بعيدا عن العويل الذي يتحدث به غير العراقيين، وبعيدا عن النزعة الدموية لرموز من الطائفة الشيعية الحاكمة في العراق على الرئيس العراقي السابق صدام حسين والذي نفذ فيه حكم الإعدام في وقت مبكر من صباح اليوم، العاشر من ذي الحجة (أول أيام عيد الأضحى المبارك وفقا لقواعد التشريع السني والسابق ليوم العيد وفقا لقواعد التشريع الشيعي)، فإن ثمة متناقضات يثيرها الحكم، والشخص الذي نفذ عليه، والظروف والآلية والزمان والمكان وكثير من العوامل المحيطة به والمقدمات التي سبقته والنتائج التي ستتلوه. * ليس طائفيا وقبل الحديث عن كل ذلك فإن من المهم الاعتراف لصدام حسين أنه لم يكن طائفيا. ومع كل مايحدث في العراق اليوم بسبب الاستخدام والالتزام السياسي للخلافات المذهبية والتباينات الطائفية، فإن صدام يوم مماته كما كان في حياته قد صعب على خصومه استخدامه للإثارة الطائفية. لقد وزع الحزن على العراق دونما تفريق بين سني وشيعي وعربي وكردي. وما كان من قسوة بالغة تجاه الشيعة والأكراد –في الحالات محط الإدعاء من الدجيل إلى الأنفال وغيرها- فقد كانت متعلقة بكون الطائفة والعرق هنا حاضنا للفعل السياسي ليس إلا. يمكن هنا تذكر أن الحكم بإعدام صدام تضمن حكما مشابها على قاضي الدجيل السابق عواد البندر، وهو شيعي الانتماء. كما أن من صادق على الحكم في القضية التي راح ضحيتها أكراد هو رئيس الوزراء ال"شيعي"، وليس رئيس العراق "الكردي". كما أن القضاة الذين تناوبوا على مقاضاة صدام ورفاقه كانوا مختلفي الانتماءات. من هنا فإن صدام –بإعدامه- خرج دفعة واحدة من المعادلة الطائفية التي ستحكم مستقبل العراق، بفعل الصراع السياسي، واختلاف المرجعية الاجتماعية والفكرية والخبرة التاريخية بين المجتمع الأميركي والعراقي –اللذان يصيغان مستقبل العراق تقنيا الآن-. لقد ودع صدام العراق أو الأخير ودعه، دونما التزامات لهذا الصراع المقيت. وليس هذا تهوينا من الأداء السياسي والإداري لدولة صدام الذي يعد أحد العوامل المهمة التي أدت لما هو قائم حاليا. إذ عطلت العمل السياسي وضربت التكوينات التنظيمية، وأذلت المواطنة تحت دعاوى عامة يمكن وصفها بكل برود إنها مجرد "دعاوى انتهازية" استخدمت القومية والبعثية والأمن العربي كقفزات ناعمة للعنف والإذلال وعدم احترام الإنسان العراقي الذي حكم صدام باسمه وباسم طموحه المستقبلي. لكني أتحدث عن العلاقة المباشرة، والتي مات صدام –رحمه الله- وهو بريء منها. * وبشر القاتل بالقتل مقابل ذلك، فقد ظل صدام وفيا –مريدا ومرغما- لقانون دورة العنف الذي صعدت به إلى سدة الحكم في واحد من أقدم بلدان الدنيا، وأغناها. لقد كانت محاكمة صدام حسين الأولى التي شاهدها العالم العربي فضائيا وكان يمكنها أن تكون الأولى التي تغلق معادلة الثار التي تحكم الصراع السياسي في العالم العربي والإسلامي منذ مئات السنين. إن كل العهود التي ترث بعضها البعض في