في كتابه المهم والحافل بالمعطيات "أمن الخليج العربي: تطوره وإشكالياته من منظور العلاقات الإقليمية والدولية"(2006)، لاحظ المؤرخ الكويتي ظافر العجمي بدقة "أن النفط أخطر سلاح في السلم والحرب، فهو مصدر الطاقة التي تحرك مصانع السلاح في السلم، والطاقة التي تحرك معدات الحرب"، وأضاف متسائلاً: "هل بإمكان دول الخليج العربي استخدام سلاح النفط مرة أخرى لخدمة قضاياها؟". والحقيقة أن السؤال الذي طرحه العجمي (ولم يُجِب عليه)، بات واحداً من الأسئلة المهمة التي يتردد صداها منذ زمن في كل أنحاء العالم العربي؛ فالأمة العربية ما فتئت تتساءل عن سلاح النفط، تساءلت عنه أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ثم أعادت التساؤل في كل مرة كانت إسرائيل تمارس اعتداءاتها المتواصلة على الدول العربية والشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من أن هذا التساؤل لم يكن قوياً مع بدء الانتفاضة الفلسطينية في أواخر أيلول/ سبتمبر 2000، بالنظر إلى تشابك الأوضاع الجيوسياسية بالمنطقة وتعقّدها بعد حرب الخليج الثانية - الناجحة جداً بالنسبة للغرب-، وهي الحرب التي هيأت، بفعل الانتصار الأميركي، حافزاً جديداً لصياغة إطار مختلف كل الاختلاف لسوق النفط. لكن السؤال عاد من جديد وطُرح بقوة في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، وفي ضوء استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين والتي وصلت ذروتها هذه الأيام من خلال الحصار القاسي لقطاع غزة، وتالياً أخذ صوت الشارع العربي في التعالي شرقاً وغرباً، مطالباً دول الخليج المنتجة للنفط بأن تُعجِّل باستخدام النفط كسلاح سياسي واقتصادي وكورقة ضغط مؤثرة على غرار ما حدث في عام 1973 عندما استخدم العرب سلاح النفط بشكل فعّال في حرب تشرين الأول/ أكتوبر، بحيث أُجبِرت الدول الغربية على تغيير مواقفها المنحازة بقوة لإسرائيل.
ويُطرَح، في هذا السياق، السؤال التالي: هل بإمكان الدول الخليجية أن تفرض على المجموعة الصناعية الغربية من الضغط عن طريق الإمدادات النفطية، ما يدفع تلك المجموعة بقيادة الولاياتالمتحدة، لكي تمارس من جانبها ضغطاً قوياً على الدولة العبرية حتى تتوقف عن سلوكها العدواني وتتخلى عن الأراضي العربية المحتلة؟ للوهلة الأولى يبدو السؤال وجيهاً، ولا تنقصه المشروعية، لاسيما وقد أصبح نفط الخليج العربي، وهو اللاعب الوحيد القادر على مجاراة ارتفاع الاستهلاك العالمي من هذه المادة الإستراتيجية، محطّ أنظار كل القوى الدولية ومحور القضايا السياسية والاقتصادية والأحداث في العالم والشرق الأوسط. إلا أن النظر بواقعية إلى الأمر سيجعل الكثيرين، خصوصاً صنّاع القرار في الدول الخليجية، يفكرون ألف مرة قبل الشروع في اتخاذ قرار يقضي باستخدام سلاح النفط، أو تأييد قرار مماثل أحادي الجانب قد تتخذه أحدى هذه الدول بمعزل عن الدول الأخرى. والحقيقة أن جميع الدلائل المتوفرة تشير إلى أن الدول العربية المنتجة للنفط، وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي، باتت تدرك خطورة اتخاذ أي قرار (سواء أكان جزئياً أو كلياً) باستخدام السلعة الإستراتيجية التي تمتلكها "سلاحاً" في الوقت الحاضر. وعليه يبدو أن هذه الدول لا تفكر في استخدام النفط كسلاح سياسي واقتصادي وحتى لا يبدو أنها تجهد نفسها بالتفكير في ذلك، والأهم من هذا وذاك أنها لا تستطيع استخدامه من الناحية السياسية. فمن الثابت أن سلاح النفط يكون متاحاً إذا رغبت حكومة ما، أو مجموعة من الحكومات، في