تابعت أخبار حروب صعدة الست وأخبار المواجهات التي اندلعت بين الحوثيين وبين القبائل في محافظات الجوف وعمران وحجة، ولأن «ليس من رأى كمن سمع» فإن متابعتي اقتصرت على كوني أقوم بواجبي كصحفي أو كمهتم بالأحداث كغيري من اليمنيين. ومن المؤكد أن الصحفي أو غيره ممن قدر لهم التواجد في مسرح المواجهات خلال تلك الحروب سيتعامل معها بصورة مغايرة لمن يتابعونها عبر وسائل الإعلام، وتختلف درجة الاهتمام والتعامل بحسب قرب الشخص أو بعده عن الحدث. كتبت كثيرا عن تلك الحروب وعن معاناة المتضررين منها وعن الخسائر التي خلفتها لكنني لم أتخيل نفسي سأكون -يوما ما- في وسط مواجهات اندلعت وكادت أن تأكل الأخضر واليابس لولا لطف الله ثم جهود العقلاء من كل الأطراف المعنية في احتواء الأزمة ونزع فتيل الحرب التي اشتعلت وسقط ضحيتها امرأتان من أسرتي ورجلين من طرف الحوثيين كما يدعون. ففي الثالث من شوال كنت في قريتي «القاعدة» بمديرية الشاهل -محافظة حجة لحضور حفل زفاف كريمتي الذي تأجل بسبب الأحداث، وبعد ظهيرة ذلك اليوم الأسود كما يسميه أبناء المنطقة سمعت إطلاق رصاص كثيف وصرخة نسائية مدوية هزت أرجاء القرية وإذا بالخبر أن الحوثيين قتلوا فاطمة أحمد محمد القاعدي (50 عاما) وابنتها صفية حسن علي القاعدي (25 عاما). خبر نزل كالصاعقة، وصرخة الاستنجاد التي أطلقتها الحاجة فاطمة وهي تشاهد مصرع ابنتها قبل أن تغتالها أسلحة «المجاهدين» الحوثيين بثواني قليلة كانت كفيلة بتحريك مشاعر الجماد. تداعى الناس من كل حدب وصوب إلى مكان الجريمة وهالهم هول تلك الفاجعة التي خلفت امرأتين مضرجتين بالدماء وقد صوب «ستة مجاهدون حوثيون» نيران أسلحتهما صوب جسديهما لتستقر فيهما أكثر من 30 رصاصة. ويمكن تلخيص القضية في أن الحوثيين قبل حوالي عشرة أشهر استأجروا مقرا بجوار منزل (حسن علي القاعدي) الذي أصبح لاحقا زوج ووالد القتيلتين، ومنذ اللحظة الأولى التي تواجد فيها الحوثيون بالمقر -بالتزامن مع اندلاع مواجهات كشر بين الحوثيين والقبائل- والمشاكل بين صاحب المنزل والحوثيين لم تهدأ حيث يشكو (حسن) من تواجد المسلحين الحوثيين المستمر بجوار منزله وأن أسرته أصبحت تشعر بالضيق ولا تستطيع التحرك بحرية. وفي شهر شعبان الماضي نشب عراك استخدمت فيه الهراوات والجنابي بين الحوثيين وصاحب المنزل أدى إلى توافد عشرات الحوثيين من خارج المديرية إلى منطقة القاعدة وسيطروا على الجبال والمواقع المحيطة بالمنطقة بصورة استفزت المشاعر وقرعت جرس الإنذار لدى الأهالي، وقد تمكن العقلاء في المنطقة من استيعاب المشكلة وتوقيع صلح يتم بموجبه نزول المسلحين الحوثيين من المواقع المرتفعة مقابل إصلاح ما تم تخريبه في مقرهم والاحتكام في حالة الاعتداء من قبل أي طرف على الآخر، وكان الاحتكام إلى الشيخ (محمد أحمد القاعدي). لم يدم الصلح طويلا فقد تم تغيير المسلحين الحوثيين في المقر بآخرين بتاريخ 20 رمضان، وحسب إفادة الأهالي فإن الحوثيين كانوا يتوعدون «بنثر» الأمور بعد رمضان، وفي 3 شوال اندلعت ملاسنات بين صاحب المنزل والحوثيين