نهاية الانقلاب الحوثي تقترب.. حدثان مفصليان من مارب وعدن وترتيبات حاسمة لقلب الطاولة على المليشيات    الأحزاب والمكونات السياسية بتعز تطالب بتسريع عملية التحرير واستعادة مؤسسات الدولة    لحظة إصابة سفينة "سيكلاديز" اليونانية في البحر الأحمر بطائرة مسيرة حوثية (فيديو)    شركة شحن حاويات تتحدى الحوثيين: توقع انتهاء أزمة البحر الأحمر رغم هجماتهم"    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    الوزير الزعوري يهنئ العمال بعيدهم العالمي الأول من مايو    توجيهات واحصائية".. اكثر من 40 ألف إصابة بالسرطان في اليمن و7 محافظات الاكثر تضررا    بالفيديو.. عالم آثار مصري: لم نعثر على أي دليل علمي يشير إلى تواجد الأنبياء موسى وإبراهيم ويوسف في مصر    يوم تاريخي.. مصور يمني يفوز بالمركز الأول عالميا بجوائز الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية في برشلونة (شاهد اللقطة)    تشافي لا يريد جواو فيليكس    مركز الملك سلمان يمكن اقتصاديا 50 أسرة نازحة فقدت معيلها في الجوف    تفجير ات في مأرب لا تقتل ولا تجرح كما يحصل في الجنوب العربي يوميا    للزنداني 8 أبناء لم يستشهد أو يجرح أحد منهم في جبهات الجهاد التي أشعلها    عودة الكهرباء تدريجياً إلى مارب عقب ساعات من التوقف بسبب عمل تخريبي    برشلونة يستعيد التوازن ويتقدم للمركز الثاني بفوزه على فالنسيا برباعية    تراجع أسعار الذهب إلى 2320.54 دولار للأوقية    اختتام برنامج إعداد الخطة التشغيلية للقيادات الادارية في «كاك بنك»    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    هجوم جديد على سفينة قبالة جزيرة سقطرى اليمنية بالمحيط الهندي    رئيس جامعة إب يطالب الأكاديميين الدفع بأبنائهم إلى دورات طائفية ويهدد الرافضين    نابولي يصدّ محاولات برشلونة لضم كفاراتسخيليا    البكري يجتمع ب "اللجنة الوزارية" المكلفة بحل مشكلة أندية عدن واتحاد القدم    عقب العثور على الجثة .. شرطة حضرموت تكشف تفاصيل جريمة قتل بشعة بعد ضبط متهمين جدد .. وتحدد هوية الضحية (الاسم)    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    اتحاد كرة القدم يعلن عن إقامة معسكر داخلي للمنتخب الأول في سيئون    شاهد.. مقتل وإصابة أكثر من 20 شخصًا في حادث بشع بعمران .. الجثث ملقاة على الأرض والضحايا يصرخون (فيديو)    وزارة الداخلية تعلن ضبط متهم بمقاومة السلطات شرقي البلاد    يجب طردهم من ألمانيا إلى بلدانهم الإسلامية لإقامة دولة خلافتهم    ماذا لو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل؟    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    بينها الكريمي.. بنوك رئيسية ترفض نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن وتوجه ردًا حاسمًا للبنك المركزي (الأسماء)    قيادي حوثي يذبح زوجته بعد رفضها السماح لأطفاله بالذهاب للمراكز الصيفية في الجوف    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    ريمة سَّكاب اليمن !    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الباحث والمؤرخ / حيدر علي ناجي ل«الجمهورية»:
اليمنيون أشد الشعوب تمسكاً بالماضي
نشر في الجمهورية يوم 19 - 01 - 2013

غاص كثيرا في الماضي وحلق في المستقبل مستقرئا نتائجه التي يعتبرها امتداداً لسابقتها، الباحث والمؤرخ اليمني الأستاذ حيدر علي ناجي مدير عام الشئون الثقافية والتعليمية بوزارة المغتربين ومدير عام مكتب التربية والتعليم السابق بمحافظة ريمة، في حديث ضاف للجمهورية، على طريقته الموسوعية التي تدهش القارئ أو المستمع وهو يفلسف أحداث التاريخ بحدس السياسي الماهر.. إلى نص الحوار..
.. تاريخ اليمن يكاد يكون كله تاريخ صراع أكثر منه تاريخ استقرار.. لمحة تاريخية؟
- حقق اليمن فترات استقرار وفترات صراع ، ولكل منهما أسباب ونتائج، ورغم تميز كل مرحله بخصوصيتها وملابساتها التي يصعب حصرها أو استعراضها ، فانه يمكن التأكيد – من خلال استقراء التاريخ اليمني – أن الإسهام الحضاري الذي قدمه اليمن في تاريخ الإنسانية (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية) لم يتم إنجازه إلا في ظل فترات الأمن والاستقرار النسبي (سيروا فيها ليالي وأياما آمنين).
إن هذا الأمن خلق تناغما وتكاملا بين الموارد البشرية الطبيعية (الأرض والإنسان )برعاية وإدارة دولة رشيدة فأشرقت حضارة يمنية متوهجة كانت آية من آيات الكون وجنة على الأرض، بل كانت (جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) ولازالت آثارها ساطعة وراسخة حتى اليوم ليس في اليمن وحدها بل في أماكن متفرقة من المعمورة، والحديث عنها آيات تتلى إلى يوم القيامة.