الاستفادة من وجوده، ويستطيع البلد المُصدِّر للنفط خفض إنتاجه وصادراته، أو فرض إيقاف صادراته إلى وجهات معينة إذا رغب في ذلك. غير أن هناك أسباباً عديدة مهمة توضح لماذا لا يريد أحدٌ اليوم إشهار هذا السلاح وإعلان حرب اقتصادية قد تكون عواقبها مُدمِّرة في عالم آخِذٌ في التعولم باضطراد. أول الأسباب وأهمها أننا نعيش اليوم في عالم أحادي القطب، وليس فيه قوة عظمى حقيقية سوى الولاياتالمتحدة. والاقتصاد الأميركي، كما يعرف القاصي والداني، يعتمد على النفط كثيراً. وأي حظر للصادرات النفطية إليها أو لحلفائها الغربيين - تحت أي ذريعة - يعتبر على الفور سبباً للحرب، على أساس أنه سيكون بمثابة عملية "خنق اقتصادي" قد يتجاوز بتأثيراته الاقتصادية السلبية ما حدث في عام 1973. لقد أحدث حظر النفط في أواخر ذلك العام صدمة عالمية كبرى، وخلال سنة واحدة تضاعف سعر النفط أربع مرات، وواجهت الولاياتالمتحدة أول عجز في إمداداتها النفطية منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت ذاته، اشتدت وتيرة التضخم، فاهتز الاقتصاد الأميركي بشدة وتراجع الدولار، مما أدى لكساد عالمي. والولاياتالمتحدة، التي تعاني في السنوات الأخيرة من أزمة اقتصادية شديدة الوطأة، لن تسمح على ما يبدو، وكما تذهب العديد من التقارير والدراسات و"التسريبات"، بتكرار ما حدث في سبعينيات القرن العشرين مهما كلّف الأمر. ولسوء الحظ، فإنه ليس هناك في الوقت الراهن قوة موازية لقوة الولاياتالمتحدة، كما كانت الحال عام 1973، عندما كان في مقدور الاتحاد السوفيتي إيقاف أي محاولة أميركية متهورة لاحتلال آبار النفط في المملكة العربية السعودية أو في مكان آخر في الخليج. ويبدو من شبه المؤكد اليوم أن الحظر النفطي سيؤدي إلى احتلال أميركا عسكرياً لحقول النفط ومنابعه في الخليج، خاصة أن القوات الأميركية موجودة بكثافة في المنطقة وفي جوارها، وما من قوة، سواء أكانت دولة أوروبية أو روسيا أو الصين، ستعارض هذا التدخل وإن فعلت فإنها لن تتمكن من منعه. السبب الثاني هو أن سلاح النفط يظل أداة مربكة وعصيّة على التوقع؛ فإذا استخدمت دول الخليج المنتجة للنفط هذه السلعة الثمينة وسيلة للمساومة، فإن ذلك سوف يرتد على الأغلب ليلحق الأذى، ليس بالدول المنتجة وحسب، بل أيضاً بدول العالم النامية بما فيها الدول العربية التي استفادت كثيراً من الاستثمارات الخليجية في بنيتها التحتية، وكذلك بدول صديقة في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. والحق أن النفط ليس سلاحاً يمكن التحكم به وتوجيهه بدقة إلى البلد الذي يستهدفه، والسبب – ببساطة – أن سوق النفط العالمية كيان موحد يضم جميع الدول المستوردة في العالم، وهي لذلك سوقٌ بالغة التعقيد وتتميز بحساسية مفرطة تجاه أي تغيرات فجائية. وستضطر الدول جميعها، سواء أكانت صديقة أم عدوة، إلى دفع الأسعار العالية التي يتسبب بها استخدام سلاح النفط. أما السبب الثالث فينصرف إلى أن ارتفاع أسعار النفط سيؤدي دور المحفِّز للتحول أكثر فأكثر إلى استخدام مصادر بديلة للطاقة على حساب النفط (وهو ما يحصل اليوم بالفعل في ظل الارتفاع الكبير في أسعار النفط التي اقتربت من 140 دولاراً للبرميل الواحد تحت تأثير آليات السوق [فما بالنا إذا استخدم النفط "سلاحاً"؟!])