خطوات قبل الرحيل: في أواخر عام 1981م كنت مقيماً في تونس بقصد الدراسة العليا في جامعتها. وفي الخامس والعشرين من ديسمبر من ذلك العام بدأت إجازة أو عطلة فصلية لطلاب المدارس الجامعية التونسية لمدة أسبوع. وهي عطلة تقابل عطلة نصف السنة في المشرق العربي. وقد حدد النظام التونسي أيام بورقيبة هذه الإجازة وهي خاصة بالطلاب فقط حتى تتواكب مع ما يعرف عند المسيحيين بإجازة عيد الميلاد بقصد تمكين بضعة آلاف من الفرنسيين والأوروبيين العاملين في تونس وأغلبهم في قطاع التدريس من الحصول على إجازة. وكانت فرصة طيبة لي أن أتجول في بلاد المغرب العربي الكبير وكما يطلق عليه أهله. وكنت قد وضعت زيارتي لهذه البلاد ضمن الأهداف التي أنشدها من وجودي في تونس للدراسة. وهي بلا شك تثري عملياً دراستي العلمية في مجال الجغرافيا. وبدأت الاستعداد والتخطيط لهذه الرحلة والتي ستستغرق من الزمن أسبوعاً، ومن المسافة ستقطع حوالي أربعة آلاف كيلو متر ذهاباً وعودة إلى تونس مرة أخرى، كما أنها ستكون بالبر أي عبر القطارات والحافلات، وهي أرخص تكاليف النقل كما هو معروف. وكانت المعضلة الرئيسية التي برزت أمامي هي قلة ما لدي من مال حينها، وهو لم يتعد الستين ديناراً تونسياً يمكن تحويلها إلى الدولارات فلا تزيد وقتها عن 120 دولار أمريكي. وقد كان الدينار التونسي عندئذٍ في تمام صحته وعافيته، فقد كان يساوي حوالي نصف دولار. ولم أرغب وقتها في الاستعانة بأحد غير الله عز وجل في تمويل هذه الرحلة والتوفيق فيها. وبناءً على المعلومات الأولية التي توفرت لدي حول تكاليف النقل من تونس العاصمة إلى الدار البيضاء "كازابلانكا" ذهاباً وعودة وجدت أن تكاليف النقل البري هذه وحدها ستصل إلى حوالي أربعين ديناراً تونسياً 80 دولار. وهذا يعني أنه ينبغي علي وفي حدود 40 دولار المتبقية أن أتصرف في بقية النفقات كالأكل والسكن والنقل الداخلي. وكنت أدرك حينها أنها مغامرة ربما تقود إلى مآزق ومواقف حرجة وصعبة. ولكنني استخرت الله عز وجل في ذلك وتوكلت عليه في القيام بهذه الرحلة لما أدركه فيها من فائدة علمية وعملية ترتجى وليس فيها ما يشين أو يعيب. ووضعت خطة أو ميزانية متواضعة بهذا المبلغ الضئيل الذي بحوزتي لتغطي ثلاثة بنود فقط هي السفر والسكن والأكل، أي السفر عبر الحدود بين ثلاث دول هي تونسالجزائر والمغرب ذهاباً وعودة ثم السكن والمبيت في خمسة ليالٍ في خمسة مدن ومستخدماً بطاقة تونسية عالمية للإيواء في بيوت الشباب " YOUTH HOSTELS ". وهو نظام عالمي يوفر السكن للشباب والطلاب وبأجر زهيد لا يتعدى الدولار عن الليلة الواحدة وبشرط ألا يمكث النزيل أكثر من ثلاث ليالي فيه. وكان ينبغي علي أن اقتصر في هذه الرحلة على وجبة واحدة في اليوم. وعند الشعور بالجوع يمكن أن أخذ وجبة خفيفة لا تتعدى كلفتها ربع دولار، ومن ذلك الخبز مع الزبادي فقط. وكنت أدرك تماماً عند وضعي لهذه الخطة المالية "الناشفة" وأحدد مسار كل سنت فيها أن احتمالات الفشل والمعاناة فيها أكثر من إمكانية النجاح والتوفيق. ورغم ذلك كنت مندفعاً إلى القيام بها، ربما لإثبات أنه لا يوجد شي اسمه مستحيل وإنما يوجد شيء اسمه صعب يمكن تجاوزه بالصبر والتخطيط والوعي والجدية والالتزام، وهو شكل من أشكال التربية الذاتية التي يحثنا ديننا الإسلامي على القيام بها، وهو ما ألزمت نفسي به منذ الصغر، والتي تقوم على الاعتماد على الذات وبما توفر من إمكانات وأن كانت محدودة من أجل تحقيق طموحاتي بصغيرها وكبيرها. وبعد أن فرغت من وضع هذه الخطة المالية اتجهت إلى تنفيذ أولى الخطوات العملية التي تمكنني من الوصول إلى الجزائر والمغرب. وكان لابد لي من الاستفسار