العالم العربي تقوم على قاعدة "سلم الأجر" التي يستخدمها حاملي جنائز الموتى. التي تعني تغيير الأشخاص والحفاظ على المنهجية. لقد جاء صدام في سياق عربي يقدس الرصاصة، ولكل مبرراته لذلك. الجميع يدين استخدام الآخر للرصاص لكنه لايفعل ذلك كإدانة فكرية وإنما كسلاح سياسي. ولذا وبمجرد أن ينجح في حشر هذا الآخر في زاوية الفشل ويستلم الراية فإنه يعجز عن تذكر المآسي التي عاشها هو حين كان خارج السلطة، ويبدأ بحماية سقوطه الأخلاقي بذات المعطيات التي كان خصمه يستتر ورائها مع تعديل طبيعي في سياق تبادل مربعات الانتماء. وحمى صدام قيادته للعراق بطرق لا أخلاقية، استحلت الدم العراقي. وقتل بها مئات آلاف من العراقيين باختلاف انتماءاتهم، من أعضاء الإخوان المسلمين، إلى حزب الدعوة، والقوميين، وحتى البعثيين أنفسهم، بل إن أسرته وعشيرته لم يستطع الانتماء لها أن يحمي رموزا كبيرة اغتالهم الصراع مع العنوان الوحيد ل"الخير" العراقي الذي صار محصورا باسم "صدام" وموالييه. وكل ذلك حدث وبدون حتى محاكمات صورية شكلية كالتي حظي بها المهيب الركن صدام حسين قبل أن يصبح ملحقا بإسمه جملة "رحمه الله"، والتي نالها في ذات المكان الذي غيبت فيه إدارته الأمنية القمعية آلاف العراقيين في مبنى الاستخبارات العسكرية في الكاظمية (المعروفة بالشعبة الخامسة). غير أنه –مهما قيل من تحسن- رحل بذات الطريقة، وهو مايلقي الشك العميق حول حقيقة الإدعاءات التي يتشدق بها سياسيو العراق، في الحكم أولا وفي المعارضة تاليا. إن الطريقة التي أديرت بها اللحظات وصولا إلى تحويل صدام إلى جثة ملفوفة في قماش وتغييبه وراء التراب تمثل خيبة كبرى للتحولات التي لن يشهد العالم العربي أي نهضة بدون تحقيقها. والتي تحتاج بعد نظر كبير وكبير جدا، وأداء يقبل دفع ثمن من نوع مختلف لم يعهد في عالمنا الرديء. نعم لقد تحصل صدام فرصة مثول أمام محكمة أدارها عراقيون أكفاء ومحترمون، وأتيح له الدفاع عن نفسه سياسيا –في محكمة ذات بعد سياسي أكثر من كونه استحقاق وأداء قانوني-. وهو مالم يحدث مع خصومه ولا مع أمثاله الذين دهستهم الثورات وحركات التصحيح والإصلاح على طول البلاد العربية وعرضها، على مدى أكثر من نصف قرن. ويمكن القبول بأي إشارات من قبيل، أن إعدام صدام يغلق باب عهده الذي لم تستطع قوات التحالف إغلاق تفاعلاته، ويمنع استمرار نبش المقابر الجماعية من أجل حفر مثيلاتها للأحياء، ويؤكد جدية تجاوز حقبة حزب البعث، ويشيع الأمان لدى عراقيين كثر شرد بهم التوجه السياسي لصدام حسين المجيد، ويهدئ من روع من هد القمع السابق قدرته عل التماسك بالاغتيالات والانتهاكات. فالقاتل وهو هنا صدام ليس له من جزاء سوى القتل. غير إن كل ذلك لم يكن بابه الوحيد هو إعدام صدام. خاصة وأنه نفذ في ظل خطاب سياسي حاكم في العراق لايختلف مطلقا عن مفردات مايسمى "العهد الصدامي". وبخاصة من النخبة السياسية المنتمية