بعد فشل إطلاقه.. صاروخ حوثي يسقط بالقرب من مناطق سكنية في إب    "مسام" ينتزع أكثر من 1800 لغم حوثي خلال أسبوع    وسائل اعلام اسرائيلية: هجوم اسرائيلي أمريكي شاركت فيه عشرات المقاتلات ضد اهداف في اليمن    وقفة نسائية في حجة بذكرى الصرخة    ثلاثة مكاسب حققها الانتقالي للجنوب    شركة النفط توضح حول تفعيل خطة الطوارئ وطريقة توزيع البنزين    عشرات الغارات استهدفت ثلاث محافظات    برعاية من الشيخ راجح باكريت .. مهرجان حات السنوي للمحالبة ينطلق في نسخته السادسة    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    الافراج عن موظفة في المعهد الديمقراطي الأمريكي    الثقافة توقع اتفاقية تنفيذ مشروع ترميم مباني أثرية ومعالم تاريخية بصنعاء    تواصل اللقاءات القبلية لإعلان النفير العام لمواجهة العدوان الامريكي    سوريا .. انفجار الوضع في السويداء بعد دخول اتفاق تهدئة حيز التنفيذ    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    الخليفي والمنتصر يباركان للفريق الكروي الأول تحقيق كأس 4 مايو    بمتابعة من الزبيدي.. إضافة 120 ميجا لمحطة الطاقة الشمسية بعدن    الرهوي يناقش مع الوزير المحاقري إنشاء منصة للأسر المنتجة    الزعوري يبحث مع الأمم المتحدة تعزيز حماية وتمكين المرأة في اليمن    الكثيري يبحث مع فريدريش إيبرت فتح آفاق دعم دولي للجنوب    وزارة الشباب والرياضة تكرم موظفي الديوان العام ومكتب عدن بمناسبة عيد العمال    إلى رئيس الوزراء الجديد    عطوان ..لماذا سيدخل الصّاروخ اليمني التّاريخ من أوسعِ أبوابه    مليون لكل لاعب.. مكافأة "خيالية" للأهلي السعودي بعد الفوز بأبطال آسيا    أرواحهم في رقبة رشاد العليمي.. وفاة رجل وزوجته في سيارتهما اختناقا هربا من الحر    الأرصاد تتوقع أمطاراً رعدية بالمناطق الساحلية والجبلية وطقساً حاراً بالمناطق الصحراوية    تفاصيل جديدة لمقتل شاب دافع عن أرضه بالحسوة برصاص من داخل مسجد    بيع شهادات في جامعة عدن: الفاسد يُكافأ بمنصب رفيع (وثيقة)    من أين تأتي قوة الحوثيين؟    رسميًا.. بايرن ميونخ بطلًا للبوندسليجا    تشيلسي يضرب ليفربول ويتمسك بأمل الأبطال    تدشين برنامج ترسيخ قيم النزاهة لطلاب الدورات الصيفية بمديرية الوحدة بأمانة العاصمة    بدء تنفيذ قرار فرض حظر على الملاحة الجوية لمطارات الكيان    نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يعزي في استشهاد عمر عبده فرحان    وسائل إعلام غربية: صدمة في إسرائيل..الصاروخ اليمني يحرق مطار بن غوريون    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    وزير الصحة ومنظمات دولية يتفقدون مستشفى إسناد للطب النفسي    قدسية نصوص الشريعة    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    فيما مصير علي عشال ما يزال مجهولا .. مجهولون يختطفون عمه من وسط عدن    الاجتماع ال 19 للجمعية العامة يستعرض انجازات العام 2024م ومسيرة العطاء والتطور النوعي للشركة: «يمن موبايل» تحافظ على مركزها المالي وتوزع أعلى الارباح على المساهمين بنسبة 40 بالمائة    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    ملفات على طاولة بن بريك.. "الاقتصاد والخدمات واستعادة الدولة" هل يخترق جدار الأزمات؟    