لن يعترض الكثيرون إن قلنا إنّنا نعيش، منذ التسعينات على الأقل، فترة من العولمة السريعة أصبحت خلالها حياة الناس مرتبطة بصلات متداخلة وكثيفة أكثر من أي وقت مضى. ولكن السؤال هو: ما هو السبيل لتدوين تاريخ هذه الحقبة؟ وما هو السبيل لربطها بالحقبات السابقة، التي تتعدى حقبة بداية العولمة الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر لتصل إلى القرون الغابرة التي شهدت إقامة شبكات متداخلة من العلاقات، على صغرها، على امتداد محيطات العالم بفضل الإمبراطوريات التجارية التابعة للبرتغاليين والبريطانيين والهولنديين، فضلاً عن مجموعات من المهاجرين النافذين المتحدرّين من مجتمعات تتطلّع إلى الخارج ولكن تفتقر إلى الأساطيل البحرية القادرة على حماية مصالحها في المناطق الساحلية الاستراتيجية كالصين وجنوب الهند أو في العالم العربي، مثل سورية ولبنان أو حتى أجزاء من اليمن. وجد هذا التحدّي الكبير من يرفعه بنجاح في شخص البروفسور إينسينغ هو (Engseng Ho)، أحد المتخصصين في علم الإنسان الاجتماعي في جامعة هارفارد، والذي وضع أخيراً كتاباً عنوانه «قبور تريم» (The graves of Tarim) الصادر عن «يونيفرسيتي أوف كاليفورنيا برس» سنة 2000، وهو يرتكز إلى سنوات طويلة من الأبحاث حول حضرموت والهجرة منها إلى الهند وجنوب شرقي آسيا وأفريقيا. ويقدّم الكتاب تحليلاً مفصلاً بطريقة رائعة عن إنشاء وصيانة نظام شبكات استمرّ إلى ما بعد سقوط الإمبراطوريات البحرية العظيمة التي حضنته جزئياً، ويتناول إلى جانب هذا، المشاكل العملية المرتبطة بهذا المشروع الفكري الواسع. وعلى رغم أنّ الكتاب ليس سهل القراءة بمجمله غير أنني لا أشك مطلقاً في أنّه سيصبح مع مرور السنين من الكتب الأجنبية القليلة التي تتناول العالم العربي وتستحق لقب «كتاب كلاسيكي» عن حق. تتشكّل منطقة حضرموت من وادٍ ضيّق مروي بشكل جيد، وهو يمتد حوالي 80 ميلاً من الشرق إلى الغرب، وبالتحديد من «الربع الخالي» في السعودية إلى بحر العرب، ولطالما سكنها شعب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصعود الإسلام في المناطق الواقعة إلى الشمال منه. ورغم مقدّرات الوادي الغنية على مستوى الزراعة والتجارة، بدأت منذ ثمانية قرون حركة هجرة طالت ولا تزال تطال جزءاً كبيراً من سكانه الذكور، كان أوّلهم السيّاد الذين انضموا إلى صفوف المبشّرين المسلمين ثم الشخصيات المدنية والدينية التي توجّهت إلى المحاكم الهندية المختلفة، وأخيراً المغامرون والسلاطين والتجّار والديبلوماسيون وملاّكو الأراضي الذين توغّلوا شرقاً نحو ماليزيا وإندونيسيا. تعيّن على هؤلاء الحضرميين المجرّدين من السلطة والحماية أينما حلّوا، أن يشقّوا طريقهم بأنفسهم داخل التركيبة الاجتماعية والسياسية المحلية في المنطقة التي استقبلتهم. ولذلك صاهروا المجتمعات المحلية وأسّسوا عائلات ترتبط ببلدهم الأمّ عبر صلة الدم، وعبر ثقافة وعلم يقومان على مفاهيم التنقل والعودة والثقافة الدينية والأخلاقية لإنشاء مجتمع يمتد عبر المحيطات ويعتبر نفسه مرتبطاً بصلة الرحم التي يعزّزها الغناء والكتابة والقراءة والروايات المحكية أو بالعودة إلى الجملة التي استخدمها البروفسور «هو»، عبر الروايات التي يتقاسمونها عن أنفسهم. بالإجمال، إنها معلومات معروفة بخطوطها العريضة، إنّما ما هو السبيل لقصّ هذه الرواية وفهم ديناميتها الخاصّة والإشارة الى العمق العاطفي في العلاقات العائلية الواسعة وتفسير التغييرات التي طرأت على العلاقة بين المهاجرين والوطن الأمّ على امتداد العصور؟ النقطة الأساسية في مقاربة البروفسور «هو» هي طريقة جمعه لمجموعة ضخمة من الدلائل التاريخية المتنوعة، ومنها النصوص والمواد التاريخية والاجتماعية وتلك التي جمعها من خلال تجربته الخاصة، والتي استقاها من أرجاء العالم كافة لتكوين نظرة عامة تقوم على مفاهيم دورات حركات الهجرة الى الخارج والعودة الى الداخل، وهي تتمحور حول بلدة تاريم الصغيرة الواقعة في الوادي، بجوامعها ومقابرها وأخيراً، بقصورها وأكواخها وفيلاتها الغربية التصميم، حيث يعتقد البروفسور أنّ الموجات التي دفعت بالحضرميين إلى السفر اجتمعت في القرون الأولى لولادة الإسلام واتخذت طابع النشاط المتطلع إلى الخارج والمستوحى من الدين. ويضيف إلى هذه الفكرة تحليلاً رائعاً عن المناخ العام الذي حدثت فيه هذه الحركات والتي نتجت بداية عن التحوّل في الطرق البحرية التجارية غرب الخليج نحو البحر الأحمر بعد قطع الطرق البرية إلى الصين بسبب غزوات المغول، ثمّ عن مختلف الإمبراطوريات البحرية الأوروبية التي خلقت، خلال آخر حقبة لها وهي حقبة البريطانيين، عالماً في المحيط الهندي تسيطر عليه بحرياً الوزارات والإدارات البريطانية التي كانت مسؤولة عن كل النشاطات البحرية فيه، أما في البر فقد تعزّزت السيطرة من خلال الممتلكات المتنافسة والبيروقراطية التابعة لبريطانيا وهولندا. وبفعل تشجيع الإمبراطوريتين للهجرة الحضرمية ثم لجمهما لها، تعاظم تأثيرهما على وادي حضرموت نفسه إذ تسربت التطورات والتقسيمات الخارجية التي تأثّر بها المهاجرون إلى الوطن الأم ما أفضى نهاية إلى القرار البريطاني المتأخر بضمّ الوادي إلى الإمبراطورية البريطانية باعتباره جزءاً من آخر الممتلكات الإمبريالية، وسمّي «محمية شرق عدن» قبيل الحرب العالمية الثانية. إنّما القصة لا تنتهي هنا. فبينما تظهر الطريقة المستخدمة لرواية القصة بسيطة في البدء يتبين أنّها مبتكرة في محاولتها الناجحة لإيجاد الحلول الصحيحة للتحديات التي يفرضها تدوين التاريخ العالمي أمام الرواية التاريخية التقليدية، وفرض البنية المتماسكة وتبرير نمط معين من العلاقات أساسه شبكة مكثّفة من الصلات الشخصية والاجتماعية والأيديولوجية استمرّت رغم المسافات عبر السفر والرسائل الخطية والتواريخ المشتركة، وخضعت للفرص والمطالب التي نتجت عن التطورات التقنية كالتحوّل من الإبحار إلى القطار وفرض جوازات السفر ووصول الطوابع البريدية والتلغراف. لفهم الحل الذي انتهجه البروفسور «هو» للرد على هذه التحديات علينا ذكر ثلاث مسائل مترابطة. أوّلاً، أصبح البروفسور شخصاً عالميا، بفضل المال واللغات والثقة الأكاديمية التي مكنته من السفر حول المحيط الهندي والإحساس بأنّه في موطنه أينما حلّ، ويعود ذلك جزئياً إلى صلاته الحضرمية. وأتاح له ذلك بالتالي المجال لممارسة أحد ضروب الاجتماع التاريخي المتخيّل تتداخل فيه معرفته الواسعة بالموطن الحضرمي وهجرته الحالية مع تحليله للجهات المعنية من ماضي حضرموت. ونتجت عن كل ذلك قدرة على تقديم عالم متماسك من الداخل والخارج، وعلى استيعاب نظرته إلى العالم باعتباره مجتمعاً من الأشخاص الذين كانوا ولا يزالون إلى اليوم مرتبطين بأوثق الصلات مع العوالم الخارجية، وفاقدين لأي نوع من الثقة بهذه العوالم في آن، وذلك حسب تعبير البروفسور. وأخيراً، استطاع البروفسور أن يضفي معنى على زخم مفهوم الشبكات القاحل إلى حد ما، من خلال ملاحظته للمعنى الأساسي والجوهري الذي ترتديه العلاقات العائلية المنتشرة، ما يمنح هذه العلاقات العالمية طابعها الخاص وليونتها الخاصة إضافةً إلى حدّتها الخاصة أيضا، مع تراكم الروايات الشخصية التي لا تحكي فقط النجاحات الفردية ولكن تتناول أيضاً الصعاب والانسلاخ، ولا سيما في العالم الحالي المؤلف من الدولة الأمة والتشريعات الوطنية التي لا تنفك تضيق. يعد كتاب «قبور تريم» بأن يكون في عداد الكتب العظيمة التي يقرأها المرء ويتأمّل فيها ثمّ يعود ليقرأها مجدّداً. فلنأمل أن يبلغ سريعاً الجمهور الناطق بالعربية. إنه حقاً لإنجاز لافت. * اكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد