انتهى فريق متخصص من الهيئة العامة للآثار في اليمن مؤخرا من إجراء عملية مسح وتوثيق للحرف اليدوية التقليدية في صنعاء القديمة وهو العمل الذي استمر لفترة طويلة بتمويل من وحدة التراث بالصندوق الاجتماعي للتنمية. ولمعرفة ابرز نتائج هذا المسح والمنهجية التي استخدمها الفريق العامل وعن الهدف من إجراء مثل هذه المسوحات التقينا أمة الباري العاضى- نائب مدير عام الدراسات بالهيئة العامة للآثار استشارية المشروع رئيسة الفريق الوطني الذي تولى عملية مسح وتوثيق الحرف والفنون اليدوية التقليدية في صنعاء القديمة. * انتهيتم مؤخرا من عملية مسح شامل للحرف التقليدية في صنعاء القديمة ما هو الحافز وراء إجراء هذا المسح؟ - لعل الإنسان حين يقف أمام نفسه لاستحضار التاريخ، والهوية اليمنية الضاربة في عمق الحضارة الإنسانية، يستشعر حجم المسئولية الملقاة على عاتقه، وهو يقف أمام المدخلات الحديثة للوضع المتردي الذي يصيب حرفنا اليدوية التقليدية، تَدْرِيْجياً نتيجة للغش الذي أكتنف بعض الحِرَف "الفنية التقليدية" لإدخال بعض المعادن المخلوطة. وكذلك ظاهرة اتجاه تجار هذه الحرف لاستيراد قطع غير يمنية مقلدة عن الحرف اليمنية من دول شرق آسيا، وعرضها في الأسواق اليمنية على أنها منتجات يمنية، وهذا بالتأكيد يؤدى إلى فقدان خصوصية الهوية اليمنية الضاربة في عمق التاريخ، والتي تذكر الروايات التاريخية أن الاسم الحالي لصنعاء يعود إلى وجود الصّنعة فيها واشتهارها بعدد من الصناعات الحرفية التقليدية البديعة. وقد اشتهرت تاريخياً بأنها عاصمة الفنون المهنية، فقد ورثت هذه المدينة تقنية الحرف عن الأجداد منذ فجر الحضارة اليمنية التي تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، بدليل الشواهد المادية التي تم اكتشافها على امتداد ساحة الوطن، وعرف اليمنيون علم استخراج المعادن الثمينة منذ العصور القديمة، وصنعوا ونسجوا أجمل الحلي والملابس التي ذاع صيتها. ومن هذا المنطلق فقد رأت الهيئة العامة للآثار والمتاحف ضرورة الإسراع بمسح وتوثيق الحرف اليدوية التقليدية في مدينة صنعاء القديمة، ضمن خطتها التي بدأتها بمشروع مسح وتوثيق الحرف اليدوية في جزيرة سقطرى، وتقدمت بهذا المشروع إلى الصندوق الاجتماعي للتنمية الذي لم يتردد في تبنيه وتمويله، انطلاقا من توجهه لتحقيق التنمية الاقتصادية، ومحاربة الفقر في أطار توجه الدولة لدعم مشاريع المنشآت الصغيرة وتحقيق التنمية الاقتصادية من خلال استثمار الموروث الثقافي. خصائص فنية *ما هي ابرز الخصائص والمميزات التي تجعل من سوق صنعاء القديمة محط أنظار الباحثين عن التراث والتاريخ؟ - يُعد سوق صنعاء من أقدم وأهم الأسواق في الجزيرة العربية، وإليه يعود الفضل في بقاء المدينة حية ومنتعشة حتى الآن، وقد بلغ ذروة ازدهاره في العصور القديمة – قبل الإسلام خلال القرنين "5 -6"م حين كانت مدينة صنعاء مركزاً هاما لتجارة القوافل بين أسواق جنوب الجزيرة العربية وشمالها. وبعد تلبية اليمنيين للدعوة الإسلامية طواعية وازدهار العمران، وتوسع البناء في مدينة صنعاء، أزدهر سوقها وتوسَّع، وازدادت مساحاته مواكبة لمراحل تطور المدينة، فالسوق وفقا لما جاء في دراسة دوستال ومراميه قد تغير كثيرا وتشتت الحرف عن أماكنها الأساسية التي ذُكِرت في مراجعهما