، وسيشجع الدول المستوردة على المضي بصورة أسرع من أي وقت مضى في طريق تبني سياسات طاقة طويلة الأمد تُخفِّض الطلب على النفط وتُقلِّل عائداته في المستقبل، على الرغم من ارتفاع عائدات البلدان المُصدِّرة في البداية. وكما حدث أبّان "الصدمة النفطية الأولى" أواخر 1973 وأوائل 1974، سيكون لحظرٍ نفطي شامل مماثل انعكاسات اقتصادية عالمية سريعة. فنتيجة للحظر النفطي وقتذاك، اضطرت الدول الصناعية الغربية، وفي طليعتها الولاياتالمتحدة، للبحث عن النفط في أماكن لم تُستكشف بعد. ونتيجة لارتفاع أسعار النفط، فإن حقول النفط القصيّة أو التي كان من الصعب الوصول إليها، مثل حقول بحر الشمال، أصبحت ميسورة وأقرب منالاً. وفي الوقت نفسه، تمّ ضخ الاستثمارات في الطاقة النووية وفي البحث عن طاقات بديلة وتقنيات جديدة مثل تحويل الغازات إلى سوائل، كما شهدت الأعوام المنصرمة استئنافاً للاهتمام بالفحم كمصدر للطاقة. والحال أن هذه الأسباب وغيرها أدت إلى تراجع أهمية استخدام النفط كسلاح سياسي فاعل سواء فيما يتعلّق بقضية الصراع العربي – الإسرائيلي أو غيرها من القضايا العربية المُحِقّة والعادلة، ومن المرجح أن تبدأ ملامح هذا التراجع بالوضوح في نهاية العقد الحالي وبداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بالتوازي مع التراجع النسبي لأهمية النفط كسلعة اقتصادية في السياسة الدولية، في ظل البحث العالمي المحموم عن بدائل جديدة للطاقة. وعلى الرغم من أن سلاح النفط عاد في السنوات القليلة الأخيرة إلى الواجهة مع توجه بعض الدول الراديكالية كإيران وفنزويلا وروسيا إلى التلويح باستخدامه كورقة ضغط في نزاعها مع دول الغرب، وخصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية، لكن في المحصلة هذا لن يُغيِّر كثيراً في حقيقة أن استخدام النفط كسلاح ضغط فَقَدَ جزءاً كبيراً من قوته، وضَعُفَ دوره تالياً في الصراع العربي – الإسرائيلي بصفة خاصة، وفي قضايا العرب الأخرى بصفة عامة. وإذا كانت أحدى المشاكل الأساسية التي تواجه الدول النفطية الخليجية هي الحفاظ على أمنها من أي تداعيات عسكرية محتملة للصراع بين العرب وإسرائيل (لاسيما وأن الأخيرة لا تخفي مطامعها في منطقة الخليج)، والمساهمة في ذات الوقت في تعزيز منظومة الأمن القومي العربي في مواجهة إسرائيل، ونُصرة القضايا العربية وبالأخص قضية الشعب الفلسطيني؛ فإن استخدام سلاح النفط قد لا يكون خياراً مُجدياً وذي فعالية في هذا الإطار، بل على الأرجح فإنه سيُعقِّد المشهد السياسي في المنطقة - التي تعاني معظم دولها أصلاً الكثير من الهشاشة والضعف - ويكشفها إستراتيجياً أمام مخاطر وتدخلات شتّى قد لا تستطيع لها دفعاً أو ردّاً. وختاماً، إذا كان الحديث عن استخدام النفط كسلاح سياسي واقتصادي كان له ما يُعززه ويسوِّغه، وعلى وجه خاص في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، غير أن تكرار الحديث عنه الآن، والمشحون في معظمه بمشاعر عاطفية جياشة، ينطوي على نوع من الجهل وعدم الإدراك بمتغيرات العالم الذي نحيا فيه. والشاهد الأبرز على ذلك، أن الدول الصناعية، في الغرب والشرق على حدٍّ سواء، استطاعت أن توائم نفسها بنجاح مع الصدمات المتتالية التي تعرضت لها إمدادات الطاقة. صحيح أن هذا التوائم انطوى على تحمّل تكلفة سياسية واقتصادية واجتماعية عالية، بيد أن الاستمرار في القدرة على مواجهة الظروف الطارئة عزّز من قوة هذه الدول وأكسبتها مناعة مضاعفة. لقد تعلمت هذه الدول دروس "صدمة النفط الأولى" جيداً، وتمكّنت من تجاوز كثير من التحديات التي أعقبتها، في الوقت الذي وُضِعَ فيه النفط العربي بوصفه "سلاحاً" على الرّف، فما عاد بالإمكان استخدامه إلا كورقة أخيرة في مواجهة تهديد وجودي يُنذِر بالفناء!