في أوائل الثمانينات، انتقلت من السكن في حي بقلب باريس، الى ضاحية «بورت دو سان كلو» اللصيقة بالعاصمة. الشوارع عريضة. الساحات فسيحة. النظافة رائعة. الهدوء ناعم مريح للنفس والأعصاب. في أمسية اليوم الخامس، انقلب المشهد فجأة: شجار بالقبضات والعصي هنا وهناك بين شباب مخمورين. مراهقون يحطمون نوافذ المنازل والسيارات والمحال. الشوارع والأرصفة مفروشة بحطام زجاج المشروبات ونفايات الساندويش. عويل سيارات الشرطة وهي تحاول فرض الهدنة واستعادة السلام. يا إلهي! ماذا حدث؟ آه. اكتشفت أني جار ل «ستاد» من أكبر المجمعات الرياضية في فرنسا. يتكرر مشهد الفوضى الصاخب في المواسم الرياضية، وكلما خاضت فرنسا حربا كروية مع دولة كروية عظمى. قبائل اللعبة تستعد للمباراة بملء جوفها بالمسكرات في المقاهي المجاورة. بعد المباراة تخرج من «الستاد» لتصفي القبيلة المهزومة الحساب في الشوارع مع القبيلة المنتصرة. سهولة الانتقال عبر الحدود الأوروبية أمنت انتقال القبائل الكروية بسرعة قطاراتٍ وطائراتٍ تحمل عشرات الألوف. عرفتُ من التجربة أن القبيلة الانجليزية اشدها هياجا وخطرا في النصر وفي الهزيمة. ولما كنت مؤمنا بجبهات «الصمود والتصدي»، فقد صمدت سنتين. ثم هربت من خندق سان كلو مهزوما الى ضاحية أخرى مسالمة. هل كرة القدم لعبة خطرة على المجتمع والوطن والعالم؟ اطرح السؤال، وكأني اعتبر نفسي العاقل الوحيد الذي لا يشارك في هذا الجنون بدورة كأس العالم الحالية. الواقع أنا حائر بين ما قرأت في كتب المدرسة عن فضائل اللعبة، وبين التجربة الكروية ونتائجها على الحياة الاجتماعية والسياسية. اللعبة جميلة بحد ذاتها. عرض مُغْرٍ ومُسَلٍ للرشاقة والحيوية والمهارة والقوة. أُلْهِية ممتعة رخيصة التكاليف في المجتمعات الغنية والمحرومة، في الدول المنفتحة والمنغلقة. الملعب مسرح الجماهير. المدرجات منابر التعبير الحر الصريح الذي لا تحاسب الاجهزة الأمنية اصحابه عليه. من حيث المبدأ، اللعبة أداة توحيد وتجميع وتقارب وتواصل، بقدر ما هي أداة تنافس وتباعد وتفريق. ما أسميه «تصنيع الكرة» جعل اللعبة حرفة أكثر منها هواية، صناعة أكثر منها فنا، إدمانا أكثر منها غواية بريئة. غدت الكرة أكثر الألعاب شعبية. نجحت الكرة في تركيز اهتمام العالم على قضية واحدة غير مهمة! لم يستطع مقتل الزرقاوي سرقة العرب من كأس العالم. الثورة المعلوماتية المرئية والمسموعة جعلت من اللعبة مهرجانا تلفزيونيا تشارك فيه مليارات من البشر وهي قاعدة مُسَمَّرة في البيت أو في العراء أمام الشاشة. الهت شاشة الكرة «المستهلكين» العرب عن شاشة هيفاء ونانسي وعن الكرات الملتهبة في أجساد مذيعات ومقدمات برامج التلفزيونات اللبنانية. الكرة عدوة المرأة. الكرة لا الجنس ولا السياسة، مجال حوار الرجال مع الرجال في المقهى والنادي والمكتب، فقط في المواسم الكروية. «تصنيع» الكرة انحرف بها عن مزاياها وفضائلها الاجتماعية والرياضية. بدأ التصنيع بتسييس اللعبة. الرياضة أيضاً سياسة، لكن بوسائل أخرى. باتت الكرة آيديولوجيا سياسية أكثر منها ثقافة شعبية. الإدمان الكروي المحموم أعلى من شأن انتماء الجمهور الى الهوية المحلية والجهوية، على حساب الوحدة الوطنية، ثم جعل من الوطنية مهددة للشعور، المتردي أصلاً، بالوعي القومي، وعي الانتماء للأمة. مرت مباراة السعودية وتونس في التحام تنافسي رائع، لكن نعرف أن مباريات سابقة بين العرب والعرب تخللتها استفزازات الانتماء الوطني الذي أصبح، للأسف، سابقا للانتماء القومي الأكبر. إذا كان لا غبار على تعزيز الدولة التقليدية أو الديمقراطية للشعور الوطني عبر جمهور الكرة، فالدولة الشيوعية أو الفاشية استغلت الرياضة والكرة للدعاية الآيديولوجية. حولت النظم الشيوعية