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    مرض الفشل الكلوي (3)    التحذير من شراء الأراضي الواقعة ضمن حمى المواقع الأثرية    وسط إغلاق شامل للمحطات.. الحوثيون يفرضون تقنينًا جديدًا للوقود    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    ريال مدريد يحقق فوزًا ثمينًا على سيلتا فيغو    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عناصر القوة في الدور اليمني في التاريخ الإسلامي
نشر في نبأ نيوز يوم 05 - 09 - 2008


مقدمة
عندما بدأت إعداد أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه في تاريخ اليمن في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) وقفت على الدور المميز لأهل اليمن في الإسلام، وما اتسم به من تنوع وشمول، وكنت أكملت جمع مادتي ووضعت خطة أطروحتي وذهبت إلى أستاذي المرحوم الدكتور صالح احمد العلي، وبعد حوار بادرني بسؤال عما جلب انتباهي؟ فأجبته دون انتظار: "حجم المشاركة اليمنية في تأسيس المرحلة الجديدة، وعفويتها." قال: حسنا إذن ابحث في التراكم التاريخي الذي هيا لهذه المشاركة. واتفقنا على مسالتين، الأولى: إلى ماذا انتهى التطور التاريخي لليمن قبل الإسلام؟ والثانية: كيف استقبل أهل اليمن الإسلام؟ غير إنني بعد كتابة المسودة الأولى لأطروحتي اكتشفت أن إجابتي على سؤاله لم تكن دقيقة، فقد اكتشفت ذلك التنوع الفريد في الدور التاريخي لأهل اليمن في الإسلام وعظمة أدائه في إرساء الأساس للحركة الفكرية، والسرعة التي تحول بها اؤلئك المقاتلون إلى علماء معلمين يعلمون القران ويتداولون علومه والعلوم التي تفرعت عنه، حتى باتوا قوام أهل العلم كما كانوا قوام جيش التحري، فحولوا القرى والمدن التي استقروا فيها إلى مراكز للعلم ومدارس للإبداع.
**** العناصر المشكلة للدور اليمني في التاريخ
لعب اليمن دورا في التاريخ، بقدر ما كان واضحا، أحاط به الغموض نتيجة عوامل خارجية يرتبط بعضها بغياب إستراتيجية جادة للتنقيبات، وبعضها يرتبط بغياب قانون ينظم الملكية العامة للآثار والتراث، وبعضها يرتبط بمنهجية البعثات الأجنبية التي على أهمية دورها إلا أنها بعيدة عن تلبية الطموحات الوطنية. غير إن الأهم يرتبط بعدم كفاية القاعدة الأساسية لدراسة التاريخ، رغم المتحقق من الاهتمام، والأعداد المتخرجة في الدراسات العليا.
تتحدد محاضرتي بالدور اليمني في التاريخ، وابتداء" أقول إن الحديث في هذا الموضوع يتطلب استيعابا كافيا للزمن الذي شغله هذا الدور، والمكان الذي شهد هذا الدور، والجماعة البشرية التي لعبته، فمثل هذه الموضوعات أساسية لفهم العوامل التي وقفت خلفه والدوافع والأهداف التي حركت الإنسان اليمني لممارسته.
يمكنني اختصاصي، إلى حد كبير من الحديث بمرونة عن الدور اليمني في التاريخ، وتعينني جولاتي ومتابعتي المستمرة للشؤون اليمنية على التفكير بذلك الدور من خلال استحضار ولو محدود لعناصر الزمان والمكان والإنسان، وبحكم المساحة الواسعة لذلك الدور في الزمان والمكان، فان حديثي سيكون مركزا في السياقات الأساسية واترك التفاصيل للحوار.