للطائفة الشيعة. وحتى لايفهم من هذا الاستنتاج أي "تطييف" ينقل صدام لمربع السنة، فإن من المهم الإشارة إلى أن العراقيين الشيعة يعيشون مأساة مضاعفة ناتجة من أنهم الطائفة الوحيدة التي حافظت مرجعياتها السياسية على مساقاتها التاريخية. وهو مايعني أن كل مساق أو مرجعية يدافع عن ذاته –في مواجهة مقتضيات التنافس الشيعي الشيعي- بذات الطريقة التقليدية حتى ولو لم تمثل المصالح والحاجات الجديدة للعراق والتي لم تصبح حاكمة للشارع السياسي بعد. لذا فإن النخب السياسية الشيعية تبدو أكثر "طائفية" من رموزها الدينية خلافا للسنة الذي ليس لديهم مرجعيات تاريخية لاسياسية ولا دينية، والأكراد الذي صاروا يمثلون حالة متقدمة على مستوى العالم العربي –للأقليات أو للعمل السياسي برمته- بفعل الحالة الديمقراطية الأفضل بالقياس مع المحيط. من هنا فإن رموز العمل السياسي من الشيعة وعبر تبنيهم خطابا عاليا ضد صدام يتسابقون لإقناع الناخب الشيعي بأن كل واحد منهم أقدر على تمثيل التشيع من خصومه، وهو ما ضاعف من سوء منطقهم الغالب الذي لايختلف عن خطاب صدام إلا في أنه يدعي الدمقرطة والتعددية واحترام الآخر. لقد فوت هذا التنافس الذي لا علاقة له بمصلحة العراق الكبرى، أو هو أحد تجليات الاختلال في المرحلة الانتقالية من الشمولية والتعددية، ومن سيادة الحاكم إلى سيادة المواطن ذي الصوت الانتخابي. فوت –أو هو أحد عوامل ذلك ضمن أخرى- على العراق، لا بل وعلى العالم العربي عمليا ونظريا فرصة تاريخية لإيقاف الدم وفقا لقاعدة "القاتل يقتل ولو بعد حين"، ليس بوصفها قاعدة قانونية كاملة العدل والإنسانية بل كمبدأ سياسي انتقائي ينفد منه من تتيح له قوته أن يفعل. ويؤصل للعنف والكراهية وليس للعكس. وإلا هل لنا أن نسأل عن أي منطق حقوقي هذا الذي يبتهج لإعدام صدام في ذات الوقت الذي يدافع عن فرق الموت وممارسات الإرهاب وأحكام القتل بحجة أنها "ردة فعل". ثم هل يمكن البحث عن "شركاء القتل وأدواته" سواء في عهد صدام أو بعده. إذ بدون ذلك فإن إعدام صدام مهما لبس من تخريجات قانونية يظل فعلا سياسيا يؤكد أن الإعدام نفذ في حق الجسد فيما حوفظ على المنهج بل ومنح فرصا جديدة ليبدأ مرحلة "فتية" بدعاوى مختلفة، كرفض التعايش مع الصداميين وغيرها. إن صدام لم يكن زعيم عصابة ولا قاطع طريق بالمعنى الإجرائي وبالأهداف الحاكمة، بل كان حاكما مستبدا، وهو مايعني أن ماصنعه من كوارث -لايختلف على سوئها حقوقيان- لاتعالج بذات معالجات الجرائم الجنائية. ولذا فإنه قد خفر للمحكمة بقرار سياسي وأديرت محاكمته والإدعاء والشهادة عليه بقرار حكومي، وليس بسبب دعاوى شخصية أو عائلية باسم المنتهكة حقوقهم كمواطنين. وذلك تأكيد على التوصيف السياسي للجريمة، وذلك كان يتطلب مع قضيته تعاملا سياسيا حتى النهاية بمايحقق للمواطن العراقي عهدا مختلفا كل الاختلاف عن العهد "الصدامي" البائد، ويؤسس لإعدام صدام