إلى أماكن جديدة، وتذكر بعض المصادر: أن صنعاء كانت في القرن التاسع مركزاً نشطاً جداً لتجارة القوافل بين جنوب الجزيرة العربية "اليمن"، وأسواق شرق آسيا، المنطقة العربية. وإذا ما قرأنا شهادات الجغرافيين العرب في تلك الفترة وجدنا أن فروعاً عديدة من حرفها خاصة صناعة الجلد، والنسيج، والثياب، وصقل الحجارة الثمينة التي أحاطت بها صياغة الحلي كانت نتاجا فائضاً يتم تصديره إلى خارج البلاد، وفى الفترة التي تلت تلك أصبح سوق صنعاء مركزاً لاستيراد أو توزيع السلع المستوردة من المنطقة العربية وأسيا وشبه الجزيرة العربية، وكان يستوعب أيضاً قسماً كبيراً من السلع المحلية سواءً أكانت زراعية أم حرفية. ومثّل السوق في النشأة الأولى للمدينة وفى العصور القديمة الرئة التي أحاطتها المباني السكنية بكثافة من جميع الاتجاهات. والجدير بالملاحظة أن حرفيي المدينة من صناع وتجار- كانوا في السابق لا يسمحون لأولادهم بمزاولة البيع والشراء، إلا بعد تدريسهم العلوم الشرعية من فقهٍ، وحساب، فضلاً عن القرآن الكريم، والنحو، والحديث، ليكونوا على علم بفقه المعاملات في البيع والشراء، وما يزال السوق يحتفظ بأربع وعشرين حرفةً، بالإضافة إلى ما تنتجه الجمعيات الحرفية. أسواق متخصصة * ما هي أبرز الملامح المعمارية التي تميز صنعاء القديمة عموما وسوقها على وجه التحديد؟ - يقع في كل سوق متخصص مُنْتَجْ حرفي معين تعمل فيه عدة حوانيت، والحانوت عبارة عن "فضاء معماري تميز بالبساطة، وضيق المدخل، وصغر المساحة، والارتفاع المنخفض، إذ لا يزيد ارتفاعه عن طابق واحد؛ يرتفع على مصطبة "دكه" ارتفاعها50 إلى 80سم والمصطبة هي من الحجر أو الطوب فوق مستوى طرق وساحات السوق. كما توجد مصطبة مرتفعة نسبياً أمامه، ترتفع إلى قرب الباب في الغالب لجلوس المشترى عليها أثناء المساومة في النوعية، والجودة، والسعر، براحة تامة تحت ظل المظلة النافرة من سقف الحانوت. وغالباً ما يتراجع باب الحانوت بنحو 30سم إلى 40سم إلى المدخل عن واجهته، ويستغل فراغ الإزاحة من جانبيه لعرض السلع. ويشغل باب الحانوت أكثر من 80% من واجهات الحانوت. منهجية ميدانية وتاريخية * ما هي المنهجية التي اتبعتموها في عملية المسح لحرف صنعاء القديمة؟ - استخدم في المسح منهجي الدراسة الميدانية التاريخي، إذ تم إتباع عدة مراحل عند استخدام منهج الدراسة الميدانية على النحو الآتي: 1- المرحلة الاستطلاعية " التوعية " والتي شملت الخطوات الآتية : أ- مسح أولى شامل للأسواق الحرفية وللحرف والحرفيين في مدينة صنعاء القديمة. ب- تحديد الحرف اليدوية التي ستشملها الدراسة. ج- : تصميم استمارة مسح ميداني تحتوى على البيانات الآتية " نوع الحرفة – اسم الحرفة رقم الحانوت أو الورشة، اسم السوق، أو الحارة، أو الحي الذي يقع فيه العمل. د- توعية العاملين في الحرف اليدوية بطريقة مباشرة بأهداف الدراسة، والإجابة على استفساراتهم، تمهيدا للحصول على معلومات دقيقة وسليمة عند تنفيذ المرحلة الثانية من مشروع الدراسة. ه - تحديد الوقت المناسب للحرفيين لإجراء المقابلات معهم، لتجنب تعطيلهم عن أعمالهم وتذليل أي عراقيل قد تحدث للفريق أثناء النزول الميداني في المرحلة اللاحقة. و - دراسة وتحليل كافة المعلومات التي تم جمعها ميدانياً أثناء مرحلة الاستطلاع واستخلاص النتائج منها عند الإعداد لتنفيذ المرحلة الثانية. 