تعودت أن تكون سفراتي العملية تأخذ جانباً سياحياً بعد انتهاء المهمة في كل دولة أزورها، وقد تم لي، وساعدتني الظروف، للإطلاع على كثير من دول العالم- ريفها وحضرها، عربية واجتبية، أوروبية وآسيوية، بل وإفريقيه أيضا. لذا فان من سيطلع على بعض الأرقام التي سأذكرها هنا يجب أن يعرف أنها ليست من نسج خيالي، فهي أرقام مؤكدة ورسمية، ويقيني أن القارئ المتمعن لهذه المعلومات سيصاب بالدهشة والانبهار من جانب، وسيصاب بالألم والحسرة من جانب آخر..! ولن يحس بهذا الإحساس والشعور إلا من لديه حساً وطنياً، وعقلا ناضجاً، واعياً، متمدناً، متحضراً، ومحبة للوطن وللناس الذين يعيشون فيه.. وتلك الصفات هي من مبادئ الاسلام الذي ندين به، ويدين به أكثر من مليار مسلم في العالم. لن اذهب في مقالي هذا إلى دول بعيدة لا تشبهنا بالعادات والتقاليد، ولا تتطابق مع معتقداتنا ومبادئنا الدينية بمذاهبها المتعددة، رغم أنها دول سياحية من الطراز الأول، كالبرازيل وتشيلي وبيرو في أمريكا الجنوبية، أو إلى تايلاند أو استراليا في الشرق؛ بل سأتطرق في مقالي هذا إلى دول زرتها، تتطابق عاداتها وتقاليدها ودين أهلها مع ما هو لدينا في اليمن، بل هي قريبة جداً منا. ولن ابعد بعيدا فالأردن ومصر وسوريا ودول الخليج واليمن نسيج اجتماعي واحد لن ينكر ذلك إلا من هو جاهل وغير متعلم. أما تركيا فلا تختلف عن كل ما ذكرت إلا في اللغة، فالإسلام هناك راسخ وهو الذي يحافظ على الروابط الاجتماعية (الاسلاميه) في المجتمع التركي مهما ظهر من شذوذ في المدن الكبيرة، وهي نفس الصورة في مدننا العربية الكبيرة، وهذه إحدى خصائص المدنية. وأقولها بكل جرأه أن من يجافي هذه الحقائق وينكرها في تلك الأماكن والدول فهو يعيش في كوكب آخر ولا يعيش في زمننا هذا. لقد أقمت لمدة ثلاثة أيام في قرية تركية عدد سكانها حوالي 500 نسمة على الطريق إلى البحر، وبها ثلاثة مساجد صغيرة، حيث أوجد سكانها أو بعض سكانها من بيوتهم "بنسيونات" لسكن السياح والعابرين بأجرة زهيدة، واوجدوا ما يشبه المطعم المفتوح في الهواء الطلق تحت ظلال الشجر، وابتكروا جواً من التشجير جاذب للعابرين، ووفروا بعض المستلزمات المريحة. وتعمل الاسرة بالكامل بمن فيهم الشباب الملتحق بالكليات والمعاهد في أرضهم وبيتهم، واستقروا وتطوروا وتحسنت معيشتهم على خدمة العابرين من السياح والمواطنين والمغتربين الذين يقيمون لليلة أو لليلتين، حيث يجد السائح مطلبه من الوجبات- حسب طلبه أو حسب الأكلات الشعبية لهذه المنطقة. هذه القرية التركية زرتها مرات عدة، ولفت نظري التغيير الذي يجريه مواطنوها وسكانها- وليس الدولة- سعياً في تطوير معيشتهم. وتجدر الإشارة هنا أن فترة الصيف عندهم هي أربعة أشهر فقط، وهي فترة ذهبية في النشاط السياحي رغم أنها قرية. هنا يبرز سؤال، ووفق كل المعطيات، ووفق كل المتشابهات، ووفق كل العادات والتقاليد هنا في اليمن، وهناك في تركيا: هل كان بالإمكان تطبيق نفس التجربة من أهل القرى للقادمين والعابرين إلى يافع ومأرب وتعز وسيئون ولودر مثلاً؟؟ أقولها وأنا أعرف كل تلك المناطق.. نعم وألف نعم.. أقولها وبكل حسرة وألم مَنْ يا ترى يقف قاطعاً الرزق على أهلنا في كل مكان!؟ أنا هنا فقط أحببت أن أدلل على ما أشرت إليه بمثال حي، فكم يا ترى من أهل القرى سيسترزقون بشكل مباشر، وستسير حياتهم بشكل طبيعي ومستقر؟ وكم يا ترى من البشر المواطنين سيستفيدون بشكل غير مباشر؟ كل ذلك في القرى والأرياف، ولو أحببنا أن نعرج على المدن والسواحل والآثار المتوفرة في اليمن والطبيعة المتعددة المناخ فذلك يحتاج إلى تقرير آخر، وستظهر أرقام فلكيهة من الأموال تضيع، وملايين من السياح تحرم بلادنا ويحرم مواطنينا من الاستفادة منهم.. ونرى الملايين من البشر والمليارات من الدولارات تذهب أمام أعيننا إلى دول الجوار ونحن- كشعب- لم نحرك ساكناً..! واليكم جزء من تلك الأرقام الفلكية التي أشرت إليها: حيث أن دولة ماليزيا حتى 17 يوليو الماضي وصلها 19 مليون سائح فقط لعام 2009م، وتركيا وصلها في الثلاثة الأشهر الأولى من عام 2009 ما يقارب 9 مليون سائح، ولم يبدأ الصيف بعد.. ووصل دخل البلد من السياحة للعام الماضي فقط 20 مليار دولار.. اكرر: 20 مليار دولار.. أليس ذلك رقم مهووول..!؟ أما تونس الذي يبلغ عدد سكانها العشرة مليون نسمة ويزيد، فقد تجاوز رقم السياح الذين زاروها العام الماضي 7 مليون سائح.. تصوروا تونس هذه الدولة الصغيرة دخلها من السياحة هو المشغل الثاني للأيدي العاملة، وأوجد هؤلاء السبعة ملايين سائح وبشكل مباشر أكثر من 360 ألف فرصة عمل- يعني 360 ألف منزل يسترزق على السياح، وهذه نعمة من رب العالمين. المغرب زارها خلال الخمسة الأشهر الأولى ( قبل بداية الصيف) أكثر من مليوني سائح، ولبنان يتوقع أن يصل الرقم في عام 2009 إلى أكثر من مليوني سائح.. أما سوريا فقد وصل الرقم إلى أكثر من مليوني سائح فقط حتى شهر مايو 2009م. ونأتي لأم الدنا مصر- بلاد ثلث آثار العالم- كما يحلو للمصريين تسمية بلادهم به (وهم صادقون)، فقد قال وزير السياحة المصري إننا نتوقع أن يكون عدد السياح هذه السنة 13 مليون سائح، والإيرادات للبلد ستتجاوز 11 مليار دولار تصرف في البلاد. والأردن أخذت نصيبها من الكعكة الكبيرة، حيث استقبلت أكثر من مليوني سائح.. وإثيوبيا المجاورة زارها أكثر من نصف مليون سائح فقط عند نهاية السنة الاثيوبية.. بقي أن نذكر أن أبو ظبي لوحدها استقبلت حوالي مليون ونصف زائر العام الماضي، واستضافت دبي أكثر من 7 مليون سائح العام الماضي.. وارجوا لا يعتقد أحد أن أرقام أبو ظبي ودبي هي عمالة، بل هم زوار. أليست تلك فعلا أرقام كبيرة وفلكية يحرمنا من الاستفادة منها أكثر الناس تخلفا باسم الدين، وباسم العادات والتقاليد..!؟ يظن هؤلاء أعداء الناس والوطن أن الدين لا أحد يفهمه إلا هم..! وأظنهم يعتقدون أن الجنة مفاتيحها بالسير بما تنطقه أفواههم..! بعد كل تلك الأرقام الفلكية التي لم أصنعها أنا، والتي أود أن أشير إلى أنها أكثر من ذلك ولن تنتهي إجازة الصيف إلا وتجاوزوها.. ولتكتمل الصورة للقارئ فان تقرير الحكومة قبل أيام، أشار إلى أن من زاروا اليمن 2008م أربعمائة ألف سائح فقط.. ويا للأسف..! ألا يحز في نفس كل مواطن يمني في الداخل أن لا تكون اليمن أحق بكثير من الأرقام التي ذكرتها؟ وهي الأجدر بالحصول على أرقام وأعداد من السياح أكثر بكثير مما يصلنا من فتات الآن؟ لو قارنا اليمن بطبيعته المتنوعة وتعدد آثاره ومختلف مناطق الجذب السياحي فيه مع بعض الدول التي ذكرت، لعمري سنكون بعد مصر في الترتيب لعدد السياح القادمين لليمن. لقد حرموا بلادنا من ثروة غير ناضبة، مستمرة ونامية، ومصانع بلا دخان، كما يسميها اقتصاديو ومتخصصو علوم السياحة.. لقد وقف أعداء التطور أمام الشعب والفقراء في أخذ لقمتهم المرسلة من رب العالمين، بحجج ليس لها أساس وأعذار واهية.. هؤلاء هم مشايخ الدين "المزيف"، البعيد عن الدين الإسلامي .. هم شيوخ وتجار الاسلحة، ومزارع القات، ومصانع الإرهاب..! هؤلاء هم أعداء الشعب، وأعداء التنمية والاستقرار موجودون في كل مكان في اليمن.. إن أعذارهم هو الحفاظ على الدين، والحقيقة هي الحفاظ على مراكزهم ومصالحهم.. فهل كل تلك الدول التي ذكرتها من كوكب آخر!؟ أليست مصر وسوريا والأردن وابو ظبي ودبي دول إسلامية وحريصين على الدين!؟ آم أن الدين الإسلامي فقط في اليمن..!؟ السعودية كدولة بلاد الحرمين الشريفين، وهي تمثل قدوة عند بعض المتشددين في اليمن بدأت الخطوات منذ فترة تبحث عن نصيبها في أعداد السياح، وبدأت تغير من أنظمتها سعيا في جذب نسبة لا بأس بها إليها.. ولم تعر لهؤلاء المتشددين أي اهتمام. غدا سيظهر أحد المتشددين ليقول: إننا لا نريد سياحة تغير من عاداتنا وتقاليدنا وديننا، وكأن كل سائح في نظرهم يحمل قارورة من الخمر في يد وفي اليد الأخرى امرأة.. أليس التفكير بهذه العقلية استغلال لعقول الناس والشباب، وصناعة متشددين وإرهابيين..!؟ أنا شخصيا أحمل هؤلاء المتشددين في اليمن كامل المسؤولية في حرمان مواطنينا من العيش بأمان من دخل السياحة والسياح، ولا احمل الدولة بتاتاً أية مسؤولية.. فقد عينت الدولة وزارة خاصه للسياحة على أمل تطوير ونمو السياحة في اليمن، وكلما بدأت أرقام السياحة تتعافى قامت عصابات القاعدة والمتشددين في المساجد وفي الطرق باجهاظ أية بداية للتعافي..! إن على المواطنين من كل الجهات ومن كل الفئات الوقوف للتصدي لتلك العصابات المرتزقة والتي تعيش على حساب حياة الآخرين ومستقبلهم.. وعلينا جميعا تنوير كل الناس، فيبدو أن هؤلاء ليس في قلوبهم رحمة على الناس وعلى الوطن . الأمل كبير في كل الناس الخيرين من أبناء الوطن في الوقوف في وجه هؤلاء، ورفض أفكارهم ومبادئهم ومنشوراتهم وتسجيلاتهم وخطبهم.. فقد مللنا والعالم ينمو ويتقدم إلى الأمام، وهؤلاء يعيدوننا إلى الخلف بوسائل التحريم والتكفير والخطف وحمل الاسلحة..! حز في نفسي أن اطلع على كل تلك المعلومات والأرقام وبدأ قلبي يقطر ألما من ضياع مستقبل بشر كان بالإمكان أن يعيشوا في بلادهم معززين مكرمين، وان يجنوا ما أوجده لهم الرحمن من خير في بلدهم، وما أوجدته لهم الطبيعة من مآثر تستحق الزيارة. ألا يحق لي أن أتألم وأنا أقرأ كل تلك الأرقام!؟ ألا يحق لي بعد كل ذلك الألم أن أقول لهؤلاء: "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق.."!؟ [email protected]