سألت نفسي بعد قراءاتي الواسعة عن اليمن، ترى هل يضعنا تاريخ اليمن أمام طبيعة خاصة بالإنسان اليمني، وإذا كان الأمر كذلك فما هي العناصر المشكلة لتلك الطبيعة؟ وقبل أن أجيب أضع أمامكم بعض الملاحظات الأساسية:
أولا-:يخرج الإنسان وهو يرى طبيعة اليمن المعقدة باستنتاج سريع مفاده بان الإنسان اليمني صورة لطبيعة الأرض التي نشأ فيها، ويتحدث الهمداني(344ه) في كتابه صفة جزيرة العرب عن موشرات لتأثير البيئة في الإنسان، لكن ثمة فرق بين (التأثير) و(الصوغ ) وإلا لكنا أمام نماذج متعددة من الطبائع اليمنية، غير إن الظاهر في الدور التاريخي، "وحدة الصانع"، يمكن القول إن البيئة اليمنية أثرت في اتصال الناس ببعضهم، في ألوانهم في لهجاتهم، وربما في السحنة العامة، والنفسية، لكن عملية صوغ الطبيعة البشرية مسألة أخرى أرى أنها تكونت بفعل منظم مركزي على الأرجح هو الماء، ليس بمعنى الندرة إنما بالمعنى العام (الندرة والكفاية)، فهذه المسألة كما في وادي الرافدين ووادي النيل، وضعت الإنسان اليمني أمام معضلة كان لابد إن يتوقف عندها، ويفكر فيها، ويجد لنفسه آلية في التعامل معها.
وقد توقف فعلا واوجد أروع نظام ري إطلاقا، حوّل الماء إلى نعمة سواء كان فائضا أو نادرا. تحولت هذه المعضلة إلى عامل صوغ لطبيعة الإنسان، لهذا رغم مؤثرات البيئة، وتعقيدها الجغرافي الممزق فالطبيعة اليمنية كانت واحدة.
ثانيا- تفرعت من معضلة الماء، معضلة العمران، ولن أتحدد هنا بالمعنى العام للعمران، إنما سوف اختار منه جانبين: يتمثل الأول في تامين الحياة. فبعضنا يعتقد إن محصلة العمران البشري في اليمن هي الزراعة، غير أنني أرى وجها آخر للعمران فتأثير الطبيعة في اليمن كان في الثنائية الاقتصادية( الصناعة والتجارة البحرية) لقد وصف أهل اليمن بأنهم ما بين" دابغ جلد أو ناسج برد أو راكب عرد" وهي إشارة إلى اثر الطبيعة في توجيه العمران، وتبرز قيمة هذا التوجيه إذا غادرنا المعنى الحرفي في المصطلحات الثلاثة ورحنا إلى الدلالة المعرفية لها، فكلنا على علم بما تعنيه الصناعة والتجارة والملاحة من عمليات علمية. ويتمثل الثاني في المحافد، والمصانع، والقصور، ولنستجمع الصورة في أذهاننا، فمعظمنا تجول في اليمن ولفتتت انتباهه تلك الأطلال التي اعتلت قمم الجبال. وألان لنقف ونفكر بما يمكّننا من الإجابة على بضعة تساؤلات:
لماذا قمم الجبال؟
كيف تؤمّن الحياة فيها؟
كيف تدار الحياة اليومية من تلك القمم؟
كم هو الجهد المطلوب للحركة بين نقطتي الصفر(الأسفل) والقمة(الأعلى)؟ الأسئلة كثيرة وما سجلته هو الأكثر تنشيطا للعقل، والأكثر إثارة لتداعي الأفكار. واعتقد أنها بدأت تفعل فعلها ألان، وسوف اتركها تفعل واذهب إلى الاستنتاج المركزي وهو إن الإنسان اليمني باختياره القمم أعطى انطباعا عن أمور كثيرة:
• انه لم يخضع لتعقيد الجغرافية وتسامى فوقها.
• انه ارتبط مع الأعلى( الكون) وحسم مشكلته معه، فاختار أن يكون إلى قربه.
• انه ليس صاحب مشكلة مع الأعلى، مشكلته مع الأرض بكل ما تمثله( الماء، الإنسان الآخر، المفاجآت المحلية).
• انه أصبح قادرا على التدبر، قادرا على إدارة حياته وتأمين متطلباتها اليومية.