إن حقيقة الارتباط بين الاستقرار والتقدم الحضاري لا يحتاج إلى إثبات، فمن المستحيل تحقيق أي تقدم في ظل الصراعات والخلافات، وهو ما يقودنا إلى حقيقة أخرى، تؤكدها الوقائع التاريخية أيضا، وتتمثل بوجود ارتباط وثيق بين الصراع والتخلف إذ يقود الصراع إلى التدمير وتعطيل الطاقات وإهمال الموارد والزراعة وتهدم السدود وقنوات الري والمنشآت الاقتصادية العامة، فيسود الفقر، وهو الدافع الأول إلى التطرف والفساد والتعصب والجرائم والانحراف، وتزداد التداعيات وتنتشر العصابات والكوارث التي تقود إلى المزيد من الصراعات وظهور طبقة الطغاة والانتهازيين وتحكيم منطق القوة والتعصب الأعمى والذي لا ينتج غير المزيد من الشر والدمار (فبدلناهم بجنتيهم جنتان ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل). وليس هذا فحسب؛ بل إن المجتمع يصاب بالتفكك والانحلال وتتلاحق مواكب اللاجئين والمهاجرين للبحث عن وطن بديل آمن بعيد عن القرابة وأبنا العموم (وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فمزقناهم كل ممزق)
.. هل للمذاهب الدينية أثر مباشر أو غير مباشر على هذا الصراع؟
- المذاهب في اليمن – كانت وسيلة مؤثره أو عاملا مساعدا، وليست سببا أو عاملا رئيسيا للصراع، فالشيعة في اليمن بقسميها الزيدي والباطني حاربت الإمامة أكثر من حربها أهل المذاهب الأخرى؛ بل إن الزيدية حاربت في صف الإدريسي الإمام السني في تهامة، مفضلين إمام الذهب على إمام المذهب!! وبالمقابل فقد واجه العثمانيون السنيون مقاومة شرسة في مناطق سنية في اليمن مثل ريمة والحجرية ويافع لا تقل ضراوة عن مقاومة الإمامة الزبدية، وقد حقق العثمانيون انتصاراتهم على الإمامة الزيدية بمساعدة أنصارهم الشيعة الباطنيين والزيديين، وحتى في تاريخ اليمن القديم نجد تعايشا وتناغما وتسامحا بين أتباع المذاهب والأديان وبين أتباع الآلهة المتعددة في العصر الوثني.. وفي عصر التوحيد حصل تعايش بين الوثنيين وبين اليهودية ثم بينهما وبين المسيحية، وكانت حادثة الأخدود التي أدت إلى التدخل والاحتلال الحبشي هي الاستثناء في تاريخ اليمن القديم، ولا يوجد أي دليل أن الأحباش قد أرغموا اليمنيين على اعتناق المسيحية ، كما لا يوجد دليل أن الفرس قد فرضوا المجوسية خلال فترة احتلالهم لليمن، فقد خاطب الرسول عليه الصلاة والسلام ملوك اليمن في رسائله كما يخاطب أهل الكتاب و تربى في عهد الفرس علماء اليهود اليمنيين مثل وهب ابن منبه وكعب الأحبار، كما ازدهرت أيضا الكنيسة المسيحية في نجران، وعلى ضوء ما سبق يمكن القول إن المذاهب الدينية إحدى الوسائل أو العوامل، وليست الأسباب الجوهرية للصراع فقد شهدت اليمن تنوعا وتعددا للمذاهب كما شهدت تنوعا وتعددا في التضاريس والمناخ والسلالات والتراكم التاريخي وما ترتب على ذلك من تنوع في المحاصيل والموارد والتركيبة لاجتماعية، وما تراكم عنها من تعقيدات في النسيج الاجتماعي وتعدد في الطبقات والفئات وأدت بمجموعها إلى بروز طائفتين متميزتين إحداهما قبلية شيعية محاربة أقرب إلى البادية، والأخرى زراعية مستقرة سنية أقرب إلى المدنية، وإن كان هذا التقسيم ليس دقيقا، ولكنه الغالب، ويستخدم كوسيلة فاعلة في الأحداث عند الحاجة.
عموما مثلما كانت كل هذه العوامل والتراكمات والتعقيدات عاملا سلبيا مؤثرا في تأجيج الصراع فقد كانت أيضا عاملا إيجابيا ومؤثرا في التقدم، ويقدم نموذجا فريدا للثراء الحضاري والتنوع الفكري والثقافي لا يمكن إغفاله، مما يحتم البحث عن الأسباب الجوهرية للصراع والتي يمكن أن تجتمع كلها في السلطة، مصدر الرخاء ومصدر الشقاء، فحينما يكون الحكم رشيدا ونظامه واضحا ويحظى برضا وموافقة الأغلبية (ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) وحينما يكون هذا شعار رئيس الدولة في زمان ومكان يصبح من حق الشعب مالك السلطة ومصدرها أن يرسم خطط المستقبل ويسعى إلى تنفيذها ويراقب مستوى التنفيذ ويسن القوانين ويشيد صروح الحضارة ويمتلك كل عناصر التفوق ويعلن للعالم: (نحن أولو قوة وأولو باس شديد) بما يجمله مفهوما القوة والبأس من دلالات ومحددات الدول العظمى، فالحكم الرشيد يحقق الأمن والاستقرار وما يترتب عليهما من استغلال الطاقات والموارد التي تحقق الازدهار الاقتصادي؛ أما حينما يتم التحايل على هذا النظام الجماهيري بالانحراف فإنه يفتح مرحلة من التداعيات والصراعات والانهيار الاقتصادي .
.. يقال أن اليمن من البلدان التي تنتج فائضا أقل بجهد أكثر، ومن المستحيل أن ينجح أي مستبد يحكمه، خلافا للبلدان التي تنتج فائضا أكثر بجهد أقل كمصر “هبة النيل” مثلا في بلدان كاليمن يستحيل فيها التفرد والاستبداد، ما ذا ترى؟
- أنا لا أعتقد بالقواعد النظرية التي لا تستند إلى وقائع التاريخ، فأنا أمتلك قناعة راسخة أن الحاضر وليد الماضي .. ونتيجة العزلة التي عاشتها الشعوب في الماضي فقد تكونت لدى كل منها شخصية مستقلة بموروثها وثقافتها التي تنظم العلاقات الداخلية للمجتمع ونظرتهم للسلطة والحاكم وحدود الطاعة والولاء وحدود ومبررات الخروج والعصيان . صحيح أننا في عصر تداخلت فيه الخطوط والثقافات وتقاربت المفاهيم وتعاظمت المؤثرات الخارجية حتى كادت تقضي على المقومات والقيم الموروثة، ولكن الخصوصية لازالت فاعلة ومؤثره .
سأضرب لك مثلين وردا في القرآن الكريم عن كل من اليمن ومصر يمكن أن تلاحظ أثرهما في فكر الشعبين إلى اليوم، فالملكة بلقيس كانت تؤكد على وجود قاعدة المشاركة الشعبية في الحكم وفي صنع القرار السياسي وتحرير الفكر من العبودية والارتهان، وقد ترتب على هذا الحكم الرشيد الاستقرار والازدهار وتسخير الجهد البشري لمصلحة الإنسان نفسه كالسدود ووسائل الري والمدرجات الزراعية والقصور والمعابد والقلاع وأسباب القوه والمنعة والبأس، بل لم يتقبل الشعب اليمني على مر التاريخ أية سلطة تصادر عليه هذا الحق الموروث، وما كثرة الصراعات في اليمن إلا شهادة على استمرارية التمسك بهذا الحق وصعوبة انتزاعه؛ بينما نجد الفرعون يمنع على شعبه حتى حق التفكير(لا أريكم إلا ما أرى) وقد ترتب على هذه السياسة تحويل الجهد البشري إلى بناء مجد الفراعنة فقط من أهرامات وقبور وما يحتاجونه معهم عند دفنهم من أموال ومقتنيات وجواهر تكتظ بها المتاحف المصرية، والمعالم الأثرية، وقد ورث المصريون القمع والإرهاب الفكري والخوف من الحاكم فتمكن الطغاة من الاستمرار منذ عهد الفراعنة إلى اليوم . صحيح أن هناك مقاومة وثورات ولكنها لم تنتج أي تغيير جوهري في الوعي الجمعي للشعب المصري ونظرتهم إلى السلطة والعلاقة التي يجب أن تسود بين الحاكم والمحكوم.......
.. ثمة تشابه نسبي بين اليمن من جهة واليونان من جهة أخرى في الطبيعة الجغرافية وريعها، لذا مثلت اليونان كعبة الديمقراطية سابقا من بين دول أوربا، كما هو الشأن لدى اليمن في تاريخها القديم.. والقرآن شاهد على الأخيرة.. ما الذي نستشفه من ذلك؟
- هذا صحيح إلى حد كبير غير أنه يجب الانتباه إلى أن المجتمعات العربية والإسلامية وقعت في فخ الثقافة الغربية التي رسخت في الأذهان انفراد الغرب بالحضارة وما عداهم برابرة، واستنادا إلى هذا التصنيف كانت اليونان هي مهد الحضارة ولا تسبقهم أمة أخرى في نظام الحكم والعلوم وو..الخ. وحينما نشط المستشرقون اكتشفوا خطأ هذا التصنيف حيث سبقت حضارة وادي النيل وبلاد الرافدين وبلاد العربية السعيدة “اليمن” بل وحضارة الصين والهند.
