خلافاً للطريقة المعهودة التي يتوجس بها العالم العربي الخطر بعد فوات الأوان فإن السرعة المذهلة التي تتأزم بها الأوضاع الأمنية في البحر العربي وخليج عدن فاقت كل الحسابات، وامتدت إلى عمق البحر العربي لتطول أضخم ناقلة نفط في العالم، وتضعنا أمام تساؤل مثير: هل تحول القراصنة فعلاً إلى مارد أسطوري تركع أمامه الأساطيل الحربية لجبابرة العالم الرأسمالي؟ إن كل المؤشرات المتاحة تؤكد أن «ثورة» القراصنة المفاجئة عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر مفتعلة، وأنها الرديف ل"تنظيم القاعدة" الذي علقت الدول الكبرى على شماعته كل مسوغات مخططاتها لمستقبل المنطقة.. فإذا كان القراصنة يمتلكون جرأة المغامرة فإنهم الأبعد عن امتلاك المعلومة الدقيقة حول مسار وتوقيت مرور ومحتوى سفينة روسية تحمل 30 دبابة، أو ناقلة نفط سعودية للتو غيّرت خط سيرها من البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح، فيكمن لها القراصنة قبالة ساحل كينيا بمنطقة لم يسبق لهم وصولها..!!
يبدو أن حكومات دول المنطقة تنبهت- بعد سماع ضجيج محركات السفن الحربية الأجنبية المتكالبة على المنفذ الجنوبي للبحر الأحمر- إلى مشروع تدويل البحر الأحمر، فبدأت تثير بعض اللغط، كما حال مصر التي أيقنت أخيراً صدق ما يردده اليمنيون: (بلاء في مصر كفاك الله شره)، وأدركت أن خسارة باب المندب لن تكون أعظم من السويس.. ورغم أن هذه الحكومات أفاقت بعد أن كلّت أقلامنا من التحذير بهذا الشأن، غير أنها مازالت تغفل حقيقة أخرى هي أن الآلة العسكرية تعد إحدى أدوات «العولمة»، وأن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» ما كان ليوصف «كبيراً» لولا أنه يعني القبض على شريان الحياة، والقوة، والنفوذ لدول المنطقة، والمتمثل ب«الاقتصاد».. فلا فرق لدى الغرب بين «طريق البهارات» و«طريق النفط والتجارة» الذي يستحق أيضاً أن يخوض لأجله العالم مجدداً مغامرات «الكشوف الجغرافية»، التي كانت في الأصل «حروباً صليبية»!!
ناقلة النفط السعودية ليست إلا رقماً واحداً في سيناريو الاختطافات، وستعقبها سفن نفط كويتية، وقطرية، وأجنبية مختلفة، يترتب عن حوادث اختطافها ارتفاع شديد في أسعار النفط، ورسوم التأمين، وأجور الشحن، وفي ظرف يعاني العالم بأسره من أزمة مالية مستفحلة.. الأمر الذي لن تحل أزمته سوى «مبادرة» أمريكية أوروبية تتعهد حماية الممرات الملاحية الدولية مقابل تكاليف باهظة «إتاوات» تفرض على الدول المستفيدة أي أن على دول المنطقة القبول من الآن بشراكة أمريكية بثرواتها النفطية بنسبة معينة، وإلا فإن ناقلاتها النفطية ستكون مباحة للقراصنة..!! إن انتقال أعمال القرصنة من طريق البحر الأحمر إلى الطريق البديل- رأس الرجاء الصالح- هو رسالة صريحة بأن كل طرق الملاحة العالمية لم تعد مأمونة، ولا مفر من القراصنة..! كما أن التنصل المبكر للبحرية الأمريكية من مسئوليات حماية السفن التجارية غير التابعة للولايات المتحدة هو تأكيد أمريكي آخر بأن زمن الخدمات الأمنية المجانية قد ولّى؛ ومثلما أصبح (النفط مقابل الغذاء) أبان أعوام الحصار الظالم على العراق، فلماذا لا يكون (النفط مقابل الأمان)؟ هناك ثمة حقيقة لابد أن تستوعبها حكوماتنا، وهي أن الأمن القومي لم يعد قضية جيوش، وأجهزة استخبارية، ورقابة الكترونية بل هو عملية اقتصادية تفرض معادلاتها على الجميع، فمن لا يمتلك قوتاً لشعبه لن يصمد بموقفه طويلاً قبل أن يرضخ لتوقيع كل المواثيق الملحقة بصفقة القمح الأمريكي، التي تغتصب سفاحاً كل ما عظت عليه نواجد الأجيال طوال حقب تاريخية من قيم ومبادئ وطنية سيادية..! إن معادلات لعبة القرصنة البحرية تتجه بذلك المنحى بقوة، بل لقد ظهرت خلال الأيام القليلة الماضية ثمة مؤشرات ترجح أن يتزامن ارتفاع وتيرة نشاط القرصنة البحرية خلال الأيام القليلة القادمة بنشاط موازي لتنظيم القاعدة. وأتوقع أن عمليات إرهابية نوعية خطيرة باتت وشيكة التنفيذ في بلدان منتخبة تتصدرها اليمن بالدرجة الأولى ثم مصر، وربما غيرهما من دول الخليج، نظراً لأهمية تنويع مصادر الخطر وتهويله في مضاعفة قلق المجتمع الدولي من القرصنة- طبقاً للحسابات الأمريكية المعروفة. كما أن الأمريكان يضعون هامشاً في حساباتهم لما يمكن أن يتبلور من موقف شعبي في اليمن ومصر- أكثر دول البحر الأحمر تضرراً من القرصنة- قد ينمي حماس بعض التيارات "الدينية" لإذكاء رغبة مقاومة التواجد العسكري الأجنبي، وقد يدفع البعض لأعمال انتقامية- برية أو بحرية- لذلك فإن إيجاد تحدي داخلي في هذه البلدان من شأنه سرقة الأضواء، وإقلاق أنظمتها بمخاوف مبالغ فيها، تدفعها باتجاه طلب المشورة الأمريكية، والدعم اللوجستي من دوائرها المختلفة، ومن ثم القبول بالمهمة البحرية الدولية، والتفرغ للجبهة الداخلية الساخنة..
علاوة على أن أي عملية إرهابية سيجري تنفيذها ستستغلها الدوائر الأمنية الأمريكية في تأكيد ذرائعها بعجز هذه الدول عن مواجهة الإرهاب، وتهويل ما قد يسفر عن ذلك من اتساع لدوائر الخطر بما يهدد مصالح بقية دول العالم، ويوجد المسوغ لانتهاك سيادتها الوطنية البحرية بتشريعات دولية.. لا شك أن هناك مؤشرات أخرى تعزز اعتقادنا بخصوص عمليات القاعدة المحتملة، منها: البيان الذي أصدرته القاعدة قبل أيام بشأن استهداف السفارة الأمريكية بصنعاء، وهي المرة الأولى التي يأتي بيانها بعد أكثر من شهرين من عمليتها- وهو ما يوحي بأن القاعدة أرادت التذكير بأنها مازالت موجودة بقوة.. فيما المؤشر الآخر جاء على لسان السيد مايكل هايدن- مدير المخابرات الأمريكية CIA – حين أدلى الخميس الماضي بتصريحات يؤكد فيها أن اليمن "مرتع القاعدة"، وهي التصريحات التي بدت أشبه بتزكية لما أرادت القاعدة إيصاله ببيانها.. ثم فاجأنا أيمن الظواهري- الرجل الثاني في القاعدة بعد بن لادن- بظهور تلفزيوني مباغت، وهجوم استفزازي غير مبرر على الإدارة الأمريكية الجديدة، التي توعدها بالويلات.. إن من يعود بذاكرته إلى أحداث إرهابية سابقة سيكتشف أنها جميعاً كانت مسبوقة بسيناريوهات مماثلة لما ذكرنا، تهيئ المناخ النفسي للعملية الإرهابية.. ومن هنا نحذر الحكومة اليمنية من تجاهل مثل هذه الحسابات، وأن عليها رفع درجات حذرها واحتياطاتها الأمنية كونها المعني الأول بمخطط الاستهداف الذي قد يتعدى المنشآت الاقتصادية والسياسية إلى رموز وطنية.. للأسف الشديد، إن الدول العربية تغفل الكثير من الحقائق حول اتجاهات الأحداث في الساحة المحيطة بها، وأن بعضها حتى عندما حاول الرئيس علي عبد الله صالح استنفار هممها مبكراً بشأن موضوع القرصنة البحرية تعاطت ببرود مع الأمر، وغاب إحساسها بالمسئولية الجماعية في حماية الأمن القومي العربي، وهو ما أطلق الحبل على الغارب للقوى الدولية لتمرير مخططاتها، وبسط نفوذها في قلب الكرة الأرضية، ومفترق طرق الملاحة العالمية، وصمام أمان الاقتصاديات الدولية..