ثالثا- تفرعت من هذه الخاصية ميزة المثابرة، فحضارة اليمن ليست "جنات قطوفها دانية"، إنها حضارة إنسانية خالصة، الجهد الإنساني في صنعها هو الذي هيأ إمكانيات الصنع وصورة المصنّع، إنها تعكس جهدا بشريا حقيقيا، وتعكس إيمانا" بالعمل" قيمة أساسية في الحياة، وتعكس مثابرة من نوع فريد يمكننا اكتشافه إذا توقفنا عند أي من مفرداته، (البئر) مثلا، (الشبّاك)، أو( أواني الطعام). تصوروا كم عدد العمليات الابتكارية التصنيعية في أي من هذه المفردات؟ وما هي الآلات التي احتاجتها وكيف صنعّت؟ وعلى وفق أي مستوى من المعرفة الرياضية الهندسية والفيزيائية؟
تفصح مفردات الحضارة اليمنية عن طبيعة بشرية قوية متينة مثابرة مبدعة، عن نفس ممتلئة بالقيم العليا وفي المقدمة منها "تقدير العمل" و" تفعيل العقل" فبدون هذه القيم يصعب الحديث عن حضارة وعن نهضة في أي مكان وزمان.
يتبادر للذهن أننا وضعنا يدنا على سر الإنسان اليمني، وهذا استنتاج مستعجل قد لا يكون دقيقا، فالظواهر التي تحدثت عنها( الماء والعمران وتقدير العمل وتفعيل العقل) هي من الظواهر الجزئية والظاهرة الجزئية لها قيمة بالتأكيد لمنها محدودة، وقيمتها الحقيقية تظهر عندما تلتقي مع ظواهر مكملة، فتشكل ظاهرة كلية، والظاهرة الكلية التي اعنيها هي الطبيعة المدارية السائدة في الوطن العربي التي جعلت صلة الإنسان بالكون صلة دائمة ليس ثمة ما يعيقها بسبب طول ساعات الصحو والتفاوت الكبير بين الليل والنهار، والظل والشمس، والشتاء والصيف. هذه الظاهرة هي التي صاغت الطبيعة البشرية ووسمتها بسمة خاصة، عززتها الحدود المانعة، ويطلق عليها "النمط الحضاري".
**** دراسة تطبيقية- الدور اليمني في الإسلام
انهارت الدولة الوطنية في اليمن القديم أمام الغزو الحبشي، ورغم ما للغزو، من قدرة على التأثير، وسوق المبررات، فالراجح أن انهيارها دلل على عجزها عن الدفاع عن الأمن الوطني، وان ثمة عوامل داخلية بالأساس سببت حالة العجز تلك. تصرفت الروح الوطنية بالضد من النخبة التي قادت اليمن قبل الغزو الحبشي، ونجحت في طرد الأحباش، غير إنها لم تستطع الصمود أمام التقدم الفارسي الذي بسط نفوذه على اليمن وحلّ محل الأحباش.
تحركت الروح الوطنية ثانية وثارت ضد السيطرة الفارسية، غير إن مشروعها الوطني سقط في شرك القطرية، عندما أصبح وجها لوجه أمام امتداد الإسلام إلى اليمن. حسم أهل اليمن الموقف عندما تحركوا ضد القطرية مؤكدين التحامهم بالإسلام. ظهر التوافق بين طبيعة أهل اليمن والإسلام بالاستجابة السريعة له، ويمكننا تتبع دورهم فيه من خلال:
أولا- استجابتهم لواجب الجهاد، فخرجوا إلى جبهات القتال ضد قوى الشرك والتحريف، وكانوا مادة النصر في اليرموك والقادسية، والفسطاط، وظهر حجم مشاركتهم في النسبة الغالبة التي مثلوها في الأمصار الجديدة، فكانوا أكثرية في الشام وكان أهل الحجاز قلة نزلوا دور من جلا عن داره من أهل دمشق. وكذلك كانوا في الفسطاط فعامة أهلها من أهل اليمن إلا أهل الراية الذين لم يشكلوا حجما كبيرا، فجمعهم عمرو بن العاص في خطة حول المسجد، عرفت بخطة أهل الراية. وكانوا في القادسية اثني عشر ألف، مقابل ثمانية آلاف من نزار، واستقروا في أربعة أسباع من سبعة شكلّت خطط الكوفة.