فاليمن كانت قد وصلت إلى قمة النضج السياسي ونظام الحكم الديمقراطي في مطلع الألف الأول قبل الميلاد بدليل العبارة الشهيرة الواردة في القرآن على لسان ملكة سبأ في عهد النبي سليمان في القرن العاشر ق. م. صحيح أن الدراسات التاريخية اليمنية تفتقر إلى المصادر التفصيلية, لكن هذه الحقيقة الواردة في القرآن قد أكدتها مصادر لاحقة بما فيها المصادر اليونانية نفسها أن نظام الحكم في سبأ لا يقوم على النظام الوراثي فحينما يعتلي الملك العرش يتم حصر نساء النبلاء “نواب الشعب في مجلس الملا” الحوامل، وأول مولود يصبح الملك التالي بعد موت الملك القائم. ويمكن إبراز تفوق التجربة اليمنية وأصالتها في النقاط التالية:
أولا: لا يوجد أي دليل على أن اليمن قد تأثرت بأنظمة سابقة عليها، بينما وساطتها للتجارة وأسبقيتها على اليونان تؤكد تأثر الأخيرة بالتجربة اليمنية، استنادا إلى نظرية تلاقح الحضارات.
ثانيا: التجربة اليونانية كانت حصيلة تطور اضطراري، حيث ظهرت ملامح هذا التطور في ظهور الأنظمة السياسية التي مرت بها والتي تزيد عن ست مراحل أو أنظمة بدءا من النظام القبلي حتى وصل إلى الحكم الشعبي الديمقراطي، حيث بدأ هذا النظام قبل نشأة الدول اليونانية بسيطرة زعماء القبائل وامتلاكهم للأراضي الزراعية والرعوية، وكان أوسعهم امتلاكا للأراضي هو الذي يمارس دور الحاكم، وقد كان تحول النظام القبلي إلى النظام الملكي هو أول نظام عرفته دولة المدينة وأساسه شخص الملك, وكان يقاسمه السلطة رؤساء القبائل والعشائر واستمر هذا النظام حتى بدأ في التخلخل والانهيار وقيام النظام الارستقراطي, لتصبح السلطة في يد جماعة من الناس هم أصحاب وملاك الأراضي و تحول من نظام حكم فردي مطلق إلى نظام جماعي له دستوره وقوانينه..
وعندما ازدهر النشاط التجاري بين المستعمرات والمدن اليونانية ظهرت طبقة التجار واستطاعت بثرواتها الكبيرة أن تنافس الطبقة الأرستقراطية، وتحاول الاشتراك في الحكم في ما سمي حكم الأقلية ولم يستمر هذا النظام كثيرا, فعندما بدأت طبقة العامة تظهر بثقلها في المجتمع اليوناني بدءوا يبحثون عن دور سياسي يلعبونه في المجتمع, فبدأت الثورات الشعبية في المدن اليونانية للتخلص من حكومات الأقلية وكان الذي يقودهم أبناء الطبقات الثرية الذي وجدوا فيهم فرصة للوصول إلى الحكم على أكتاف الطبقة العامة، وسمي هؤلاء الزعماء “الطغاة”. ثم انفجرت الثورات الشعبية ضد الطغاة وأدت إلى اغتيال عدد منهم وهروب آخرين، وبذلك كانت نهاية حكم الطغاة ليبدأ نظام الحكم الشعبي الديمقراطي ويحل محل الحكم المطلق، وسرعان ما انهارت هذه الأنظمة الديموقراطية أمام إمبراطورية الاسكندر المقدوني.
بينما نجد التجربة اليمنية ثابتة وراسخة ولم تتغير إلا في فترات الضعف والتدخل الخارجي والصراعات الداخلية التي تكون نتيجة لهذا حتى في العصر الإسلامي حينما كانت الوراثة ضمن دعائم الخلافة الإسلامية فإن اليمن قد وجدت في شروط الإمامة ما يتناسب مع الموروث السياسي القديم في رفض النظام الوراثي.
ثالثا: اشتهرت اليونان بالتنظير أكثر من التطبيق، وقد واجه المنظرون والمفكرون حربا لقمع أفكارهم، بينما اليمن اشتهرت بالتطبيق العملي القائم على الحاجة والخصوصية وتلمس الطرق الأكثر نجاحاً وسياجاً من الاختلافات والصراعات داخل بيئة اجتماعية يسودها التناغم والتفاهم، أي أن اليمن كانت أكثر تطبيقا للديمقراطية بدون أسس نظرية إلا إذا كانت مدفونة تحت الأنقاض .
رابعا: كانت اليونان تنتهج الديموقراطية المباشرة في دويلات المدن التي يسهل جمع سكانها للتصويت المباشر والذي يتعذر تطبيقه إلا عبر انتخابات نيابية لتباشر التحدث والتصويت نيابة عن ناخبيها بديموقراطية غير مباشرة، وهذا ما كان موجوداً في اليمن منذ فجر التاريخ.
.. في الوعي الجمعي والثقافة العامة لدى المواطن اليمني أنه لا يرى لنفسه حقا عند حاكمه، وأنه لم يعتمد على الدولة فيما يجب أن تضطلع به من مسئولية تجاهه ومازالت هذه الثقافة إلى اليوم، خلافاً لكل الشعوب التي تعتمد في كل مقوماتها الحياتية على دولتها.. ما هذه المفارقة؟
- ربما لامتلاك المواطن اليمني لكل وسائل الإنتاج في الملكية الخاصة أو الفردية هي السائدة والحيازات ظلت بيد الأفراد متوارثة جيلا بعد جيل حتى أموال الأوقاف وأملاك الدولة، وهي قليله، وبالتالي فإن وظائف الدولة كانت محدودة في القضاء والدفاع مقابل ضريبة الزكاة التي يقدمها المواطن سنويا من الناتج أو المحصول، وحيث لا تملك الدول' وسائل الإنتاج، فلا يمكن أن تحملها من الوظائف أكثر من إمكانياتها المادية المتاحة، وحينما ازدهرت الصوفية في اليمن استغنى المواطن عن القضاء الرسمي وتم حل المنازعات عبر هؤلاء الصوفيين مقابل النذور التي يقدمها المواطن عن طيب خاطر .