حول تأشيرة الدخول إلى الدولتين، فتوجهت إلى سفارة الجمهورية العربية اليمنية بتونس حيث كنت أقيم، وكانت هي السفارة "اليمنية" الوحيدة في تونس ولم تلحق بها بعد سفارة اليمن الديمقراطية. والمهم أني طلبت مذكرة رسمية من سفارة صنعاءبتونس إلى سفارة المغرب بتونس لأحصل على فيزا للدخول إلى المملكة المغربية. وبالفعل حصلت على هذه الفيزا والإقامة في المغرب لمدة أسبوعين. ثم توجهت إلى سفارة جمهورية الجزائر الديمقراطية الشعبية بتونس وطلبت تأشيرة دخول إلى أراضيها بغرض السياحة، فسألني الموظف المختص عن جواز السفر الذي أحمله فقلت له أنه جواز الجمهورية العربية اليمنية. فقال لي الموظف ليس عليك تأشيرة لدخول الجزائر. ثم سألته من باب الفضول العلمي: وماذا عن أبناء اليمن الديمقراطية مبرراً ذلك بأن لي صديقاً ينوي زيارة الجزائر ويحمل جواز سفر اليمن الديمقراطية. فقال الموظف: لابد له من الحصول على تأشيرة لدخول الجزائر. فاندهشت لهذا القول لما أعرفه عن العلاقة الثورية والنضالية والكفاحية المعلنة إعلامياً بين الجزائر واليمن الديمقراطي وكنت افترض أن بسبب هذه العلاقة النضالية والكفاحية بين الدولتين أن تجعل الدخول لمواطنيهما إلى أراضيهما بدون تأشيرة. ولكن هذه هي السياسة وخفاياها والتي يدفع ثمنها غالباً عامة الناس. والمهم من كل ذلك أنني علمت من السفارة الجزائريةبتونس أن بإمكاني الدخول إلى الجزائر مباشرة وبدون تأشيرة بموجب جواز سفر الجمهورية العربية اليمنية الذي أحمله. ولعله من المفيد لشباب ورجال الحراك في حضرموت وفي الجنوب أن أوضح كيفية حصولي على هذا الجواز والذي تبين مدى استهتار نظام اليمن الديمقراطية سابقاً بمصالح عامة الناس في حضرموت وفي الجنوب، حيث كنت مضطراً بل ومكرهاً لا مختاراً في أن أحمل جواز سفر الجمهورية العربية اليمنية بدلاً عن جواز سفر اليمني الديمقراطية الذي خرجت به عام 1972م من المكلا إلى الكويت للدراسة في جامعتها. وبه كذلك وصلت إلى القاهرة بقصد الدراسة العليا فيها، وكل ذلك على نفقة والدي رحمة الله عليه، ولم تساعدني لا دولة اليمن الديمقراطية ولا الجمهورية العربية اليمنية ولو بسنت واحد في دراستي الجامعية أو العليا. والمهم أنني في القاهرة قد تعرضت للطرد منها مع كل الذين كانوا حينها يحملون جواز سفر اليمن الديمقراطية بسبب موقف اليمن الديمقراطية مع مجموعة دول الرفض أو ما سمي وقتها بدول الصمود والتصدي من خطوة السادات عام 1978م في توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، في حين أبقت كل من الجمهورية العربية اليمنية وسلطنة عُمان والسودان والأردن وجيبوتي والصومال علاقتها مع مصر رغم وجود هذه الاتفاقية. ولعله من الواجب أن أشير هنا إلى مأساة وفاة الشاب الجامعي عبد الله أحمد باسواقي، وهو من أبناء غيل باوزير ومن عائلة معروفة فيها وزميل دراسة بثانوية المكلا. وكان يدرس بكلية الزراعة بجامعة المنصورة بمصر حينها، ويتطلع إلى مستقبل أفضل له ولعائلته، غير أنه كان يعاني من ذات الرئة ويحتاج إلى عناية طبية منتظمة. وقد توفي رحمة الله عليه لحرمانه من هذه العناية بسبب السياسة المتهورة لليمن الديمقراطية والتي أدت إلى إبعاده عنوّه من الأراضي المصرية مع جميع الطلاب حاملي جوازات سفر اليمن الديمقراطية آنذاك. ولاشك أن هذا الشاب باسواقي وغيره ممن قضوا وتضرروا من سياسات النظام الدكتاتوري والمستبد باليمن الديمقراطية هم ضحايا هذا النظام وسيحاسب يوماً على جرائمه هذه. وكان على أن اختار أما أن استبدل جواز سفر اليمن الديمقراطية الذي أحمله حتى أستطيع أن أكمل دراستي العليا، وأما أن اكتفي بما حصلت عليه من علم، فغلبت الخيار