ونعم بالله، قبل أن يُساء فهم العنوان أو يُفسر في غير مدلوله، إذ يقول الحديث الشريف "لو توكلتم على الله خير توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً". والمقصود هنا كما سيتبين في المقالة هو الغياب الكلي لدور الحكومة في التعامل مع التحديات الاقتصادية وهي كثيرة، وكأن الأمر لا يعنيها، فضلاً عن تجاهل الجهاز البيروقراطي المتضخم للدولة لما يدور ويحدث في البلاد صغيراً كان أم كبيراً، وكأن الأمر لا يعنيهم. ويمكن في هذا المقام الاستشهاد بالنكتة المشهورة عن الملحد الذي سأل يمنياً عن دخله وإجمالي مصروفاته الشهرية فإجابه اليمني دون تردد أن مرتبه 50,000 ريال وينفق في الشهر 100,000 ريال، والذي كان مدعاة لاستغراب الملحد الذي عاجله بالاستفسار عن كيفية تغطية الفارق؟ فأجابه الموظف ببداهة وفطرة اليمني البسيط:" على الله، مما جعل الملحد يؤمن بوجود الخالق في اليمن. فالأخبار والتحليلات المتخصصة تتناول وبشكل يومي الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها دول الربيع العربي باستثناء ليبيا ذات الطفرة النفطية، بدءاً بمصر التي كانت إلى وقت قريب تحقق فوائض في موازينها الداخلية والخارجية، إلى تونس مضرب المثل في النمو الاقتصادي والتنمية البشرية وحقوق المرأة، إلى دول أخرى تهب عليها رياح الربيع بين الفينة والأخرى دون أن تتمكن من ترك ضغوط وتأثيرات واضحة على حكوماتها وسياساتها التقليدية. والغريب أننا في اليمن ذات الاقتصاد الهش والموارد المحدودة وكذلك المعرضة للهزات الداخلية والخارجية على حدٍ سواء لا نولي هذا الموضوع أي اهتمام، فلا الحكومة تبدو منهمكة بمعالجة مشاكل الاقتصاد وتوفير الخدمات للمواطن ولا المنظمات الدولية وتحديداً البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تتناول هذا الموضوع بجدية، ولا حتى المتخصصين والباحثين منشغلون بهذا الشأن العام لا من قريب ولا من بعيد، إلا ما ندر. فما هو سبب ذلك يا ترى؟ أيكون مؤتمر الحوار الوطني هو المسئول عن ذلك، وبالتالي نلقي اللوم عليه في جذب كل الاهتمام وتسليط الضوء على نشاطه دون غيره، ويكون بذلك قد ظلم الاقتصاد وقضاياه مرتين، الأول باستئثاره على التركيز، والثاني أنه أحال الوضع الاقتصادي وتحدياته التي يتحدث عنها رئيس الجمهورية أنها إحدى ثلاث تحديات أساسية تواجه البلاد إلى جانب السياسية الأمنية، أحالها إلى محور وحيد ضمن محاور تسعة للمؤتمر، ولم يكتف بذلك الظلم بل أسماه محور التنمية الشاملة والمستدامة لتشمل الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية وأي شيء قد يخطر على البال أو لم نجد له مكاناً في المحاور الأخرى. عموماً، ليس الغرض هنا إلقاء اللوم على مؤتمر الحوار الوطني ومن أعد له نتيجة إهمال القضية الاقتصادية وعدم إيلائها الاهتمام الكافي، وإنما الغاية التنبيه إلى غياب أي دور أو تأثير للسياسات الاقتصادية في اقتصادنا المأزوم والذي يركن إلى ما يشبه وضع "اللاسياسات" أي عدم وجود سياسة واضحة ومحددة تتبناها الحكومة لتنظيم الاقتصاد الوطني ونشاطه، بما يجعلنا أقرب إلى ما درجنا على تبريره بالقول "على الله". والأعجب أن غياب سياسات جديدة لا يعني استمرار تطبيق السياسات السابقة بايجابياتها وسلبياتها، وإنما اقترن ذلك بتعطيلها والاكتفاء بنشاط وحيد يركز على رصد المزيد من المخصصات في الموازنة لأغراض التوظيف غير المجدي والتعويضات التي لا يُفهم أساسها ولا معايير صرفها. وهنا تثور مجموعة تساؤلات مثل: إلى أين يسير الاقتصاد الوطني، وماذا عن إنفاق الموازنة وأولوياتها؟ وهل يمكن أن نصل إلى مرحلة تعجز الموازنة نتيجة تلك الممارسات عن صرف المرتبات التي تتزايد سنة بعد سنة - كما في الأردن - ولتصبح موازنة الدولة موازنة أجور ومرتبات فقط؟ ولماذا يقف صندوق النقد الدولي موقف المتفرج ويتغاضى عن تقاعس الدولة من إزالة الأسماء الوهمية وتعدد المرتبات وخاصة في القوات المسلحة والأمن واستمرار استحواذ قادة المعسكرات ومن حولهم على ما يسمى بالرديات، بينما يقوم الصندوق عادة في مثل هذه الحالات بالتلويح بالبطاقة الحمراء ويضع شروطاً صارمة للإصلاحات المطلوبة مقابل أي قرض نقدي يقدمه لدعم الموازنة أو ميزان المدفوعات. أما الموضوع الثاني والذي تكرر الحديث عنه دون جدوى، فهو دعم المشتقات النفطية وسلسلته المشبوهة التي بلغت حوالي ثلث الموازنة العامة للدولة في بعض السنين ولا يستفيد منها الفقراء إلا بحدود 20% في أحسن الأحوال مقابل 80% تذهب إلى الأغنياء وسلسلة الفساد التي لا شك أنها تقف بقوة أمام إزالة هذا الدعم حفاظاً على مصالحها. ورغم أن بعض المعارضين لإلغاء الدعم يبررون ذلك في كيفية إنفاق الوفر الذي يتحقق، إلا أن الحكومة الحالية قد أضاعت فرصة ذهبية لإغلاق موضوع الدعم عندما شحت الكميات المتوفرة منه وارتفعت أسعاره في عام 2011م إلى مستويات تجاوزت الأسعار العالمية بأضعاف، ولكن للأسف لم تُستغل تلك الفرصة وترك الفرصة غصة، وعدنا أدراجنا ليعيش المواطن قلقاً يومياً من رفع الدعم في حين تُصبح الحكومة وتمسي مهمومة بمقدار الدعم في الموازنة، فيا لها من سياسات حكيمة! وأخيراً، السياسة الثالثة الخطيرة متعلقة بالدفاع عن قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية وهو ما أدى إلى تحسن قيمته إلى 215 ريالاً مقابل الدولار واستقراره عند هذا المستوى لأكثر من عام بعد أن كان قد بلغ حوالي 245 ريالاً. ولا شك أن المواطن العادي يسعده جداً هذا الوضع، لكننا نعلم أن أساس هذا السعر غير مستدام خاصة في ظل تراجع الاحتياطي من العملات الأجنبية رغم المليار دولار المتمثل في الوديعة السعودية، بالإضافة إلى المخاوف من تغطية عجز الموازنة وزيادة العرض النقدي عن طريق الطبع مما قد يفاقم الأوضاع الاقتصادية في وقت قصير. فمن يا ترى سيدق ناقوس الخطر ومتى؟، في بلد سياسيوه منشغلون بتقسيم الكعكة، ومفكروه قد غُلبوا على أمرهم حتى باتوا عاجزين عن التفكير والتعبير. إذاً، مسئولية من هذا الحال الذي وصلنا إليه؟ ومن يتحمل تعطيل البرنامج الاستثماري مع استمرار الحديث عن أصدقاء اليمن ومؤتمرات المانحين التي لن تلقى نجاحاً ما لم تظهر الحكومة - وهي لن تفعل - تغييراً حقيقياً وصادقاً في ممارساتها وأعمالها متجاوزة التصريحات الإعلامية المضللة. لذلك، فإلى أن تنتهي المرحلة الانتقالية وهي بطيئة وثقيلة على قلوب اليمنيين في كافة جوانبها، سيبقى الاقتصاد اليمني الهش والضعيف يسير بالبركة.............. ليس بركة العلماء والسياسيين والمشائخ، ولا بركة دول ومنظمات صديقة أو شقيقة، وإنما بركة ورحمة خالق عظيم هو أرحم الراحمين.