• "تعقيباً على حوار وزير الداخلية مع الفضائية اليمنية" يقلقنا الهاجس الأمني كثيراً.. ونعترف بأن الحوادث والقلاقل الأمنية المتفرقة هنا وهناك تستأثر باهتماماتنا وتبهتنا إلى حد الفجيعة، بذات القدر الذي يحتله الهاجس المعيشي وصدمات الغلاء والجرعات الصامتة من مساحة تفكيرنا.. كلاهما صنو الآخر.. أمن البطون، وأمن الأرواح!! ربما فقدنا الأمل في حكومتنا ووزارة صناعة وتجارة مللنا أكاذيبها وعجزها عن وقف التداعيات التي تحاصر معيشتنا بلا أدنى شفقة.. وربما فقدنا الأمل في وزارتي مالية وخدمة مدنية مللنا أيضاً وعودهما برفع الأجور وتحسين الدخل وتخدير العقول.. بل قل: فقدنا الأمل في كل الحكومات والوزارات المتعاقبة التي تلغي وظيفتها الأساسية كلما لجأت لاجترار أسطواناتها المشروخة وتكرار معزوفاتها المسمّمة للأعصاب لتبرير فشلها وعجزها حكومة إثر حكومة. ثمة جهاز واحد فقط لا نستطيع أن نفقد الأمل به- بعد الله- أو نفقده الثقة في نفسه، ذاك هو الجهاز الأمني، شئنا أم أبينا.. لأن وظيفته مسألة حياة أو موت ، يا روح ما بعدك روح.. فمسألة الاستقرار وحياة الناس وسلامة الأرواح هي آخر الخطوط الحمراء، والحد الفاصل بيننا وبين أية سلطة حاكمة، وأي تقصير أو تهاون أمني تجاه أي مواطن معناه احتراق الورقة الأخيرة الدالة على وجود دولة من عدمها.. وبالمقابل أيضاً فإن أية محاولة لهز ثقة الأمن بكيانه وأهمية وجوده في حياتنا وتحميله ما لا يحتمل ليس سوى ضرب من الجنون والانتحار الجماعي، لأن اهتزاز ثقة المرء بمن يحميه يفقده الشعور بالأمان أينما وُجد.. لا مفر حينها من تعرّض السفينة بكل من فيها للغرق وسيادة الغاب، ولات حين مناص!! ثمة حقيقة قد لا يعيها الكثيرون في بلادنا، خاصة من يتصيدون الأخطاء والثغرات الأمنية ويضخمون اتهامهم للداخلية بالمسئولية عن أي تقصير، حتى لو كان سببه قرار سياسي أو قضاء غير مستقل.. فأن تتولى مهمة الأمن في أي بلد فأنت كمن يضع يده في النار.. أما أن تتولاه في بلد (كاليمن) فأنت في الدرك الأسفل من النار.. إذ لا يختلف اثنان في العالم على أن قيادة الأجهزة الأمنية مسئولية جسيمة في أي بلد.. أما في اليمن تحديداً- فهي أكبر المسئوليات جسامة في العالم وأكثرها عرضة للقلق والمخاطر والتحديات! يكفي أن يفاجئوك بخبر عن استهداف إرهابي لموكب سفير دولة عظمى حتى تنط إلى السقف من الفجيعة حتى وإن كانت محاولة فاشلة.. فخبر كهذا قد يقطع علاقات بلدك بالآخرين.. إما أن تصبح معرضاً للضغط والسكري والأرق والإرهاق والعصبي والزهايمر والشتات الذهني وما شئت أن تسميه من أمراض العصر المقصرة للعمر.. أو تصبح كبش فداء ومتهماً بالتهاون في مكافحة الإرهاب- حتى وإن كان الإرهاب آفة عالمية!! يكفي أيضاً أن يباغتوك بخبر استهداف زعيم معارضة مثلاً، حتى تنقلب على ظهرك من كرسيك الدوار ومكتبك الفخم.. فخبر كهذا لن يقطع علاقة سلطتك بمعارضتها لأنها مقطوعة أصلاً، لكنه قد يقطع "خِلفتك" لأنه قد يحدث في توقيت حقير للغاية، سيما والبلد على أبواب حوار تاريخي طال انتظاره بين طرفي الصراع، وأي حادث يتعرض له قيادي معارض، سيما في هذه الظروف الملتهبة ، قد يحوله إلى رفيق حريري، ويحولك إلى ذئب يوسف!! لعل بعض من تابع حوار وزير الداخلية، على الفضائية اليمنية الأسبوع المنصرم، لاحظ على اللواء مطهر