قالوا قبل بضعة أشهرمضى عام، وأطل جديد، بينما عندنا للقرون ألوان بعضها وللأجيال الملامح نفسها. يحتفلون هنا وهناك في ربوع كوكبنا بمولد العام الجديد .. تسطع أضواءه ملونة، مبددة عتمة السماء.. تنشر الألعاب النارية معبرة عن الابتهاج والتفاؤل.. يسهر الناس لترقب صباح العام الجديد- يتجمعون، يتمنون، يرقصون، ويتبادلون التهاني لا يفعل من ذلك شيئاً من إدراك أن الزمن قد شاخ ولن يجود أبداً بأفضل مما كان.. دع هؤلاء الناس يحتفلون ويتمنون ما دام التمني لا زال مجانياً. كما يتمنى اليتيم أماً وأباً وحضناً حميماً وقلباً حانياً. كنت منهمكة أفكر في جملة هموم أثقلت النفس داخل رئتي حتى صار كالدلو في البئر يحتاج لحبل غليظ لإخراجه.. ليتنا بقينا صغاراً تحت مظلة آبائنا .. ليتنا ظللنا أطفالاً على شاطئ الحياة، نسبح قليلاً ولا نغرق، ونبني القصور فوق الرمال ولا نسرق، ثم نجري حفاة فوق الرمل ولا نحرق لنعود إلى مظلة آبائنا نحتمي تحتها من أشعة الشمس.. ليتنا إلى يومنا هذا نسير خلف خطاهم .. ويا ليتهم ظلوا شباباً ونحن صغارا، فلا يشيخ أحد مناّ !! خرجت ليلة رأس السنة المحنى الجبين وفي كياني جبال لا تلقي بالاً لأي تقويم.. ولا لها صلة بعالم التمني، ولا هي قابلة للتسوية ولا للترميم.. فوجدت نفسي أقود سيارتي وأقطع المسافات متجهة إلى الجبل المطل على "وادي ظهر"، وكانت الطرقات مظلمة – ولكني أحبك يا يمن وإن لم تتزيني بالأنوار..أحبك وإن لم أجد منك ما يرضيني .. أحبك وسأظل أحبك وأؤمن بان حبك فطرة ليس لنا أن نقبلها أو نرفضها.. فأنت النعمة ، وأنت الهبة.. أنت الحضن.. أنت الميناء.. أنت الهواء.. أنت المطر.. أنت الطيور تحلق في السماء.. وأنت أيضاً القرية والحبيبة، وإذا كان لكل إنسان أضلع فإن ضلع منها عظم وضلع حبك إلاّ أنه في هذا الزمان الرائع حب مقيد وأصم وأبكم ! خنقتني العبرة مع توالي هذه المفردات على تفكيري، فأوقفت السيارة ونزلت أطل على الوادي، وأتأمل ب"دار الحجر"! الهواء في ديسمبر بارد ، حتى طقسك قد تغير - مثل أخلاق أبناءك – حولوك إلى كرة يلعبون بها ويتنازعونها من بعضهم البعض. كنت أطل على الوادي حين سمعت فجأة بكاءً واضحاً لا ظن فيه.. تلفت، فلم أجد أحد، وحتى أنني لم أستطع تحديد جهة النحيب.. أهي أمامي؟ على يميني؟ يساري؟ خلفي؟.. أنا فعلاً لست أدري لكن أغلب الظن أنه يصدر من أسفل الأرض. تراجعت خطوات إلى الخلف، إذ خشيت أن يدفعني ارتفاع صوت البكاء أن أرمي بنفسي من الجبل هرباً منه.. أوصدت أذناي فقد كان بكاء مريع لم أشعر بأنه بكاء بشر ، ولا قد سمعته من قبل ، ولا هو من حنجرة ، ولا هو دموع، بل شعرت أن رحاه تدور داخل رحم.. كان بكاءً مبكياً، فرفعت صوتي حتى تسمعني الباكية وسألتها: مَنْ أنت؟ أين تقفين؟ لم أتلق أي رد سوى تواصل البكاء.. نظرت إلى "دار الحجر" في ذلك الظلام الحالك فوجدت فوق سطحه كرة مشعة من نور.. وفجأة انتقلت كرة النور لتستقر فوق سطح أحد المعسكرات التي تتمركز في الجبال.. مَن انتزعها!؟ رأيت الكرة نفسها تنتقل كما البرق لتستقر فوق أحد القصور الفخمة بمنطقة "حدة".. بالكاد التقطت أنفاسي – يا الهي مَن هذا الذي يتنازع الكرة من مستقر إلى آخر؟ وكيف يجرؤ؟ مسكينة هذه الكرة حوّلها أبناؤها إلى لُعبة.. وتقاذفتها أقدامهم.. وجدتني أغضب - بغير أن أنوي ذلك – لما تعانيه كرة النور هذه ، فقررت أن أذهب إليها فوق سقف ذلك القصر الأبيض وآخذها عندي لترتاح وتهدأ. ركبت سيارتي وعدت إلى الطريق وكرة النور ما زالت تشع فوق سطح ذلك القصر فترشدني الطريق إليها، ولما وصلتها كان القصر محاطاً بحراس.. خفت إن طلبت الدخول أن يمنعوني، وإذا تسلقت الجدار وأخذتها خفية خشين أن يروني فيظنوني سارقة ويحبسوني.. كان الحراس يحتسون الشاي- أسود كالحبر- وبعضهم لم يزل يحشو فمه بالقات داعياً الله أن ترد به تنهيدة فلا تخرج.. قررت أخيراً أن أتسلق ، وقلت في سريرتي إن ألقوا القبض علي سوف أُعلمهم من السارق الفعلي- وهو حتماً- ليس أنا ! نجحت في الوصول إلى السطح، ووجدت الكرة تنتفض تعباً ، برداً، وخوفاً.. انتشلتها وهي تنبض في يدي، وخبأتها تحت ثيابي ، وعدت سيارتي. وفي السيارة شعرت أن الكرة تنبض فوق قلبي النابض بحبها.. وفي المنزل أخرجتها فتجلت أمامي أرض الله السمراء- كانت سابقاً خضراء، وقلبها كالماس.. وبادرتني القول:"سلام"! أجبتها : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وبدون مقدمات صارت تقول لي: " لقد لعب بي أبنائي على مر الأزمان- سامحهم الله – بينما قيدني "الأوائل" وأحاطوني بسياج، فلم أر سواهم، احتكروني أماً لهم وأنا أحب أن أُشعر جميع أبنائي بأمومتي ، فحرموا كل أبنائي من حليب الأم- فجاعوا ، ومرضوا، وافترشوا الطرقات.. بينما أبنائي الأوائل انتعشوا، وتنعموا بالصحة حتى انتزعني منهم "الأواخر" فأضفوا البريق هنا وهناك – غير أن الغرور أغواهم فجعلوا مني سجاداً يخطون فوقه للوصول لمآربهم الشخصية.. لكنهم لم يحتكروني لأنفسهم أو لأسرهم بل جعلوا مني ملكاً مشاعاً لكل من أستطاع أن يمد يده ويأخذ ما شاء..! لقد شاع بيننا من يوقر هؤلاء "السرق"- مع أنهم ليسوا أفضل من أي سارق يقبع في ركن من الحبس، بل قد يكون الثاني أشرف من الأول.. ربما يسرق ليأكل، أو يشرب، أو ليشتري دواء؛ فيما الأول يسرق ليتخم بالرفاهية.. الأواخر سرقوا حليبي، ويبسوا العروق، وحطموا الأسنان، أما أنا.... منذ زمن طويل لم أنعم براحة إذ يتألم لأجلي المخلصون من أبنائي.. أنام على راحات أياديهم موجوعة، وهم يئنون.. يضمدون جراحي وأنا أمسح بأناملي نزيفهم.. وكنت أتساءل بحيرة: لماذا لم يكن المخلصين يوماً أقوياء؟ لماذا لم يكونوا أبداً وفي أي أرض أصحاب قرار؟لماذا هم الأضعف دوماً، والأقل حيلة، وهم المغلوبين على أمرهم، والأقل ذكاء؟ لم أحقد يوماً على أحد، فكيف لقلوب الأمهات أن تعرف الحقد، لكني أأسى على أبنائي المخلصين إذ هم دائماً بجانب الدار متخوفين من حمايتي .. مترددين في التغيير لخيري وخيرهم.. وغالباً أراهم محبطين ويائسين مثلك!! كأنما شيء لطمني على وجهي كانت تلك العبارات فأفاقني من استرسالي في الإصغاء، فبادرتها الرد: وما العيب في المشي بجانب الجدار؟ أليس بجانب الجدار يجد المرء الأمان والاستقرار، فيما وسط الطرقات ليس إلاّ شمس، وقصف، ودماء، وتحرش، وغدر ، ونجاسات ... بجانب الجدار متى ما حدث سوء وترنحنا من هول خسارة نجد ما يسندنا، وإذا ما صفعتنا نوائب الدنيا تلقانا الجدار، وأسند ظهورنا فنقف مجدداً.. بجانب الجدار نسلم! سكتنا معاً لبرهة، ورأيت جفنيها لا يكادان يرتفعان، فتمتمت بصوت لا يكاد يسمع: نحن قلة يا أمي، والقلة لا تغلب الكثرة.. والإرادة إذا كانت قوية فإنها غالبة بإذن الله.. ربما هم أسلحة ومخالب، وترسانة ونحن عُزّل، لكن يقيناً الإرادة أقوى سلاح... كلام مجرد كلام. تنهدت ومسحت دموعها وسألتني: وهل سأظل على هذا الحال؟.. أردت ممازحتها – كعادتي في الهروب عند تعسر الإجابة أو الوقوع بمأزق- فضحكت قائلة: المشكلة أنك بين أبناء أفضلهم سيء.. لقد ذكرتني بمقولة سمعتها في مسرحية مصرية حيث قال أحد الممثلين " ماذا كم تن تون على تن تن ، الأول نتن والثاني أنتن"! حنوت عليها مجدداً، واحتضنتها بخفقات قلبي فهذه اليمن ما زالت تملأ الدنيا بريقاً – وما أضناها الألم..!