المحتملة، حتى لا تضيع الثورة. وعلينا أن ننظر إلى استمرار العنف الجماهيرى على ساحات الثورات العربية، باعتبارها خوفا على الثورة، التى أكدت الكبرياء والشموخ، ودعمت الانتماء والارتباط بالوطن.
رابعاً: النظام السياسى وإدارة ساحات العنف:
تغيرت أشياء كثيرة فى سيكولوجيا المجتمعات العربية ومنها مصر، فلم يعد الحاكم سليل الفراعنة، ولكنه أصبح أحد أبناء الكادحين فى هذا الشعب، ومن ثم فقد سقطت عنه هالة الفرعون. كما تآكلت قابلية الخضوع لدى الجماهير، وأصبحت المساءلة والتمرد والرفض مفاهيم دخلت فى قاموس حياتها اليومية. كما أنها أصبحت جماهير أكثر وعيا، تدرك ضرورة الحرب على الفساد، وتؤكد على أهمية التحول الديموقراطى. كما تدرك أهمية الاتجاه مباشرة إلى حل المشاكل الاقتصادية للجماهير التى صبرت كثيراً. فإذا لم يحقق النظام السياسى ذلك، فإن التظاهر كمظهر للاحتجاج يصبح واجبا، وهو مقدمة للعنف حينما تتصادم الإرادات.
ومنذ قيام ثورات الربيع العربى وجدنا الأنظمة السياسية تمارس العنف مع شعبها كأن شيئا لم يحدث، ففى مصر مارس المجلس العسكرى العنف مع المتظاهرين، وإستخدمت أدوات البطش، بواسطة الشرطة المدنية والعسكرية، والقناصة والبلاطجة ذوى الرواتب الحكومية. كما أن الحكومة اليمنية أعملت القتل والضرب والتعذيب فى الشعب اليمنى، وشباب الثورة، ضاربة عرض الحائط بكل مواثيق وإعلانات وإتفاقيات حقوق الإنسان (40). وحينما تمكنت بعض هذه المجتمعات من قطع خطوات على طريق التحول الديموقراطى، حيث أجريت الانتخابات التى أتت بحكام مدنيين، توقعت الجماهير خيراً غير أنها وجدتهم عاجزين عن تحقيق الاستقرار، الذى اشتاقت إليه هذه الجماهير. ففى كل الثورات العربية وقعت اشتباكات بين المتظاهرين وكتائب الأمن المركزى، الذى إستخدم المياة الساخنة وقنابل الغاز وطلقات الخرطوش والرصاص الحى، حدث ذلك فى مصر وتونس وليبيا واليمن على السواء.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أصبحت الدولة متناقضة، فهى أمام العالم الخارجى والقوى العالمية خاضعة ومطيعة، غير أنها مستأسدة على شعوبها، وإذا كانت الشعوب قد ثارت على التبعية، فإنها تثور وتعنف وتتظاهر، حينما تدرك أنه أصبح للتبعية موطئ قدم من جديد (41). يضاف إلى ذلك أنها دولة تفتقد القدرة على الإبداع، سواء فى التعامل مع شعبها، أو فى مواجهة المشكلات الواقعية، التى تعانى منها الجماهير، أو فى إزالة حالة الاحتقان السياسى وحل تعقيداتها. سلوكها هروبى، تتسبب فى صنع المشاكل ثم تختفى وراء جدران القصور، الأمر الذى أسس حالة من الجرأة عليها، خاصة من قبل جماهير عانت من الحرمان طويلاً. كسرت حاجز الخوف، تأكيداً لذلك الهجوم المتتابع على قصر الاتحادية فى مصر، وكل القصور فى ثورات الربيع العربى. يضاف إلى ذلك أن الدولة لم تعد وحدها تحتكر العنف، كما يؤكد تنظير الاجتماع السياسى، الذى يؤكد على ضرورة احتكار الدولة وحدها لحق ممارسة العنف، وفق القانون لفرض النظام. دون الخضوع لطائفة أو جماعة أو طبقة. غير أننا نلاحظ فى بعض دول الربيع العربى مثل تونس ومصر أن الدولة لم تعد تحتكر العنف، بل ثمة جماعات غامضة من البلطجية تارة، أو بعض فصائل التيار الاسلامى تارة أخرى، أو القناصة وقتلة الثوار تارة ثالثة، أصبحت هى الأخرى مؤسسات تمارس العنف (42)، وهو الأمر الذى يدفع الأطراف التى يوجه إليها العنف إلى ان تعنف هى الأخرى فى المقابل، ونتيجة لذلك تنتشر حالة من الفوضى.
يضاف إلى ذلك أن بعض دول الربيع العربى بعد القيام بثوراتها أصبحت تعانى من حالة من الانسداد السياسى، حيث تتجه غالبية الأنظمة السياسية بعد الثورة إلى تهميش غالب القوى السياسية. كما تتجاهل المطالب الثورية، التى تظل عالقة فى فضاء المجتمع، والتى تستنفر الجماهير لتطرق سلوكيات العنف. يضاف إلى ذلك محاولة اختزال بعض النظم السياسية، الدولة لصالح الجماعة أو الفئة التى ينتمى لها رأس النظام السياسى، أو محاولة اختزال الديموقراطية إلى ديموقراطية الصندوق المصاب بالعبث أحيانا. ذلك إلى جانب ميل الأنظمة السياسية التى تشكلت فى أعقاب الثورات، إلى الاحتكام للعصا الأمنية فى تعاملها مع الجماهير (43)، وكأن شيئا لم يتغير، وأن ثورة لم تتفجر، أو أن الليلة من المؤكد أنها أصبحت أشبة بالبارحة.

المراجع:
(1) بسمة كراشة، لماذا ينتشر العنف فى دول الربيع العربى، متاح على موقع
http://www.bbc.co.uk/arabic/multimedia/2013/02/1320_arabspring_violence_debate.shtnl
(2) متاح على نفس الموقع.
(3) كيف تمنع العنف فى دول الربيع العربى، متاح على موقع
http://www.ahewar.or/dedat/show.artrasp?aid=334702
(4) متاح على نفس الموقع.
(5) كمال السعيد حبيب، الجغرافيا السياسية الجديدة والعنف فى العالم العربى، متاح على موقع سابق.
(6) متاح على نفس الموقع.
(7) متاح على نفس الموقع.
(8) محمد عبد الله يونس، أبعاد وخصائص العنف السلفى بعد الثورات العربية، متاح على موقع
http://rcssmideast.org/%8
(9) متاح على نفس الموقع.
(10) متاح على نفس الموقع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.