ثانيا- الإسهام المباشر في تأسيس الحياة المدنية في الأمصار، فهم الذين خططوا الأمصار وأنزلوا المقاتلة فيها. وحسب البلاذري فان خطط حمص وبعلبك اشرف عليها يمانيون في مقدمتهم السمط بن الأسود الكندي بل إن مصطلح الأجناد الذي أطلق على المستقرات الجديدة قد يكون مشتقا من الجند التي كانت مركز القوة العسكرية الحميرية في اليمن قبل الغزو الحبشي، ومثله مصطلحي الأسباع والأرباع في الكوفة والبصرة وخراسان. وحسب السيوطي فان خطط الفسطاط وضعها أربعة من أهل اليمن هم معاوية بن حديج التجيبي وشريك بن سمي الغطيفي المرادي وعمرو بن قحزوم الخولاني وحيويل بن ناشرة المعافري.
ثالثا- الدور الواسع في الحياة العلمية. ظهر الدور العلمي لأهل اليمن مبكرا، وعبرّ عن نفسه بقوة في الإنتاج العلمي لأهل العلم، وبخاصة ماألّفوه من كتب في شتى الاختصاصات، وهو تقييم ظاهري يحتاج كي يكون كاملا الوقوف على طبيعة تلك المؤلفات، ومضمونها المعرفي.
لعب اليمانيون دورهم في نطاقين جغرافيين من عالم الإسلام هما:
1: نطاق اليمن
نشطت المراكز العلمية في الجند وعدن وصنعاء ومأرب ونجران، وان كان بشكل متفاوت، إلا أن هذه المراكز شهدت حياة علمية قادها رجال علم تخصصوا في علوم الإسلام المختلفة ( علوم القرآن والحديث واللغة والتاريخ وعلم الرجال وعلم الكلام). وكان اليمن واحدا من سبعة مراكز دوّن فيها العلم، فصنّف معمر بن راشد الازدي البصري اليمني مصنفه في علم الحديث.
استمرت حركة العلم بعد ذلك وشهدت نشاطا في رواية العلم وكتابته، كما شهدت توالد أجيال من العلماء، بلغ عدد من أحصيته حتى الآن(229) عالم حتى نهاية القرن الثالث الهجري، أما بعد ذلك فقد حدث متغير تاريخي مهم أحدث انعطافا في مجرى الحياة العلمية في اليمن، تمثل في دخول فكر كل من الهادي يحيى بن الحسين(ت298ه)، و الشافعي إلى اليمن. استقرّ الهادي في صعدة، وتركز فكر الشافعي في الجبال، وشكلا مصدر حفز فكري نشط، ونشط تلاميذ الهادي في صنعاء، ثم انشئوا هجر العلم، وشهرت من الهجر هجرة سناع ، وهجرة مدر التي أسسها بالغ ألوزيري، وهجرة وقش، في القرن الرابع الهجري. ونشط أئمة الزيدية في صعدة ومن ثم قي ذمار وصنعاء. شهدت المرحلة بعد الهادي انشقاق الوسط الزيدي ونشاط حركة التعارض بين الأئمة فتأثرت الحياة العلمية بذلك.
نشط الشافعية في خطين هما العلم والقضاء، فكانا وسيلتان ناجحتان في نشر العلم ونشاط حركة التأليف. ونشطت إلى جانبهما خطوط علم مستقلة لعبت دورا في نشاط حركة العلم تدريسا وتأليفا. لقد توفر لي إحصاء علماء اليمن الذين درسوا في مساجد أو في دورهم أو في مجالس علم أو مدارس، واؤلئك الذين ألفوا الكتب فبلغ عددهم الأولي(1880) عالما، فيما بين 300-928ه.