كانت هذه الخصوصية في اليمن منذ فجر التاريخ بخلاف الشعوب الأخرى، وفي العصر الإسلامي تميزت اليمن بأنها عُشرية لا خراجية، وبإمكانك التمييز بين النوعين، فقد تحولت الأرض الخراجية ملكاً للفاتحين أو قطاعاً عاماً بلغة اليوم، وأصبح السكان أجراء وفلاحين غير ملاك يعملون كعمال لدى الدولة الفاتحة، وقد ترتب على هذا الوضع اعتماد السكان في كل قضاياهم ومتطلباتهم على الدولة. وحينما ساد عصر الإقطاع في أوروبا وتأثرت به الدولة الإسلامية في عصر السلاجقة والعثمانيين فقد ظل هذا التأثير محدودا في اليمن، وحتى محاولة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بتحويل اليمن الأسفل إلى أرض خراجية، قد واجهت مقاومة وظل تنفيذها محدودا أيضا. وحينما سادت الأنظمة الشيوعية في القرن العشرين وصاحب بعضها سياسة التأميم للملكية الفردية، تعرضت المحافظات الجنوبية لتلك السياسة ولكنها لم تتمكن من التخلص من النمط الاجتماعي القائم على العشائرية والمناطقية المتربصة بالنظام والمتشبثة بالجذور مهما تظاهرت بالحماس لهذا التغيير، صحيح إن التغيير عميق لدرجة قيام جيل جديد متشبع بمحتواه ولكنه لم ينتج أكثر من خلخلة لا نزال نعاني آثارها ونتائجها حتى الآن، وهذا ما يفسر بعض الاختلافات بين مواطني المحافظات الجنوبية والشمالية في متطلبات الدولة المنشودة ، فأولئك يستغربون تخلي الدولة عن وظائفها التي اعتادوا عليها، وهؤلاء يستغربون هذه المطالب التي لم يعتادوا عليها .
كل ذلك التراكم التاريخي هو الذي رسخ مفهوم الوظائف المحدودة للدولة؛ لكن ذلك في الماضي فحسب، حينما كانت وسائل الإنتاج بيد المواطن، أما اليوم فالثروة العامة التي يختزنها باطن الأرض من بترول ومعادن وما يترتب عليها من مصانع ومعامل الاستخراج والتحويل والتكرير والتصدير ومصادر الإضاءة والمياه والمصانع العملاقة، كل هذه الوسائل أصبحت ملكا للدولة، وأصبح القطاع الخاص أو الملكية الفردية محدودة الموارد أمام متطلبات الحياة المتعددة والمعقدة، وبالتالي لابد من تحول وظائف الدولة بما يتناسب مع حجم الموارد ووسائل الإنتاج التي تملكها. ولابد من ترقية الوعي الجمعي اليمني لإدراك التحول الذي طرأ في مفهوم الوظيفة العامة للدولة، والبركة في رجال الصحافة ووسائل الإعلام والنقابات والأحزاب إذا كانت تنطلق من مصلحة اليمن .
.. في تاريخ اليمن الحديث عادة ما تنتهي الصراعات السياسية بمصالحات وطنية وهي كثيرة، ولا يكاد الحسم الثوري يتصدر المشهد مهما كان محقا.. كيف تقرأ ذلك؟
- تكررت هذه الظاهرة حتى تكاد تكون لازمة يمنية، وبالطبع كان لكل أزمة أسبابها وأحداثها والتعقيدات التي رافقت نشوءها وتطورها والعوامل التي حتمت التقارب وإجراء المفاوضات لحلها سلميا.
غير أنه يمكن ربط هذه الظاهرة بعدد من العوامل الموروثة ومنها التنوع في التركيبة الاجتماعية التي اتسمت بالتباين الواضح بين طائفتين قبلية وزراعية، ويشمل هذا التباين درجة التماسك والارتباط بين أفرادهما، ودرجة المدنية والولاء والارتباط بالدولة والقانون، ومنها المصالح والامتيازات التي تمكنت من اكتسابها بعض النخب على حساب الفئات الأخرى التي ترى هذه الامتيازات من الطفيليات التي تعيد المجتمع إلى الطبقية والبعد عن الموطنة المتساوية فانتشرت حالة التذمر بين فئة تحارب من أجل الحفاظ على مصالحها وفئة تقاوم للقضاء عليها وتناضل من أجل تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وسيادة القانون، وفوق ذلك فإن اليمنيين أشد الشعوب تمسكا بالماضي وموروثه التاريخي الذي رسخ النمط القبلي عند طائفة وما ترتب عليه من السلوكيات والأعراف الملزمة والمستعصية على التطور أو التمدن أو المرونة أو القبول بالآخر أو الخضوع للقانون والدولة، مقابل طائفة أخرى حريصة على العصرنة والحداثة..
.. في البدء تقول لي: اليمن دولة المدنية ودولة النظام والتشريع والآن تقول إن قوانينه عصية على التطور والتمدن وهل القوانين إلا رؤى واضعيها وواضعوها هم نخبة القوم؟
- لقد أثبت الماضي القريب بناء على هذه العوامل وغيرها عدم قدرة أي طرف سياسي على تحقيق الحسم العسكري أو امتلاك عناصر التفوق، ففي خلال ربع قرن فقط من الحكم العثماني الأول عقد العثمانيون الصلح مع الإمام القاسم أربع مرات، فضلا عن فترات الصلح التي سبقتها مع الإمام شرف الدين وابنه المطهر، وفترات الصلح التي أعقبتها مع المؤيد ابن القاسم حتى غادر العثمانيون اليمن، وخلال فترة الدولة القاسمية اضطر الأئمة إلى مصالحة خصومهم ومنافسيهم والخارجين عليهم وإقطاعهم الأقاليم التي تحت أيديهم مقابل البيعة والاعتراف الاسمي بالسلطة.
وقد تكررت الظاهرة عند عودة العثمانيين رغم تفوقهم في جميع المجالات، كان آخرها صلح دعان عام 1911م والذي مهد للإمام يحيى استلام اليمن بعد انسحاب العثمانيين عام 1918م.
وحتى لا نتوغل في الماضي فإن علينا الاعتراف أن اليمن منذ مطلع القرن العشرين حتى اليوم خضع كما خضعت الدول الإقليمية والعربية للمؤثرات الخارجية التي تم التفاعل معها بحسب خصوصيتها والظروف المحيطة بها، فقد تقاسم العثمانيون والبريطانيون النفوذ في اليمن، ثم تنافست الأخيرة مع الدول الاستعمارية في النصف الأول من القرن العشرين... ثم خضعت اليمن للحرب الباردة بين القطبين فضلا عن التيارات الفكرية والسياسية ذات البعد القومي والإسلامي والأممي والوطني، وطغت فترة حرب الشعارات والمفاهيم والولاءات التي ساهمت في تجذير وزيادة الانقسامات في الجوانب الفكرية والسياسية إلى جانب الانقسامات الموروثة “انقسام اليمن إلى دولتين وانقسام المجتمع إلى طائفتين” وكانت النتائج المتوقعة هي تدمير اليمن وإشعال الحروب وزيادة الضحايا والخسائر في جميع الأطراف، الأمر الذي يدفع في النهاية إلى البحث عن حلول تجنب اليمن وأهله الأخطار المحدقة.
ولم يكن اليمن وهو زاخر بهذه الموجات والشرائح والتيارات في ظل تكافؤ القوى هو المسرح أو المحصلة النهائية للصراعات والحلول ولكنها تستمد جذوتها غالبا من المحيط الإقليمي أيضا, فاليمن يقع في منطقة التماس مع المصالح الحيوية للدول العظمى في الدول الإقليمية التي تتباين أيضا مع اليمن في أغلب التوجهات الفكرية والسياسية، وقد ظلت هذه الدول الإقليمية بإمكانياتها الضخمة حريصة على لعب الدور الحيوي في القضايا اليمنية، والذي تبين للأسف الشديد انه دور مزدوج، يعمل محرضا تارة ومصلحا تارة أخرى ، فأصبح هذا الدور عامل استقرار وعامل اضطراب في الوقت نفسه.