على خلفية شفطه مياه خزان مدرسة النضال المجاورة للمقر والمنزل، وأثناء تواجد (حسن) بالمدرسة توجه ستة حوثيين مسلحين إليه وباشروه بإطلاق النار وفي تلك الأثناء كانت زوجته وابنته في الجوار واستخدمن الحجارة في الدفاع عنه، لكن الوقت لم يسعفهن فقد تحولت الأسلحة نحو أجسادهن الطاهرة وسقطن شهيدات على الفور وهن صائمات طلبا لأجر إتباع رمضان بست شوال. هرع الناس في الجوار بصورة عفوية للنجدة وأكثرهم بدون أسلحة، وتمكنوا من إلقاء القبض على اثنين من الحوثيين فيما فر أربعة. وكالعادة توافد «المجاهدون» الحوثيين من مركز المديرية للتمركز في المدرسة والمقر بل وأيضا لتكرار ما حدث من السيطرة على المواقع المرتفعة وضرب حصار على المنطقة لكن الوقت لم يسعفهم هذه المرة فقد تعلم الأهالي من الدرس السابق وتمركزوا في الجبال والمرتفعات لحراسة بيوتهم ومصالحهم، وبالفعل وصل الحوثيون إلى المدرسة والمقر الواقعين على مدخل المنطقة وادعو أن لديهم قتيلين. مدرسة الشاهل التي يتمركز فيها مسلحي الحوثي شيع الحوثيون قتيليهم كما بثته قناة «المسيرة» وقالوا إن قتلاهم في الجنة وقتلانا في النار (أي المرأتين)، وتداولت الأوساط الشعبية أن الحوثيين يعلقون مفاتيح الجنة في أعناقهم ولعل ذلك من قبيل السخرية، وقال الحوثيون إن قتالهم لنا نحن (آل القاعدي) جهاد في سبيل الله حتى وإن صلينا وصمنا ما دمنا نوالي أمريكا واسرائيل، وقال البعض إن الحوثيين قتلوا أمريكا وإسرائيل في منطقة القاعدة (يقصدون المرأتين). وفي اليوم التالي للجريمة (الأربعاء 4 شوال) توافد المسلحون الحوثيون من عدة مديريات، بل وصلت الأنباء أن عددا من السيارات المحملة بالسلاح والمقاتلين خرجت من بعض مديريات صعدة وتوجهت إلى مديرية الشاهل للجهاد في سبيل الله. تكدست الأسلحة الثقيلة والمتوسطة على المدخل الرئيس للمنطقة وانطلقت مكبرات الصوت الحوثية تلقي كلمة (السيد) التي تحرض على الجهاد في سبيل الله وقتال الموالين لأمريكا وإسرائيل، مع العلم أن (آل القاعدي) أسرة هاشمية، وبثت تلك الأبواق الرعب في أوساط النساء والأطفال وتسببت في نزوح معظم الأسر ولاح شبح الحرب في كل مكان، وفي الجانب الآخر كانت معظم قبائل العزلة التي يشكل (آل القاعدي) الخمس منهم على أهبة الاستعداد للمواجهة، فالرجال في مواقعهم والمتارس الحربية تحفر في كل شبر دون توقف، وهو ما كان يقوم به الحوثيون من جانبهم. ويحضرني مشهد قريبتي التي سمعت كلمة (السيد) التي تدعو (للجهاد) ضد عملاء أمريكا وإسرائيل في منطقتنا المسالمة وهي لا تكاد تصدق ما سمعت، فهي كانت تسمع عن الحَوَثة -باللهجة الدارجة- ولم يدر بخلدها أن تكون يوما ما هدفا لمقاتليهم بتهمة العمالة لأمريكا وإسرائيل. لقد كان الأمر برمته جديدا وغير متوقع على أهل المنطقة التي عاشت خلال مائة عام ماضية في سلام، إذ لم تشهد العزلة ولأجيال متعاقبة حالة ثأر واحدة، وظاهرة حمل السلاح قبل مجيء الحوثي لم تكن موجودة، وقد انشغل الناس بالزراعة والتجارة، وكثير منهم باعوا أسلحتهم واشتروا ناقلات المياه لسقي