مضمون الحركة العلمية في اليمن:
يمكن تحديد مضمون أي حركة علمية من الوقوف على تخصص علمائها ووجهتهم في التأليف ثم من محتوى مؤلفاتهم، وقد أنجزت حصر عدد كير من المؤلفات التي وضعها أهل العلم من أهل اليمن، وتوصلت إلى تحديد تخصص معظم أهل العلم الذين أحصيتهم، غير إني لا ازعم أنني قادر على الحديث عن مضمون المؤلفات التي وضعوها لعدم توفرها، وعدم قدرتي على الوصول إلى الكثير منها، لهذا سوف يقتصر حديثي في هذه المحاضرة عن تفرع المعرفة اليمنية في الإسلام وتحديد تاريخ هذا التفرع قدر الإمكان.
وأول التخصصات كان في علوم القران( القراءة والتفسير) وهما علمان يعود تأسيسهما إلى أيام معاذ بن جبل. غير إن محاولة كاملة في التفسير وردت عن طاووس بن كيسان، ثم تلته محاولة أكثر نضجا على يد معمر بن راشد الازدي (153ه) ووضع نشوان بن سعيد الحميري(573ه) تفسيرا.
وفي الحديث ترد المحاولة الأولى عن همام بن منبه(140ه) وطاووس أيضا غير إن المحاولة الأنضج كانت لمعمر وتلميذه عبد الرزاق الصنعاني(211ه). ثم ظهر كتاب أبو قرة موسى بن طارق اللحجي(203ه) في السنن. ثم بدأت الكتابة في الفقه على يد أبي قرة(203ه)، و ظهرت محاولة مبكرة في علم الكلام لمحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني(243ه). وبدأت الكتابة التاريخية عند وهب بن منبه(114ه)، وتلاه مؤرخ اليمن الحسن بن احمد الهمداني(ق.4).
أشير هنا إلى أن هذه المعلومات غير نهائية وإنها عرضة للتصحيح بعد انجاز معجم المؤلفات اليمنية.
2- نطاق الأمصار.
بدأ هذا الدور منذ أن أوكل الخليفة عمر بن الخطاب مهمة القضاء لرجال من اليمن، احدهم شريح الكندي قاضي الكوفة، غير إن هذا الدور تعاظم مع التحول إلى الحياة المدنية، عندما ظهر دور مراكز العلم التي تأسست على جهود الصحابة والتابعين، واشتمل اليمن على خمسة مراكز علمية فرعية هي الجند وعدن وصنعاء ومأرب ونجران. وكان له شرف المساهمة المبكرة في الانتقال من الرواية إلى التصنيف فكان مركزا لواحد من المصنفات السبعة الأولى عندما وضع معمر بن راشد الازدي(95-153) مصنفه في علم الحديث.
لا تتوفر لدينا حتى الآن دراسة لمراكز العلم في الإسلام تقدم لنا كشفا بالتوزيع الجغرافي أو القبلي(!) أو العلمي لأهل العلم في الإسلام، رغم أننا ندين بالفضل لجيل من المشتغلين بعلم الرجال الذي خلّفوا لنا ثروة من المعلومات عن المشتغلين بالعلم.
لقد قادني اهتمامي بالتاريخ الاجتماعي إلى الوقوف على ما في تلك الأعمال من ثروة، ورغم أن دراساتي السابقة بقيت في بغداد الحبيبة- أعان الله المجاهدين على تحريرها- إلا إنني قادر على أن أضع أمامكم بعضا من المعلومات تفيد في تقدير الدور العلمي لأهل اليمن في الأمصار. ففي الفسطاط وحسب إحصاء أولي كان عدد العلماء من أهل اليمن (775)عالم من أصل(811) عالم، في الأندلس(215) من أصل(838) عالم، وفي الكوفة (163 ) عالما من أصل ( 408 ) عالم، وفي حمص كانوا أغلبية مطلقة، وفي دمشق (94) عالم من أصل (200).وإذا علمنا أن تلاميذ معاذ بن جبل وجلهم من أهل اليمن شكلوا لولب الحياة العلمية في الشام والكوفة، نكون وقفنا على طبيعة علمهم وأهمية دورهم.
