لا يشبه يمنيو هذه الأيام تاريخهم العريق شبهاً كبيراً ففي هذا التاريخ آثار عظيمة وأدوار كبيرة لا خلاف حول أهميتها الفائقة في مصير اليمن ومصير العرب والمسلمين. ومن بينها الهجرة اليمنية بعد خراب سد مّأرب التي عمرت بلاد العرب وساهمت في تقدمها فضلاً عن الدور اليماني الحاسم في نصرة الإسلام وحمايته وفي نصرة الرسول العربي صلى الله عليه وسلم وهو غير قابل للجدل.. وإذا عدنا إلى تاريخ العرب فاليمن يضم العرب العاربة كما العرب المستعربة ومنه انطلق النطق الأبرز باللغة العربية التي نتحدث بها اليوم. ولأن الدور اليمني في انتصار الإسلام كان حاسماً سواءً عن طريق قاطني اليمن حين ظهور الرسالة النبوية أو أجدادهم القدماء من الأوس والخزرج في يثرب فقد ذكر اليمنيون بما يستحقون من الذكر المميز وأما الركن اليماني في الكعبة الشريفة فهو أثر لا يخطئ حول عظمة هذا الشعب ومكانته المميزة في قبلة المسلمين ويعرف مرجع ديني حلبي هذا الركن بقوله".. هو من جهة أهل اليمن بالنسبة للكعبة المشرفة، ويندب استلامه من غير تقبيل كلما مرّ به. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم أرَ النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين" متفق عليه. وقال بعض أهل العلم بجواز تقبيله مستدلين بما أورده ابن خزيمة بسنده إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل الركن اليماني ووضع خده عليه" وكذا في المستدرك" .. تبقى الإشارة إلى أن لأهل اليمن ميقاتهم الخاص في "يلملم" وهو لهم ولمن جاء للحج عن طريقهم. ومن الصعب أن نمر مرور الكرام على الدور اليمني في ابتكار أنظمة الري والسدود في منطقة صحراوية جافة وقد أدت هذه الأنظمة العبقرية إلى تنمية زراعية كانت ذات فضل كبير على الحضارة العربية الإسلامية كما أنه من الصعب إنكار أهمية التجارة اليمنية بين بحر العرب والمحيط الهندي وبلاد الشام ولعل بعض التجار اليمنيين ساهموا ومازالوا يساهمون في تنمية بلدان وأمم عديدة من بين النمور الآسيوية الناهضة. وعندما نتحدث عن التجارة فإننا نتحدث بالضرورة عن كوادر متخصصة في المال وقياس جودة السلع وعن خبرة في الأسعار العالمية ناهيك عن تعدد اللغات وابتكار أفضل أنواع المواصلات .. الخ. وكل ذلك يتطلب مستوى مرتفعاً من التعلم والرقي والتقدم. وبقدر ما كان التاريخ اليمني مدججاً بالآثار العظيمة والانجازات الحضارية الفارقة بقدر ما تخللته ظواهر مخجلة ولا تدعو للفخر ومن بينها.حرب البسوس التي قامت بسبب ناقة لامرأة اسمها البسوس بنت منقذ، وذلك بين قبيلتي بكر وتغلب وانتهت الحرب بانتصار الثانية على الأولى. أما الأنظمة المتخلفة التي تحكمت بشمال اليمن والنظام الكولونيالي البريطاني الذي شطر جنوبه لأكثر من عشرين شطرا فقد جعلت هذا البلد في حالة لا يحسد عليها بل إن آثارها الكوارثية ممثلة بالنقص في التقدم مازالت قائمة حتى اليوم. وفي التاريخ اليمني نعثر دائماً على حدين قاطعين: صعود وتقدم ونهضة فارقة وتخلف وانحدار وسقوط في قيعان