المصري مدى تأثره بعاصفة الاتهامات التي تضخها بعض أطراف الصراع السياسي بشكل غير مسبوق.. إذ بدا وهو يستعرض نجاحاته الأمنية كمن يحاول الرد على كل ما يحدث في البلد من جرائم أمنية تبدو طبيعية في مرحلة كهذه مشحونة بالتعقيدات المحلية والخارجية ، ناهيك عن أنها تحدث في أحسن العائلات- أي حتى في البلدان المتقدمة.. أليست حادثة الطالب الانتحاري "عثمان الصلوي" ضد موكب السفير البريطاني أهون من سيل الجرائم وحمام الدم في باكستان والعراق ولبنان وغيرها الكثير، بل وشبيهة- إلى حد كبير- بما حدث ويحدث حتى في أميركا والتي كان آخرها محاولة الشاب النيجيري سابقاً ثم الشاب الطالباني لاحقاً؟؟ هل أفلحت تقنيات الأقمار الاصطناعية وحتى أحدث أجهزة التفتيش والتعري الفاضح في استئصال المحاولات الإرهابية من جذورها، أو السيطرة على جنون الخداع والتخفي والتمويه الذي وصل إلى حد التنكر بزي طالب بريء يحمل حقيبة مدرسية اتضح أنها "ناسفة" في حادثة السفير البريطاني؟؟ هل تلغي هذه المحاولة الفاشلة كل الجهود الأمنية الخارقة والتضحيات الباهظة والإستراتيجية العقلانية والقوة الضاربة التي جدعت أنف القاعدة وكبحت غرورها بشكل واضح، وأطاحت برؤوسها وشتت شملها وحلمها في "جزيرة العرب"؟ ثم ماذا عن جرائم اختطاف الأجانب التي لم نعد نسمع لها صوتاً بعد أن اصطادت الداخلية أكثر من 130 خاطفاً وامتلأت السجون لأول مرة بعتاولة الخطف- حتى المطلوبين منذ 20 عاماً- في حصيلة دسمة جمعتها بهدوء دون أية ضجة إعلامية، وأشعرت السياح والديبلوماسيين والوافدين بالاطمئنان!! نعم.. هناك تحسن في الأداء الأمني، وهناك تفعيل لدور الأجهزة الأمنية، بسبب توفير الكثير من الوسائل والإمكانيات التي مكّنتها من أداء واجباتها في مختلف محافظات الجمهورية، حتى بلغت نسبة ضبط الجريمة عام 2009 أكثر من 94%.. ونسبة التزوير والتزييف بنسبة 100%.. أليست هذه نجاحات مشرفة في بلد يعج بالاضطرابات والفتن؟ أليس من المحرمات أن نبخس الناس أشياءهم؟ هل المطلوب من المصري أن يعلق رؤوس وأيدي اكثر من 65 ألفاً تم ضبطهم، أم أنه مجرد جهة ضبط تحيلهم إلى النيابة والقضاء لتمضي المحاكمات بهدوء؟؟ أليس الأمر بحاجة لثورة في قوانين القضاء لتأخذ العدالة مجراها الرادع دون لبس أو تأخير محاكمات؟ أليس الأمر بحاجة إلى قوة قرار سياسي ودعم مجتمعي كبير حتى تحكم الداخلية قبضتها وانتشارها الأمني في النقاط ومراكز الشرطة وحركة الأجهزة الأمنية على مدار 24 ساعة وتعالج ما تبقى من ثغرات وأخطاء وتشويهات وتعمل على سرعة تلافيها بدلاً عن نسف جهودها وعاصفة اتهامها؟؟ يكفي أن الوزير المصري لم يتعامل مع كل هذا التضخيم والضجيج الحزبي والصحفي على أنه مجرد مهاترات ومناكفات حزبية وتصفية حسابات سياسية، حتى يمدد ولا يبالي أو يقبع في كرسي النشوة والغرور كما يفعل غيره من مبرري الفشل.. بل أخذها على محمل الجد، و"فنجل" عينيه، وشد حزامه، وجعل رجاله وجنوده يشعرون بجسامة المسئولية في هذه المرحلة الدقيقة التي لا ترحم.. فكانت النتيجة أرقاماً كبيرة من النجاحات، ويقظة أمنية، وإحصائيات متصاعدة وقدرة على تجاوز محكات صعبة نحسب أنها صقلت تجربتنا الأمنية اليمنية بشكل غير مسبوق، في مرحلة غاية في الصعوبة، تبدو مفخخة بالإحباطات وأحزمة اليأس الناسفة!! [email protected]