لاعبيها الدوليين إلى دمى متحركة مبرمجة بتدريب خاص متميز، لإبهار العالم بقوة التفوق المصنوع، وللتغطية على شقاء النظام الاجتماعي، والتخلف الاقتصادي، والإلغاء السياسي للجماهير. الفاشية استغلت انتصاراتها ومهرجاناتها الرياضية للإلهاب الشعور القومي الشوفيني والعنصري ضد الانسانية. كان موسوليني يفاخر العالم بانتصارات ايطاليا الرياضية. هتلر استغل دورة الألعاب الأولمبية (1936) في برلين، للترويج لصرامة النظام الفاشي في إقامة وحدة اجتماعية مصطنعة. صافح هتلر لاعب الكرة اللبناني بيار الجميل، فعاد الأخير إلى بلده الصغير مسحوراً، ليشكل حزبا فاشيا (الكتائب). ساهم الحزب في صنع استغلال لبنان، لكن زاد من لهيب الصراع الطائفي، وصولاً الى المساهمة في تفجير الحرب الأهلية (1975). سيفموند فرويد اعتبر الألعاب الرياضية التنافسية وسيلة لاحتواء الغرائز العدائية. أضيف من عندي، فأقول.. وأيضاً لتفجيرها. تسييس الرياضة والكرة أدخل تغييراً واسعاً على المفهوم السياسي والاجتماعي للألعاب المشتركة. نعم، الكرة تعبير عفوي لا شعوري عن موقف سياسي جماهيري مضاد للرفض الاجتماعي. لكن هذا التعبير تجسد في جمهور شبابي وأنصار مراهقين أقرب الى الشعبوية الغوغائية. من حسن الحظ أن جماهير الكرة العربية، لم تتحول بعد الى ميليشيات همجية شبه أمية، عسكرتها واستغلتها الأندية الرياضية، كما نشاهد عند غيرنا، حتى لدى مجتمعات سبقتنا في الحضارة الصناعية والإلكترونية. وهكذا، فالإدمان العفوي للمشهد الرياضي والكروي هو أيضاً شبيه بالتلقين الذي تمارسه الأصوليات التقليدية والمتسيسة، عبر المسجد والشاشة والتسجيلات المعلوماتية. هو نزول بالعقل والفكر والوعي، الى الآذان المتلقية المنصتة بلا قدرة على المناقشة والحوار، والى العيون المبهورة بنجوم الوعظ والإرشاد، هو أيضاً هبوط بالثقافة الرفيعة، ثقافة القراءة والمعرفة والعلم والنقد، الى متابعة الأقدام المتراقصة التي تتداول الكرة. الاستغلال السياسي للكرة هو ذاته الاستغلال الاقتصادي للفقراء منتجين عاملين ومستهلكين، منذ أن اخترعت الرأسمالية الصناعية الانجليزية الكرة، لتسلي بها عمال المناجم السكارى. ما زالت اللعبة لعبة الفقراء المتعطلين الذين سرحتهم ثاتشر فهُرعوا الى ملعب الكرة، لا إلى حزب العمال! الكرة والأصولية سياسة سهلة. جمهور متقارب في إدمان الانتماء للنادي وللفريق، وللتعلق بنجوم الكرة والتلقين. ايمان عفوي. جدل مسطح. مناقشات ساذجة. تفريغ للطاقة المكبوتة في اللامجدي. محاولة لخلق كائن مؤمن أسطوري لا وجود لكماله وتمامه، إلا عند الأنبياء. جمهور رياضي مدمن نظرياً لا يمارس الرياضة عملياً! يكفيه خوض حروب الملاعب والشوارع، أو الجلوس أمام شاشاتها، في قعدة منزلية لذيذة كسولة، خطرة مع التدخين وأطباق الطعام، على صحة العقل والروح والجسد. في «التصنيع» المتواصل للكرة الرياضية والأصولية، بات الساسة ورجال المال والأعمال والشركات أندادا لرجال التلقين. أولئك يسيطرون على النادي والفريق واللاعبين. هؤلاء يسيطرون على المسجد والمنبر والشاشة والمؤمنين. الغرض الوصول إلى الجماهير العفوية المغسولة عقلا والمغيبة وعيا، والارتفاع على أكتافها الى السلطة واحتكار السياسة. في مسرحية «كليوباترة» الشعرية لشوقي، يهامس صديق صديقه «ديون» في خوف على المصير: «إسمعِ الشعبَ، ديونُ، كيف يوحون إليه/ يا له من ببغاء، عقلُهُ في أذنيه!». تسييس جمهور الكرة قد يتبدد بانتهاء موسم اللعبة، ولا يترك أثرا حاسما على السلطة والسياسة. من هنا، حب الدولة اللارياضية لحرية الرياضة والكرة. لكن الدولة التي تترك الكرة الأصولية لرجال التلقين، ليسيسوا الإيمان، هي الدولة التي تطعن حاضرها بيدها، وتغامر بمستقبلها. الشرق الاوسط