المهاوي لذا بدأت في المقدمة بالإشارة إلى أن يمنيي هذه الأيام لا يشبهون أسلافهم الذين صنعوا حضارات جديرة بالذكر بل ربما هم أقرب إلى تغلب وبكر أبطال حرب البسوس ولا نبالغ في القول: إن هذا البلد مرشح للانحدار باتجاه الصوملة أكثر منه نحو الاستقرار واستئناف مسيرة البناء والتنمية على تواضعها. ولان مصير هذا البلد معلق على القرارات التي يتخذها أهله هذه الايام وبما أن الأهل منقسمون إلى قسمين يتنازعان السلطة ولا يديرانها معاً فان تعين مفترق الطرق أمام هذا البلد يكتسي أهمية كبيرة والطريق الأول يفصح عن حقيقة غير قابلة للنقض وهي أن الرئيس علي عبدالله صالح تسلم بلداً لا سلطة فيه بدليل أن رئيسه اغتيل في مكتب قصره. فكان أن بسط صالح سلطته على معظم أرجاء البلد. وقد تسلم بلداً برياً بنظر القانون الدولي لان حدوده ليست مخططة فكان أن حل مشاكل الجدود مع كل جيران اليمن وصار بالامكان استثمار الثروات المحلية وفق القانون الدولي . وتسلم الرئيس صالح بلدا مشطرا فوحده وقاتل حتى يبقى موحدا وهي المرة الاولى منذ السيطرة الثمانية على جنوب وشمال البلاد. وتسلم بلداً لا يتكاثر أهله بصورة طبيعية بسب الأمراض والأوبئة التي تصيب الأطفال فإذا باليمن يشهد ثورة ديمغرافية غير متوقعة ربما كانت في اصل الانتفاضة الشبابية الاخيرة. وقد تسلم صالح بلداً أكثريته الساحقة من الأميين فانخفضت نسبة الامية ويمكننا ان نتابع على هذا النحو في مجال المواصلات والبنية التحتية وغيرها وهذا يعني ان حكم اليمن يجب ان يستند الى هذه الانجازات ومن دون التعرض لمن أنجزوها.. اما ظواهر الفساد والنهب وانتهاكات الحقوق والتساهل في تطبيق القانون وضعف السلطة المركزية في بعض المناطق والتشارك في استخدام العنف مع المجتمع الأهلي .. كلها ظواهر جديرة بالادانة وتستدعي علاجاً جذرياً لا يمكن أن يتم في أي حال من الحالات... عبر الانتقام والثأر الذي يطيح بكل شيء. أما الطريق الثاني فهو الذي يقول: إن ما وقع باليمن ثورة وان الثورة تتطلب تغييراً جذرياً يقضي بنصب المقصلة وقطع الرؤوس و تحطيم ما كان و إقامة اقتصاد جديد وسلطة جديدة وإدارات جديدة ومؤسسات جديدة وبالتالي إحالة الدولة السابقة إلى التقاعد و المخاطرة بإثارة حرب أهلية قد تكون معها حرب البسوس تمرينا تافها. في حكمة منسوبة له يقول أوسكارو وايلد ".. اطلب القمر فان فشلت تحصل على النجوم" وهي حكمة مفيدة بالنسبة لمن يتولى أو يريد تولي الدولة في اليمن فالسلطة قد تكون وسيلة لتصفية الحسابات والانتقام والثأر وإلغاء الخصوم ومحو آثارهم وإلقاء الحرم عليهم وهي في هذه الحالة وسيلة بائسة لا تعلي شأن القابضين عليها ولعلها اقرب إلى ثقافة "البسوس" بالمقابل يمكن للسلطة أن تكون وسيلة لطلب القمر عبر التسامح ورعاية التعايش بين التيارات اليمنية المختلفة وخلق أجواء من الاستقرار والطمأنينة من اجل إطلاق نهضة تنموية شاملة وسياسة خارجية طموحة وفي هذه الحالة قد يحصل صاحب السلطة على القمر وله إن أخفق نصيب في النجوم.