مما قد يتذكره القارىء كتاب "لعبة الأمم" لرجل الاستخبارات السابق الشهير مايلز كوبلاند. واذا كان القارىء قد تجاوز جيل الشباب ومتابعا لأخبار العالم فإن كتاب كوبلاند نفسه ذكره دون شك بأحداث حملتها اليه الانباء. ومن تلك الأحداث الانقلاب الذي دبرته في مطلع الخمسينات من القرن العشرين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سي.آي .إيه" والذي أدى الى اطاحة حكومة محمد مصدق رئيس وزراء ايران في تلك الحقبة المتهم بالتعاطف مع الشيوعيين وإعادة الشاه السابق رضا بهلوي الى السلطة الفعلية. وقد حفلت الأخبار بعد ذلك بتفاصيل عن التظاهرة الكبرى التي بدأت بشكل بريء كحدث رياضي اشترك فيه مصارعون ايرانيون ورياضيون من مجالات أخرى كما اشترك فيه حواة ومتمرسون في ألعاب الخفة. وأخذت التظاهرة تكبر ككرة الثلج الى ان ادت مع خطط اخرى تكاملت معها الى اعتقال مصدق وسجنه واستعادة الحكم واعادة الشاه الى السلطة. الكتاب الجديد في العربية المترجم عن الانجليزية حمل عنوان "دليل سي.آي .إيه الرسمي للخدع والحيل" وقد كتبه بالانجليزية كيث ميلتون وروبرت والاس. الكتاب الذي صدر عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت جاء في 281 صفحة متوسطة القطع. ميلتون هو خريج الأكاديمية البحرية الأمريكية ومؤرخ عمليات الاستخبارات واختصاصي في التكنولوجيا السرية ومهنة التجسس. وهو ذو شهرة عالمية في تكنولوجيا التجسس. أما والاس فقد تقاعد من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سنة 2003 بعد تمضية 32 سنة في الخدمة بصفة ضابط عمليات ثم بصفته مسؤولا رفيعا بعد ذلك بما في ذلك مركز مدير مكتب الخدمات التقنية. ترجم الكتاب الى العربية سعيد محمد الحسنية وقام بالمرجعة والتحرير مركز التعريب والبرمجة التابع لدار النشر التي صدر عنها الكتاب. وقصة الكتاب نفسها أي قصة المواد التي استند اليها لا تبدو فحسب بل هي فعلا آتية من قصص عالم الاستخبارات. لابد هنا من الاشارة الى محتويات الكتاب. فبعد "تمهيد" ننتقل الى "مقدمة تركة مكولترا وكتب ألعاب الخفة المفقودة". ومشروع مكولترا هو برنامج بحثي رئيسي لوكالة المخابرات الأمريكية بدأ في أوائل الخمسينات عن تصميم بعض العقاقير للتأثير على السلوك. وقبل تناول بعض ما في هذه المقدمة عن "مكولترا" لابد من ذكر العنوان الرئيسي الآخر وهو "بعض التطبيقات العملياتية لفن الخداع". العناوين الفرعية الثمانية في هذا الباب هي كما يلي: مقدمة وتعليقات عامة حول فن الخداع. التعامل مع الحبوب. التعامل مع المساحيق. التعامل مع السوائل. اخذ الاشياء بطريقة سرية. مظاهر خاصة للخداع عند النساء. اخذ النساء للاشياء بطريقة سرية. العمل كفريق. تلا هذا باب اخر هو "تمييز الاشارات". جاء في التمهيد الذي كتبه جون ماكلوجان ان الكتاب يدور موضوعه حول "لاعب خفة أمريكي استثنائي وعن طريقته في الحياة التي تقاطعت مع الاستخبارات الأمريكية خلال حقبة حاسمة من بدايات تاريخها." أضاف أن جون مولولاند لم يقدم أي تسلية عائلية أبدا كما فعل لاعب الخفة الشهير هوديني أو ديفيد كوبرفيلد. "كان جون بين