أسباب ودلالات هذا الدور؟
أتسم الدور اليمني في الإسلام بالشمولية فكان دورا عسكريا مميزا في معارك الإسلام، وكان دورا مدنيا متحضرا في الحياة العامة، وكان دورا رائدا في الحياة العلمية، غير إن الدراسات العربية لم تتنبه إلى الصورة التي لعب فيها أهل اليمن ذلك الدور، ولم يتوقفوا عنده، ولم يسالوا أنفسهم عن الكيفية التي استطاع بها شعب محتل وممزق أن يلعب ذلك الدور، ونحن نعلم جيدا كيف يعمل الاحتلال.
لجأ الأحباش إلى تخريب المعتقدات والثقافة الوطنية، وقضوا على الدولة. واحتضن الفرس اليهودية واستنزفوا الثروة الوطنية وأحدثوا شرخا في المجتمع اليمني. ومزقت الخلافات الداخلية النسيج الاجتماعي للمجتمع اليمني. وقاد استخفاف الزعامات التقليدية بالرسول الكريم (ص) إلى حركة معارضة وارتداد، ومع كل ذلك خرج أهل اليمن إلى الجهاد بالصورة التي عرفناها، فكيف نفسر هذه الحالة؟ تقف وراء كل ذلك عوامل عدة:
أولا- وضوح سياسة الرسول (ص)، ففي رسائله إلى ملوك حمير حمل نظرة تقدير للحياة الثقافية اليمنية القديمة، وأكد على اعتزاز الإسلام بالتاريخ الوطني اليمني، عندما خاطبهم بالملوك، وأرسل لهم معاذ بن جبل، ليقيم بينهم، ولم يفعل ذلك مع المحتل، وطمأّن المجتمع المنهك المستنزف إلى سياسة اقتصادية تريحه.
ثانيا- اقتران الدعوة إلى الجهاد بمواجهة عسكرية مع خصمين (الروم والفرس) كلاهما له تجربة مع اليمن، أي أن الإسلام وضع أهل اليمن مع فرصة لتأكيد الذات الوطنية مع قوى احتلت اليمن واستنزفت خيراته، وسعت إلى إشعاره بالدونية.
ثالثا- أعاد الإسلام من خلال الجهاد ونشر الإسلام بين الشعوب صدى ما اختزنت الذاكرة من روايات ملحمية عن دور يمني في العصور الغابرة، ولكن بجوهر جديد وإطار أوسع.
رابعا- وضع الإسلام أهل اليمن على الطريق الصحيح للتطور التاريخي، إزاء دور تاريخي رسالي، لايذكّرهم بدورهم القديم حسب، إنما يجعلهم جزء من خيار الهي لتبليغ رسالته للعالمين، وإقامة السلام الإسلامي، وبناء حضارته. ويقف من يتابع أخبارهم، وسلوكهم في الجهاد، والأقوال المنسوبة لهم في حوارهم مع أعدائهم، وعيهم العميق بالدور الذي انتدبهم له الإسلام وشكل تمثلهم للتاريخ. ويعكس قول ذو الكلاع في حواره مع القائد الروماني في معركة اليرموك، صورة من صور هذا الوعي بالدور التاريخي :" أننا نقتفي آثار أسلافنا" والإحساس بان الإسلام أتاح للإنسان اليمني تجديد دوره في التاريخ ولكن بأسس فكرية جديدة.
الاستنتاج النهائي:
نخرج من هذا العرض بمحصلة نهائية إن اليمن والإنسان اليمني هما عنصران في بيئة منتجة للمعرفة، أي أن هذا الإنسان أمتلك القدرة على التأمل ورصد الظواهر وتحليلها وصوغها في نظريات. وان هذه الميزة كانت حاضرة في الزمن اليمني، غير إن مثلها مثل أي كائن حي تنمو في الزمن، وتأخذ أطوارا حتى تبلغ ذروتها، وإنها بلغت هذه الذروة في الإسلام، لان الإسلام أتاح لليمني الذي كونته التجربة التاريخية، دورا رساليا يلعبه في التاريخ، ويعبر به عن ذاته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.