2- مرحلة تجميع المراجع "البيبلوغرافية" والتي ركزت على ما يأتي : أ- تم تصميم استمارة بيبلوغرافية للمراجع التي تم الاعتماد عليها في جمع المعلومات التاريخية. ب - إعداد رسائل إلى جهات الاختصاص ذات العلاقة الرسمية، وغير الرسمية، تتضمن طلب تزويد الهيئة العامة للآثار والمتاحف بأية مراجع أو وثائق أو دراسات بخصوص هذا الموضوع للاستفادة منها في عملية المسح والتوثيق. 3- تنفيذ حلقة نقاش والتي اعتمدت على مجموعة من المتدربين والمتدربات إلى جانب الفريق الوطني، وذلك قبل النزول الشامل بيومين كان الهدف من ذلك: - إطلاع المتدربين وفريق العمل بالتقنيات الحديثة المستخدمة في عملية مسح وتوثيق الحرف اليدوية التقليدية. - كيفية التعامل مع الفئة المستهدفة من الحرفيين الذين ستشملهم الدراسة. - طريقة تعبئة استمارة النزول الميداني، والكروت الخاصة، بجمع بيانات المنتج لاستخدامها في عملية التصوير. - تعريف المتدربين على المراحل السابقة للنزول الميداني مثل: " اختيار المنطقة المستهدفة لتنفيذ المشروع موقع الدراسة، تنفيذ المرحلة الاستطلاعية، تعريفهم بالببيلوغرافيا، وما تم فيها وما الهدف منها. توضيح أهداف الدراسة ومخرجاتها، تعريفهم بمهام الفريق، إطلاعهم على أدوات المسح والتوثيق الميدان التي سيتم استخدامها في تنفيذ الدراسة " . 4- مرحلة النزول المكثف "الشامل " والتي تناولت الجوانب الرئيسية الآتية: - تم تصنيف العمل الميداني إلى نوعين: النوع الأول : المسح الميداني الشامل للسوق، والمناطق المتفرقة في حارات المدينة القديمة، شمل الحرف الموجودة والحرفيين العاملين فيها. النوع الثاني: التوثيق. توثيق كل ما يتم العثور عليه من منتجات الحرف اليدوية القديمة والنادرة بكل وسائل التوثيق الحديثة وبأحدث الطرق العلمية مثل: - -التصوير الرقمي " Digital " في مختلف مراحل العمل. - التصوير الفوتوغرافي العادي لمراحل التوثيق. - تسجيل لقاءات ميدانية مع شخصيات متميزة من أرباب الحرف، من خلال التوثيق الكتابي " استمارة جمع البيانات والمعلومات "، إضافة إلى التسجيل بالصوت والصورة. - تصوير وتسجيل المؤثرات الصوتية، وطرق الترفية المختلفة، التي ترافق الإنتاج من أصوات وأغاني يؤديها الحرفيون في كل حرفة من الحرف المختلفة "فيديو". - استخدام نظام تحديد المواقع العالمي G P S وذلك لإعداد خارطة حرفية رقمية لمدينة صنعاء القديمة، تبين وتبرز أماكن ونقاط تجمع الحرف وانتشارها، وتوزيعها في ثنايا أسواق وأزقة وأحياء المدينة القديمة. - تحليل البيانات التي سيتم جمعها ميدانياً وتفريغها في جداول بيانية تشمل اسم الحرفي _ نوع الحرفة ... الخ. وقد تم إدخال تلك البيانات بواسطة نظام G I S "قاعدة البيانات الجغرافية الرقمية الأحدث عالمياً" كثاني تجربة للصندوق بعد عمل مشروع مسح وتوثيق الحرف اليدوية في جزيرة سقطرى، وذلك بهدف إنشاء خارطة حرفية لجميع الحرف اليدوية في جميع محافظات الجمهورية. وذلك بغرض تسهيل مهمة الباحثين والمنظمات الدولية في التعرف على ثقافات اليمن من خلال أنظمة معلومات متطورة، يمكن فيها أدراج صفحة خاصة في الإنترنت "حيث كانت النتيجة إخراج 26 خارطة حرفية فرعية إلى جانب الخارطة الرئيسية". العرب اونلاين