بل إن هذه الدول لديها وصفات جاهزة تكاد تتكرر في القضايا اليمنية، فالأزمات تتصاعد بدون مقدمات وتنتهي إلى مصالحات بدون منطق مثل المصالحة الوطنية عام 1970م برعاية سعودية والتي تضمنت إشراك الملكيين، باستثناء بيت حميد الدين في قيادة الدولة، وهي نفس الوصفة التي تضمنتها المبادرة الخليجية هذا العام مع تغيير الأسماء، وهكذا يمكن إسقاط النتائج على ظاهرة الحروب الستة في صعدة ..
ومن الباعث للاعتزاز أن الأطراف اليمنية مهما اختلفت الظروف والأطراف تعود أخيراً إلى العقل والحوار وحسم صراعاتها بالمصالحة وخلق دافع جديد للبناء والنهوض بعيداً عن مشاعر الكراهية والبغض والإحباط “لا غالب ولا مغلوب”.
إن الحسم العسكري غالباً ينتج الطغيان حتى باسم الشعب والثورة ويقسم المجتمع حتى في ظل شعارات المواطنة المتساوية، ويولد الكراهية والتربص والهدم حتى في ظل مرحلة التسامح والبناء .
.. اليمن محل اهتمام العالم الخارجي من زمن بعيد، كما أصبح محل اهتمام الإقليم مؤخرا.. ما سر هذا الاهتمام؟
- كان موقع اليمن الجغرافي ومناخها المتميز وتقدمها الحضاري منذ فجر التاريخ قد أهّلها للعب دور هام في العالم القديم ومنها:
احتكار الوساطة التجارية بين الشرق والغرب فيما عرف بطريق مدن القوافل وطريق البخور، فقد كانت اليمن أول من استأنس الجمل سفينة الصحراء وأقام المدن التجارية على أبواب الوديان الشرقية، فكانت الصين والهند تبيع منتجاتها من الحرير والتوابل وتستورد المنتجات الواردة إلى اليمن؛ بل إن اليمن كما ورد على لسان الهدهد “قد أوتيت من كل شيء”.
أنتجت اليمن البخور والعطور بكل أنواعه وإنتاجه وتجارته قرونا عديدة واحتفظت بأسراره حتى اختلطت بالأساطير ولهذا سماها اليونان بلاد العرب السعيدة.
بعد اكتشاف الطرق البحرية ظلت اليمن تمارس دورها طوال العصر الإسلامي في التجارة والزراعة ومختلف المجالات، وكانت البوابة الجنوبية الهامة للمشاعر المقدسة في الحجاز.
في العصر الحديث تميزت اليمن بزراعته وتجارته لفترة تزيد عن قرنين, وقد كان للبن اليمني من الأهمية ما يفوق أهمية البترول اليوم!!
هذه بعض العوامل التي قفزت باليمن قديما إلى مركز الاهتمام العالمي ويكفي أن نشير إلى بعض مظاهر الاهتمام باليمن...... فقد تضمنت الوثائق الصينية القديمة أن إمبراطور الصين قام بزيارة إلى اليمن في مطلع القرن العاشر قبل الميلاد والتقى الملكة بلقيس وهي الفترة السابقة لأحداث اللقاء المشهور بين الملكة والنبي سليمان، بما يعني أن الملكة كانت محل اهتمام الشرق والغرب، وقد تعرضت اليمن للغزو من قبل الرومان إلا أن الحملة العسكرية هُزمت عند أسوار مارب في الربع الأخير من القرن الأول قبل الميلاد ومعروف أن اليمن قد تعرضت بعدها للاحتلال الحبشي والفارسي.
لنفس الأسباب وأسباب جديدة أيضا تعرضت اليمن للتنافس الدولي في العصر الحديث، فقد تعرضت لمحاولات غزو متعددة من البرتغاليين والعثمانيين والبريطانيين والفرنسيين. واهتمام تجاري من الهولنديين والإيطاليين والألمان والاتحاد السوفييتي..
بعد الحرب العالمية الثانية فقدت الدول الاستعمارية التقليدية مكانتها أو توارت إلى الصف الثاني ليحل محلها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وظهرت معهما النظريات الاقتصادية المتناقضة، التي أدت إلى انقسام الدول الكبرى إلى يمين ويسار تزعمت أمريكا اليمين، وتزعم الاتحاد السوفيتي اليسار، وبرزت التكتلات والتحالفات والتوترات فيما عرف بالحرب الباردة، وكان من المستحيل على أية دولة الإفلات من هذا الصراع، رغم بروز الكتلة الثالثة تحت اسم دول عدم الانحياز. وكانت اليمن أكثر الدول العربية تأثرا بهذه التحولات.
.. ارتبط اليمني منذ قرون بعيدة بالهجرة والاغتراب بصورة ملفتة.. برأيك ما ذا تمثل الهجرة والاغتراب لليمني؟ وهل أسباب الرزق منعدمة في بلده؟
- الهجرة سمة يمنية متميزة، أضافت إلى التاريخ الإنساني صفحات ناصعة البياض، وأصبحت مصدر فخر واعتزاز كل يمني، فإلى جانب أنها كانت رافدا أساسيا للتنمية والبناء في الوطن، فإنها كانت أيضا مساهمة في بناء وتطور وتنمية البلدان التي هاجرت إليها، ليس في الجوانب المادية والعمرانية فحسب، بل في القيم وبناء الفكر والإنسان نفسه، ولازالت آثارها شامخة وساطعة وراسخة ومؤثرة حتى الآن.
ولم يكن الفقر هو الدافع الرئيسي للهجرة اليمنية فقط، فقد تعددت الدوافع واختلفت باختلاف الظروف والعوامل التي أحاطت بكل فترة وبكل دولة، ومن الصعب الإحاطة بكل منها في هذه العجالة، ولكن يمكن إلقاء نظرة سريعة على أهم الهجرات اليمنية حسب تسلسلها التاريخي في السطور الآتية:
في فترة ما قبل التاريخ يقدر علماء السلالات أن اليمن كان الموطن الأول للجنس السامي، فسميت لذلك صنعاء مدينة سام بن نوح، ثم حدثت حركات طبيعية رفعت الصحراء الشرقية فانعدمت المياه وتصحرت التربة، وسببت موجات من الهجرة يشكلون اليوم كل العنصر السامي في العالم.