لاعبي الخفة المحترفين الذين ظهروا منذ ثلاثينات وحتى خمسينات القرن الماضي. اي أنه كان يعتبر النموذج الأمثل لما يجب أن يكون عليه لاعب الخفة: مهذبا وماهرا ومبدعا ومنتجا. وقد صدرت له كتب في ألعاب الخفة." وقال ماكلوجان "ويمكنني القول بصفتي لاعب خفة هاويا امضيت فترة طويلة من العمل مع الاستخبارات الأمريكية ان ما يدهشني الآن بمولولاند هو أن طريقة السرد هنا تتوافق مع أمر استنتجته في سياق حياتي المهنية: أن ألعاب الخفة والتجسس يعتبران من الفنون المتقاربة في ما بينهما." وقال ان الدليل الذي كتبه مولولاند لصالح وكالة المخابرات المركزية والذي يرد في متن هذا الكتاب كان يهدف الى تطبيق بعض تقنيات التخفي والتضليل التي يستخدمها العملاء المحترفون في بعض جوانب التجسس. أضاف أن تعليمات مولولاند قد أرت في العديد من المظاهر العادية لمهنة التجسس وكيفية الحصول مثلا على مختلف المواد بطريقة سرية. وفي "مقدمة.. تركة مكولترا" نقرأ كيف اكتشف المؤلفان في العام 2007 ملفا للمخابرات الأمريكية كان قد فقد منذ زمن طويل وكان مصنفا على أنه بالغ السرية. كشف هذا الملف عن تفاصيل استثنائية لعلاقة الوكالة بعالم ألعاب الخفة قبل عقود طويلة وسلطت هذه الوثائق -وهي جزء من مشروع مكولترا- الضوء على عملية غير معروفة كثيرا هي توظيف جون مولولاند ليكون اول لاعب خفة يعمل في وكالة المخابرات الامريكية. وقد ألف مولولاند "دليلين" مصورين لتعليم ضباط وكالة المخابرات الميدانيين كيفية دمج عناصر مهنة ألعاب الخفة في العمليات السرية. وبسبب السرية العالية التي احاطت بمشروع مكولترا اتلفت جميع النسخ المتوافرة من الدليلين سنة 1973 . لكن بقيت الشائعات تسري في أروقة "لانجلي" المقر الرئيسي لوكالة المخابرات المركزية حتى بعد مرور نحو خمسين عاما عن وجود نسخة مفقودة من كتب ألعاب الخفة. وهي النسخة التي عثر عليها مؤلفا الكتاب. ونقرأ عن تاريخ وكالة المخابرات المركزية وأنها ألقت عند انشائها عام 1947 على عاتقها مهمتين أساسيتين هما: منع الهجمات الخارجية المباغتة على أمريكا ووقف تغلغل الشيوعية السوفيتية في أوروبا ودول العالم الثالث. ويقول الكاتبان إن نجاح الاختبار النووي السوفيتي سنة 1949 فاجأ الولاياتالمتحدة. وتلقى الرئيس دوايت ايزنهاور تقريرا فائق السرية من لجنة ترأسها الجنرال المتقاعد جايمس ايتش دوليتل جا فيه "اذا كانت الولاياتالمتحدة ترغب في البقاء فسيتعين عليها اعادة النظر في مبادىء الانصاف التي سارت عليها حتى الآن. " "سيتعين علينا أن نتعلم كيفية التدمير والتخريب وقهر آدائنا باستخدام وسائل أذكى وأكثر تعقيدا وأكثر فعالية من تلك التي تستخدم ضدنا...." وقد حمل الكتاب عالما من الغرائب ورسوما عديدة شرحت في الدليل المشار اليه كيفية القيام بألعاب الخفة الاستخبارتية وعرض وسائل وأجهزة خفية ذات مظهر عادي لا يلفت النظر بل لا يخطر في البال تستخدم في العمليات. قراءة ممتعة إجمالا وشعور يشبه ذاك الذي يخلقه حضور فيلم سينمائي أو تلفزيوني ناجح عن عالم المخابرات. لكن الواقع هو "هنا" اي في الكتاب أم الخيال "فهناك". "رويترز".