الأول وعملت على استبدال جواز سفر اليمن الديمقراطية بآخر للجمهورية العربية اليمنية، خصوصاً بعد أن علمت وأيقنت بدليل قاطع أن بعض كوادر الحزب الاشتراكي ومناصريهم ممن لهم ظروف خاصة يحملون جواز سفر الجمهورية العربية اليمنية، وبعض هؤلاء من أبناء الضالع ويافع ولحج وأبين وعدن وغيرها، مما يجعلهم يتمتعون بمزايا جواز سفر الجمهورية العربية اليمنية أثناء تنقلهم في العالم والحصول السريع على تأشيرات الدخول بل والإقامة في بعض الدول، ولا يواجهوا الصد والرفض والممانعة الذي كنا نواجه نحن حاملي جواز سفر اليمن الديمقراطية في تنقلنا بين دولة عربية وأخرى ولا أقول بين دول العالم. ولاشك أن الذين عاصروا وكابدوا تلك المرحلة يذكرون جيداً الكثير من حقائق وتفاصيل تلك المعاناة بحملهم لجواز سفر اليمن الديمقراطية بسبب السياسات الشاذة والحادة والهوجاء التي كان يمارسها نظام اليمن الديمقراطية والتي أضرّت بمصالح مجاميع كبيرة من الطلاب والرجال والأطفال من أبناء حضرموت ومن أبناء الجنوب كذلك. أما أبناء تعز والحجرية وبعض أبناء الضالع ويافع ولحج وأبين وعدن من كوادر الحزب الاشتراكي باليمن الديمقراطية ممن حملوا جواز سفر الجمهورية العربية اليمنية فقد كانوا في منأى وأمان من تلك المعاناة. وهو سقوط أخلاقي من هؤلاء الذين فرضوا على أبناء حضرموت وأبناء الجنوب حمل جواز سفر لدولة غير مرغوبة وغير مقبولة في المحيط الإقليمي والدولي، بينما هم يحملون جواز سفر لدولة مقبولة ومرحب بها في ذلك المحيط. وهذه معلومات موثقة، وكما قلت نسوقها لشباب ورجال الحراك الجنوبي في حضرموت، وخاصة الذين يرفعون وبلا وعي أو معرفة شعار "استعادة الدولة الجنوبية السابقة". والاوجب هو الاقتصار على شعار "التحرير فقط أولاً وأخيراً"، وحتى يحصنوا أنفسهم من خطايا ورزايا نظام دولة اليمن الديمقراطية السابقة إذا ما بقي شيء من عقليات هذا النظام تسيطر على مفاصل الحراك في حضرموت وكذلك في الجنوب. وهذه استطرادات وذكريات أليمة تداعت أمامي عندما كنت أطلب تأشيرة من سفارة الجزائربتونس للدخول إلى أراضيها، ولعلها مفيدة لمن يطلع عليها ويريد أن يصل إلى حقائق الأمور بعيداً عن الشعارات الطنانة والرنانة. وعود على بدء ففي الخميس 24 ديسمبر 1981م توجهت إلى محطة القطارات المركزية في ساحة برشلونة بوسط العاصمة التونسية لشراء تذكرة سفر بالقطار الدولي في رحلة الغد الجمعة، وحيث أن هذا القطار يقوم برحلة واحدة فقط في اليوم على مدار الأسبوع، وطلبت من الموظف المختص بالمحطة تذكرة سفر من تونس إلى الدار البيضاء والتي خططت أن تكون المدينة الأولى التي سأبيت فيها، ولأن القطار في رحلته هذه سيقطع أراضي الجزائر من شرقها إلى غربها وسينتهي عند الدار البيضاء، فرد علي الموظف التونسي أنه غير ممكن قطع تذكرة إلى الدار البيضاء لأن الحدود مقطوعة بين الجزائر والمغرب والقطارات بينهما لا تعمل بسبب المشاكل بين الدولتين ويقصد بذلك "النزاع والحرب بسبب الصحراء الغربية". ثم أضاف: أنه بالإمكان قطع تذكرة إلى نهاية الخط المعمول به حالياً وهي محطة "مغنية"، وهي آخر محطة جزائرية ملاصقة للحدود المغربية، ثم سألني هل تريد تذكرة ذهاب وعودة أم ذهاب فقط؟ ففكرت لحظة ثم أجبته للذهاب فقط. ودفعت ما طلبه مني من قيمة وهي عشرين ديناراً تونسياً. وقد فكرت لحظتها أن تكون عودتي من المغرب إلى الجزائر إلى تونس بطريق آخر يمكنني من مزيد من الرؤية والإطلاع على المعالم الجغرافية الطبيعية والبشرية بين دولتي الجزائر والمغرب. ولعلها نصيحة أو ملاحظة وصلتني بما كتبه ابن بطوطة في رحلاته وحرصه ألا يكون خط عودته هو نفسه خط ذهابه. [email protected]