بعيدا عن التخمين السابق نجد موجة أخرى من الهجرة مؤكدة في القرن السادس قبل الميلاد إلى شرق أفريقيا نتيجة حملة عسكرية قادها “كرب إل وتر” ضد مملكة أوسان في الجزء الجنوبي الغربي من اليمن وأباد هذه المملكة وألجا حكامها ومواطنيها إلى الهروب عبر البحر، كما ورد في نقش النصر الذي سجله بعد الحملة، ولا يزال حتى اليوم في صرواح، وهو أكبر نص حتى الآن. إن هذه الهجرة لم تكن كما هو واضح بدافع الفقر، وإنما بدوافع سياسية، ولهذا تضمنت الهجرة قيادات عسكرية وإدارية وخبرات زراعية ومهندسين، فنقلوا تفوقهم وتقنياتهم التي لم تكن موجودة في شرق أفريقيا، ومنها الكتابة وتقنيات الزراعة كالمحراث والسدود ونظام الري، وقد تمكنوا من كسب السكان الأصليين والسيطرة عليهم وإدارتهم ، وأقاموا مملكة الأكسوم في الحبشة وبدءوا مرحلة جديدة من التأثير على مجريات الأحداث في اليمن الأم في محاولة استعادة السيادة والسيطرة على اليمن والحبشة معا، فظهر تشابه في التراث والآثار، بل والأحداث، وتوجد من أثر هذه الهجرات إلى شرق أفريقيا خمس لغات سامية متداولة إلى اليوم، وفي مقدمتها اللغة الأمهرية لغة الحبشة الرسمية، والتي لازالت تكتب بحروف المسند الذي انتقل مع هؤلاء المهاجرين اليمنيين الذين تركوا في الحبشة معالم حضارة سامقة لا يمكن نكرانها.
يذكر الإخباريون أن موجة أخرى من المهاجرين اليمنيين قد حدثت بعد خراب السد، الذي تم إهماله نتيجة الصراعات السياسية على السلطة، وما السد إلا رمز لكل المقومات الاقتصادية التي تدمرها الحروب والصراعات، ومن هؤلاء المهاجرين كل القبائل العربية القحطانية المقيمة في شمال ووسط الجزيرة والعراق والشام وصعيد مصر. وقد تكونت من هؤلاء دولة الغساسنة وملوك كندة والأوس والخزرج في المدينة وبقية الأزد وبجيلة وجرهم في مكة..الخ. ويبدو أن الدافع لهذه الهجرة لم يكن الفقر فحسب، بل كانت دافعاً سياسياً للهروب من الصراعات الداخلية، بدليل أن هذه الهجرة قد ارتبط بها المثل العربي: “تفرقت أيدي سبأ”.
عند بزوغ شمس الرسالة الإسلامية هب اليمنيون لاعتناق الإسلام، بل ولبوا دعوة الخلفاء الراشدين للاشتراك في الفتوحات الإسلامية التي حمل لواءها اليمنيون جنباً إلى جنب مع إخوانهم القيسيين حتى وصلت إلى تخوم فرنسا غربا والقسطنطينية شمالا والسند والصين شرقاً. وكان اليمنيون إلى جانب أنهم حملة رسالة إسلامية إلى العالم فإنهم كانوا بناة حضارة حملت فيما بعد خصائص الحضارة الإسلامية، فقد وجه الخليفة عمر بن الخطاب بأن يتولى اليمنيون تخطيط وبناء الأمصار المفتوحة ومنها البصرة والكوفة والفسطاط في مصر.
توقفت الفتوحات الإسلامية بالقتال في العهد العباسي, ولكن اليمنيين لم يتوقفوا عن واجبهم في نشر الإسلام في البقاع المتاحة من العالم القديم عن طريق الإقناع والمثل والقيم وسلوك القدوة والمثالية ومكارم الأخلاق التي كانت متأصلة وصقلها الإسلام. فاستغلوا الدور الحيوي الذي تلعبه اليمن في الوساطة التجارية بين الشرق والغرب . فتوغلوا في شرق آسيا تجارا ومعلمين وحملة دعوة تأثر بها سكان شرق آسيا الذين يشكلون اليوم ما يزيد عن نصف عدد المسلمين في العالم؛ بل إن تفوقهم في السلوك قد رفعهم إلى منزلة القديسين في تلك الربوع فأقاموا لهم الأضرحة الضخمة والقباب وجعلوها مزارا لهم وجزءاً من طقوسهم التعبدية ولا تزال تلك الجاليات إلى اليوم محل إجلال وتقدير.
فإذا تجاوزنا الهجرات المرتبطة بالنشاط الصوفي في عهد الدولة الرسولية والطاهرية فإن آخر موجتين من الهجر اليمنية كانت إحداهما في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين إلى شرق أفريقيا والسودان نتيجة النشاط الاستعماري وعدم اطمئنان المستعمرين إلى السكان الأصليين ولا تزال الجاليات إلى اليوم تمارس التجارة والبناء وتحرص على الارتباط بالوطن والدين واللغة العربية عن طريق المدارس اليمنية التي تجاوزت اهتمامها بالجالية اليمنية إلى تشكيل الهوية الثقافية في هذه المجتمعات ويمكن اتخاذ جيبوتي نموذجاً..
أما الهجرة الثانية في القرن العشرين فقد كانت هجرات مؤقتة إلى السعودية ودول الخليج وأوربا والولايات المتحدة, وكان دافعها الفقر الذي ارتبط بتخلف اليمن عن الحصول على موارد نفطية كافية في وقت الطفرة النفطية التي فرضت أنماطاً جديدة من المعيشة والإسراف في الإنفاق وزيادة متطلبات الحياة المدنية الحديثة. ومع هذا فإن اليمنيين لم يتخلوا عن القيم والمثل التي تميز بها أسلافهم. مما جعلهم أكثر الجاليات الأجنبية قبولا وانسجاما مع المجتمعات في مهاجرهم .
.. القبيلة والدولة في صراع دينامكي لم يخمد أواره بعد منذ فترة طويلة.. القبيلة لم تتماه في الدولة كما هو الشأن في كثير من الدول.. بم تعلل ذلك؟
- القبيلة في اليمن لا تحمل المعاني اللغوية التي تعني المجتمع الرعوي البدوي المقيم في الخيام المتنقل بحثا عن الكلأ والمرعى هو الحال في بادية سوريا أو البوادي العربية في وسط الجزيرة أو الصحراء الغربية ، كما أنها لا تعني القبيلة المرتبطة بروابط الدم والسلالة، فقد أصبحت هذه الرابطة نسبية أو منعدمة وإن كان أفراد هذه القبائل يصرون على وجودها كإطار إلزامي يتمسكون به ويدافعون عنه.
لقد تخصصت العديد من الدراسات لتناول ظاهرة القبيلة في اليمن من حيث بنيتها القبلية أو من حيث علاقتها بالدولة، من ضمنها دراسات د. فضل أبو غانم ، بالإضافة إلى الدراسات التاريخية التي تناولت القبيلة ضمن القوى الاجتماعية المؤثرة في الأحداث منذ فجر التاريخ إلى اليوم.
سنركز فقط على موضوع السؤال، فخلال الثلاثة القرون السابقة كان الصراع بين القبيلة والدولة يثور ويخمد بحسب قوة الدولة المادية والعسكرية، فقد لخص الدكتور حسين العمري هذه العلاقة في القرن الثامن عشر بقولة «كانت مشكلة القبائل اليمنية الشمالية إحدى وأعوص وأقدم المشاكل التي تواجهها أية حكومة مركزية في صنعاء، وذلك بما تثيره من عصيان ضدها أو هجوم على بعض المدن أو المناطق القريبة أو البعيدة عن العاصمة التي لم تسلم هي نفسها من الحصار والنهب والقتل، كما كان الاقتتال فيما بينها أو حمايتها أو مؤازرتها لخارج على الحاكم مجال صراع وقتال تسيل فيه الدماء وتخرب الحواضر والقرى وتضطرب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فتتأثر حياة الناس ويعانون من هول ذلك الأمرين».