المنهج والإدارة وليس مجرد صدام الشخص والجسد. إن الجرائم السياسية لاتعالج بتجريم الأشخاص –مهما علا شأنهم-، بل بمعالجة الإجراءات والآليات التي مالم ينتبه لها فإنها تتسرب للعهد الجديد لتحكمه من لحظة تعامله الأولى مع خصومه. إن ماصنعه "هتلر" من كوارث لم ينسحب على "النازيين الجدد" الذين يتولى الشعب الألماني تقرير مصيرهم وليس الإدارة الألمانية إذ لو فعلت لكانت وفية لهتلر أكثر من أتباعه بالاسم واللافتة. وليس ثمة متسع ولا حاجة لشرح الفروق بين آليات الشعب والحكومة، إذ تتخذ الأولى طابعا ثقافيا واجتماعيا وطويل الأمد فيما الثانية مجرد قرارات وأحكام. وهذا مالم تجد حكومة نوري المالكي ولا إدارة الرئيس بوش وقتا لتأمله، مستفيدة أو متأثرة بتراخي منظمات حقوق الإنسان الدولية والمجموعات البحثية، بل وحتى قيادات مهمة في دول الإتحاد الأوربي –ذي الخبرة الاستعمارية الثرية-، تحت خداع ظل حيا حتى عشية يوم الإعدام باستحالة تنفيذ إعدام رجل جيش العالم إمكانياته بحجة السعي لمنعه من مواصلة القتل. ويمكن هنا توجيه لوم كبير لهيئة الدفاع عن صدام (باستثناء اثنين منهم) ولغالب مناصريه –بخاصة خارج العراق- الذين تبين وقد نفذ فيه الإعدام أنهم منذ اللحظة الأولى لبدء محاكمته لم يكونوا معنيين بتحقيق العدالة بل ببذل كل الجهد في محاولة أخيرة للدفاع عن "صدام" عبر تحميل ضحايا حكمه ماحدث لهم من قمع وانتهاكات واغتيالات وتشريد!! وقطر المسألة بقطار الصراع العربي الغربي، والإسلامي المسيحي، وغيرها من العناوين الكاذبة التي تستخدم للدفاع عن سياسة تحقير الإنسان العربي ذي الرأي المختلف مع الجالس على كرسي الحكم أو وكالة التاريخ والدين والقيم. خلاصة القول إن إعدام أول رئيس عربي في عصر مابعد الثورات الوطنية يسقط وفقا لمعادلة صنعها احتلال أجنبي، كان كاشفا وبكل مايمكنه من وضوح بأن الأزمة العميقة في الهوية والفكر لاتزال تحكم الأداء الوطني. ولعل احتلال العراق –وهو في أحد وجوهه الإيجابية القليلة يمكن أن يكون تطورا في التعاون الإنساني للدفاع عن المجتمعات التي تعجز عن منع حكامها من التنكيل بها بحجة حماية مصالحها!!- فشل فشلا عميقا في تثوير الذهنية المستفيدة من التطورات لكي تقدم نموذجا مختلفا للمواطن العربي تجعله ينحاز لها في مواجهة محيط من العدائية التي تفرحها مثل هذه الأخطاء لتستخدمها مصدات أمام المطالب بالتغيير. ومن هنا فإن الأفق يبدو أكثر التصاقا بآليات القمع التزاما للإرث النظري عالي الشكوى من الاستبداد والقمع ولكن بسبب عجزه عن ممارسة القمع على قامعيه. وهذا ينذر بمزيد من الالتزام بإرث وعناوين الصراعات القادرة وحدها على الدفاع عن الكيل بأكثر من مكيال تجاه القضايا الحقوقية والقانونية. التزاما باعتبار الحقوق مجرد "سلاح سياسي" وليس قيما مبدئية واجبة للعاجز عن الدفاع عن نفسه كما للقادر على حد سواء. * رئيس تحرير موقع "نيوز يمن"