مزارعهم والبعض توجه نحو التجارة وشراء الأراضي ولم يدر في خلدهم يوما ما أنهم سيكونون في مربع القتال والمواجهة، وفي غضون يومين من عمر الأزمة تسلح أهالي العزلة عن بكرة أبيهم، فتجار الأسلحة كانوا على مشارف المنطقة بعد ساعات من الجريمة، وبالفعل باعوا كميات كبيرة من الذخائر والسلاح وكان الجميع ينتظر صفارة البدء والأيادي على الزناد. وفي سياق التأهب والاستعداد نفدت المواد الغذائية من الأسواق وأغلق شريان الحياة (طريق الإسفلت) الذي يقسم مديريات الشرفين وتوقفت حركة السير، وعلت لغة القوة معبرة عن نفسها في تمنطق المقاتلين بالسلاح، وسرت الشائعات المتبادلة بين كل الأطراف عن حجم وقوة الطرف الآخر. ومنذ اللحظة الأولى لم تتوقف جهود الخيرين والعقلاء لوقف نزيف الدم وتجنيب المنطقة مواجهات كانت كفيلة بتحويل مديريات (الشرفين التسع) إلى مسرح حرب لا أول لها ولا آخر تشرد مئات الآلاف من الأسر، وقد نجحت تلك الجهود بتوفيق الله، فالمحافظ علي بن علي القيسي كان متفاعلا وقد وجه بنزول حملة أمنية مكونة من سبعة أطقم وتابع تطورات القضية أولا بأول وبالمثل فعل وكيل المحافظة الدكتور إبراهيم شامي ومدير أمن المحافظة، ورأس الشيخ فهد دهشوش وأمين القدمي أمين عام المجلس المحلي بالمحافظة لجنة وساطة قادت جهود ناجحة نزعت فتيل الحرب وتمكنت بعد أيام من صياغة بنود الصلح الذي وقع من قبل الطرفين (آل القاعدي ويمثلهم الشيخ محمد القاعدي، والحوثيين ويمثلهم أحمد الشرفي المكنى بأبو إدريس) وبموجبه رفعت الأرتال ونزل المسلحون من مواقعهم وعادت الحياة إلى المنطقة، وفي هذا السياق لا ننسى جهود الزميل العزيز محمد بن علي العماد رئيس تحرير صحيفة (الهوية) الذي ساهم بشكل فاعل وإيجابي في حقن دماء الناس من موقعه، وكذلك الجهود المباركة التي بذلها بعض الإعلاميين والسياسيين. أيام عاشتها المنطقة قلبت الأمور رأسا على عقب، وغيرت مفاهيم وتصورات الناس حول عدد من القضايا، فقد اجتمع عقال المنطقة بل والمديرية وأعلنوا رفضهم الكامل لاستخدام العنف من قبل أي طرف، وأيضا استنكارهم للمظاهر المسلحة الدخيلة، واستهجانهم لتواجد المسلحين من خارج المديرية ومن محافظة صعدة. لقد قضى الحوثيون على ما تبقى لهم من رصيد لقبول المواطنين بهم في المديرية، ولذا فهم ينفون جريمة قتل النساء على اعتبار أنها «عيب أسود»، ورغم أن الجريمة ثابتة بمحاضر رسمية وبالأدلة الجنائية، فهم يروجون لدى أنصارهم قصصا مختلقة ومتناقضة وغير واقعية، فتارة يقولون إن القتلى رجال بزي نساء، وتارة يقولون إن النساء قتلن على يد ولي أمرهن ويقولون إنه لا توجد نساء مقولات بالمطلق. توقفت الحرب وتم التحكيم في القتلى لكن مخلفات الأزمة لا زالت تلقي بظلالها على المنطقة، فالناس لم يفيقوا بعد من هول الصدمة، ويتداول الأهالي أن المسلحين القادمين من خارج المديرية لم يغادروا بعد، وأنه تم رصد سيارات لمسلحين يمرون في المنطقة وأن هناك طلعات حوثية استطلاعية بين وقت وآخر تمشط المنطقة. (حسن علي القاعدي) وهو يقف إلى جوار جثة زوجته وابنته..