لقد كانت تلك بعض الأنشطة القبلية فما دور الدولة؟ يلخص الدكتور العمري هذا الدور بقوله: “وهكذا نجد الأئمة في صنعاء قد درجوا على مواجهة هجمات القبائل أو عصيانها بالقوة حينما يكون الحاكم منهم قادراً، وأحيانا بالإيقاع بين قبيلة وأخرى، أو بالاثنين معا. وفي أحايين أخرى كانوا يصلحون الأمر ويصالحون المهاجمين على مبلغ من المال يتم بموجبه تجنب القتال أو فك الحصار، وتعود القبائل إلى ديارهم، غير أن هذه المصالحة سرعان ما تنتهي بعودة الأسباب الدافعة للهجوم أو العصيان سواء كانت تلك الأسباب جفافا وجدبا وهو دافع رئيسي أم إثارة أو استشعارا بحيف أو ظلم أو ثأرا أو انتقاما لهزيمة سابقة أو بحثا عن رزق سهل من سلب ونهب معتاد لا رادع له إلا القوة، فإن عدمت مثل هذه الأسباب فالمال الذي أصبح أحيانا إتاوة سنوية، فإن تأخر الدفع أو نقص فلا مناص من تكرار فصول المأساة.
لقد كثرت فتاوى العلماء اليمنيين حول هذه الظاهرة المقلقة، ويكفي أن نستدل بما ذكره شيخ الإسلام الشوكاني من حديث طويل وصف القبائل بثلاث صفات، منها أنهم خارجون عن سلطان الدولة، ومنها أنهم يحتكمون إلى الطاغوت “الأعراف القبلية” بدلا عن الشريعة الإسلامية، أما الثالثة فإن غالبهم يستحل دماء المسلمين ولا يتورع عن شيء منها، ويفتي الشوكاني بكفرهم وواجب قتالهم وجهادهم، ويقول: «فإن ترك من هو قادر على جهادهم فهو متعرض لنزول العقوبة».
لقد انتقل الصراع مع هذه القبائل من الدولة حينما ضعفت في القرن التاسع عشر إلى المناطق الزراعية التي حاولت القبائل السيطرة عليها وكانت محافظة إب من نصيب بكيل، وريمة من نصيب حاشد التي نزلت إلى ريمة بأكثر من ألفين وأربعمائة رجل وهو عدد يفوق عدد الأسر المقيمة في العزل التي سيطروا على معاقلها وعددها ستة وأربعون معقلا وقد أدت إلى اندلاع مقاومة الأهالي، قادها مشايخ المنطقة بقيادة الشيخ علي بن يحيى المنتصر حتى تم إجلاء حاشد عن المعاقل، ثم تكررت المواجهة بقيادة الشيخ النهاري في الجعفرية .
ذلك مثل واحد من الماضي واستمرت الظاهرة في عهد الإمامين يحيى وأحمد حميد الدين واللذين تمكنا من كبح جماح هذه القبائل إلى حد ما. وقد لعبت هذه القبائل دوراً مزدوجا في الحرب الأهلية اليمنية، الجمهورية/ الملكية مما تسبب في إطالة الحرب ثماني سنوات، فقد كانت تعلن ولاءها للجمهورية تارة وللملكية تارة أخرى باستثناء القبائل التي كان موقفها واضحا منذ البداية “مع أو ضد” لأسباب خاصة بها.
.. ولكن ذاك زمن الإمام الشوكاني رحمه الله، اليوم القبيلة غير ذلك، وبالتالي قد لا نستطيع أن نسقط عليها نفس الحكم، رؤية الشوكاني محكومة بالزمان والمكان..؟
للأسف يمكن أن نؤكد أن الدولة بدأت تتماهى في القبيلة في الفترة الأخيرة وتصبح دولة قبلية أكثر منها دولة مدنية؛ بل للأسف أيضا بدأت الأنماط القبيلة تزحف إلى المناطق التي حققت قفزة في المدنية والتحضر حتى كادت تغلب على كل اليمن خصوصاً خلال أزمة الربيع العربي. ويمكن أن نجري مقارنة بين ماضي القبيلة وحاضرها للتدليل على ما ذهبنا إليه.
أولاً: كانت القبيلة تحترف القتال كمهنة رئيسية، وتشكل المصدر الرئيسي لجيش وأمن الإمامة القاسمية التي ظلت تعتمد عليها كجزء من تكوينها وشريك فاعل في قيامها وبسط سيطرتها. ونظرا للصراعات والتوترات التي تعقب وفاة أي إمام لشغل كرسي الإمامة، فقد كان جميع المتنافسين يسعون لكسبهم واسترضائهم أو تحريضهم أو إباحة المدن والمناطق المخالفة أو المتمردة عليهم، ولم يكن بوسع أي إمام قمعهم أو كبح جماحهم بسهولة، لامتلاكهم وسائل القوة والتماسك، واستغلالهم التنافس القائم بين المرشحين للإمامة وعدم وجود البديل عنهم.
أما اليوم فلدينا نظام جمهوري ودستور ينظم شئون الدولة بما فيها منصب رئيس الدولة، كما تم إنشاء جيش وطني وتدريبه وتأهيله وتسليحه بالأسلحة والمعدات الحربية الحديثة براً وبحراً وجواً. فما الذي يجعل القبيلة تتمسك بنفوذها السابق؟ وما المبرر لاسترضائها وما هي الصعوبات التي تقف أمام مشروع دمجها في المجتمع المدني الحديث؟ رغم أن الإجابة تحتاج إلى دراسة خاصة، إلا إنه يمكن تفسيرها باختصار بالوجود القبلي الأقوى في قيادة الجيش والأمن، فقد التحق أفراد القبيلة بالجيش بعد الثورة وأصبح وجه القبيلة قادة الجيش، ولبسوا الميري لخدمة وحماية القبيلة قبل خدمة وحماية اليمن، ويمكن التدليل بالمواجهة المبكرة بين القيادات العسكرية عام 1968م.
ثانياً: كان دور القبائل خلال فترة الإمامة ، محصوراً في العمل العسكري فقط، أما الولاية والقضاء والإدارة والوظائف العامة من الموظفين والكتبة فقد كانت مخصصة لطبقتي السادة والقضاة. وإذا تعلم أحد أفراد القبيلة وانطبقت عليه شروط العمل الإداري فقد كان عليه التخلي عن النمط القبلي فكراً وسلوكاً وإقامة. أما اليوم فالقبيلة تشارك في جميع المناصب القيادية والإدارية للدولة، بل إن معظم المشايخ مقيمون في العاصمة بشكل دائم، ومع هذا ظلت أفكارهم وسلوكهم حبيسة القبيلة، وأصبحت بيوتهم دولا مستقلة داخل الدولة، ومأوى وحماية لكل خارج من القانون والنظام. إنهم يشاركون في السلطة ولا يخضعون لها.
ثالثاً: كانت القبائل تحتكم إلى الأعراف القبلية التي هاجمها الشوكاني والعلماء، كضرورة موروثة لعدم وجود تشريعات كافية لتنظيم الحياة العامة والدولة؛ أما اليوم فإن ممثلي القبائل في البرلمان تشارك في سن القوانين المفترض تنفيذها على الجميع، بل إنهم يحاربون الخارج عن القانون، إنما ممن لا يحتمي بقبيلة ولا يلتزم بالقانون إلا في إطار العرف القبلي.
ومن المفارقات المضحكة أن معظم مشايخ القبائل قد اشتركوا في المسيرات المليونية المطالبة بتغيير المادة الثالثة من الدستور عقب إعلان الوحدة اليمنية عام90م بحجة أنها جعلت الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وليس المصدر الوحيد، ترى لماذا ذلك الحماس والتعصب الذي استمر عدة سنوات حتى تم تعديل المادة حسبما يرغبون؟ ألم تكن الصيغة السابقة مستجيبة لواقع التطبيق العملي ومنسجمة مع الأعراف التي لازالت المصدر الوحيد في القضايا العامة والخاصة بما فيها الدماء والأعراض والأموال؟ ألم تكن القوانين في واد والتطبيق في واد آخر؟ ألم تكن تلك المادة مخرجا لهم من الحرج الدولي الذي يعيب على اليمن طابعه القبلي وتمرده على القوانين؟ وأنا أتساءل: ما المصدر التشريعي ل: “المحدعش ومربع المحدعش” و “ظاهرة القطاع” التي بدأت تستشري كالسرطان في اليمن كله؟ فضلا عن ظاهرة اختطاف السياح والسطو على الأراضي والفيد. العجيب أن علماء الدين الذين كانوا يعتبرون السكوت على المادة الدستورية المذكورة خروجا عن الإسلام، لم ينهاهم دينهم عن السكوت على الاحتكام إلى الطاغوت كما سماه الشوكاني. ألم تكن سيادة الطابع القبلي من معوقات الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي؟ ومصدر المتاعب وتهديد الوحدة بالانفصال ؟
رابعاً: في الماضي كانت الموارد الاقتصادية لأفراد القبيلة محدودة أو نادرة, خصوصا الزراعة، لقلة الأمطار في المناطق الشمالية من اليمن، فكانت الأنشطة المعادية للدولة والمجتمع مبرره نوعاً ما؛ أما اليوم فإن المعدات الزراعية بما فيها المضخات واستخدام المياه الجوفية والسدود للري جعلت تلك الحيازات أكثر خصبا وأجود إنتاجا في الحبوب والفواكه والخضروات، فضلا عن حيازة مشايخ القبائل لمساحات زراعية أخرى في مناطق متفرقة من اليمن على ضفاف الوديان، ومصبات السدود، والمشروعات الزراعية المختلفة.
فإذا تجاوزنا الزراعة نجد أفراد القبائل يزاولون تجارة الجملة، والتجزئة، وبيوت الأموال، والبنوك ، والمصانع، والمؤسسات والجمعيات الاقتصادية، والعقارات، والمدن السكنية، وأعمال المقاولات، والإنشاءات، وأعمال الفندقة والأسواق التي كان القبائل يترفعون عن مزاولتها. ولا أبالغ إذا قلت إن المناطق الزراعية التقليدية أصبحت فقيرة وتعمل بالأجر في المدن التي أصبحت مصدر الرزق لهؤلاء؛ بل إن مصدر الثروة الحقيقية للبلاد لم يتم اكتشافها إلا في أرض القبيلة من البترول والغاز واستخداماتهما. ترى ما المبرر لبقاء القبيلة خارج القانون ؟
خامساً: قد يعتقد البعض أن هذا الوضع المقلق يعود إلى عزلة القبيلة وغلبة الجهل والأمية وعدم إقحام القبيلة في السياسة والنشاط السياسي . وهذا الاعتقاد خطأ بالكامل، فقد تفوق الذكاء الفطري لقادة القبائل في استغلال نفوذهم واللعب بكل الأوراق بما فيها السياسة والأحزاب منذ كانت الأحزاب محظورة. فقد كان منتسبو الأحزاب معرضين للحبس والنفي والإعدام بتهمة الخيانة والعمالة والانتماء إلى أحزاب محظورة.
كان قادة القبائل وأفرادهم بعيدين عن يد الدولة؛ لذلك كانوا هم القادرين على التفاوض والانخراط في هذه الأحزاب بشرط أن يكونوا قاداتها، بما فيها الأحزاب الليبرالية واليسارية ذات التوجه الاشتراكي والقومي وحتى أحزاب اليمين والجماعات الإسلامية. وحينما تم إعلان التعددية الحزبية بعد الوحدة كان لهؤلاء القادة حق الأسبقية والتأسيس، وتوزع القادة القبليون في قيادة الأحزاب وتقسيم الأدوار فيما بينهم.
كان المتوقع من هذه الأحزاب تعميق الولاء للوطن وتعميق الرابطة الحزبية على أنقاض الولاءات الضيقة، المذهبية والقبلية والطائفية والمناطقية والتشطيرية؛ لكن ما حدث هو الفشل الذريع، لأن قادة الأحزاب هم قادة القبائل الذين كانوا مقتنعين بأن الولاء للوطن أو للحزب أو للدولة يأتي بعد الولاء للقبيلة التي هي الأصل وبقية الروابط عبارة عن وسائل لخدمة القبيلة.
وسواء كان الشيخ في الحزب الحاكم ومشارك في السلطة أو كان في المعارضة فان النشاطات القبلية من قطاع وفساد لا تتعارض مع موقعه الرسمي أو الحزبي. المسألة ليست جهلا أو غباء أو حرمانا من المناصب أو عدم إلمام بالسياسة، فقد تعلموا وتعلم أبناؤهم في مختلف التخصصات ، كما أنهم يمارسون ويتقلدون أرفع المقاعد الرسمية والحزبية، كما إنهم يفهمون أبجديات السياسة ومتطلبات المرحلة؛ بل إنهم اليوم يقودون الشباب في ساحات التغيير للمطالبة بالدولة المدنية الحديثة دولة النظام والقانون، والناس منبهرون لهذا التحول الرائع في تفكير أفراد القبيلة رغم أن الجميع يرى المسلحين القبليين ينتشرون في كل مكان، ويقومون بالاعتداء على خطوط الكهرباء وأنابيب النفط، بل ويحولون تعز والمدن الأخرى إلى النمط القبلي بكل مظاهره، وأصبحت ظاهرة القطاع تنتشر في جميع المناطق التي قطعت شوطا في المدنية والاحتكام للقانون، حتى بدأ المتندرون يقومون بتعريف المدنية بأنها شعب بدون دولة ولا شرطة ولا قانون، فلكل مدني الحق في النهب والقطاع وتكوين عصابة أو الاحتماء بالقبيلة. هذه هي الدولة المدنية التي فهمها البسطاء من الممارسة اليومية..
والخلاصة أن القبيلة لن تتماهى في الدولة إلا إذا كان هناك مشروع لتمدين القبيلة والحرص على تنفيذه بشجاعة، لتحقيق المواطنة المتساوية بدون استثناء وتطبيق القانون على الجميع بدون قبول أي مبررات. ويمكن أن يكون هذا الموضوع أحد محاور الحوار الوطني المنتظر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.