طالبات هندسة بجامعة صنعاء يبتكرن آلة انتاج مذهلة ..(صورة)    الخارجية الأمريكية: قواتنا ستواصل عملياتها في اليمن حتى يتوقفوا عن مهاجمة السفن    بين البصر والبصيرة… مأساة وطن..!!    التكتل الوطني: القصف الإسرائيلي على اليمن انتهاك للسيادة والحوثي شريك في الخراب    الجيش الباكستاني يعلن تعرض البلاد لهجوم هندي بعدة صواريخ ويتعهد بالرد    أكثر من 80 شهيداً وجريحاً جراء العدوان على صنعاء وعمران والحديدة    الرئيس المشاط: هذا ما ابلغنا به الامريكي؟ ما سيحدث ب «زيارة ترامب»!    بامحيمود: نؤيد المطالب المشروعة لأبناء حضرموت ونرفض أي مشاريع خارجة عن الثوابت    اليمنية تعلق رحلاتها من وإلى مطار صنعاء والمئات يعلقون في الاردن    الخارجية الإيرانية تدين الهجوم الصهيوني على مطار صنعاء    محمد عبدالسلام يكشف حقيقة الاتفاق مع أمريكا    صنعاء .. وزارة الصحة تصدر احصائية أولية بضحايا الغارات على ثلاث محافظات    تواصل فعاليات أسبوع المرور العربي في المحافظات المحررة لليوم الثالث    التحالف والشرعية يتحملون مسئولية تدمير طائرات اليمنية    الكهرباء أول اختبار لرئيس الوزراء الجديد وصيف عدن يصب الزيت على النار    سحب سوداء تغطي سماء صنعاء وغارات تستهدف محطات الكهرباء    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 52,615 شهيدا و 118,752 مصابا    البدر: استضافة الكويت لاجتماعات اللجان الخليجية وعمومية الآسيوي حدث رياضي مميز    المجلس الانتقالي وتكرار الفرص الضائعة    الوزير الزعوري: الحرب تسببت في انهيار العملة وتدهور الخدمات.. والحل يبدأ بفك الارتباط الاقتصادي بين صنعاء وعدن    النفط يرتفع أكثر من 1 بالمائة رغم المخاوف بشأن فائض المعروض    رئيس مؤسسة الإسمنت يتفقد جرحى جريمة استهداف مصنع باجل بالحديدة    إنتر ميلان يحشد جماهيره ونجومه السابقين بمواجهة برشلونة    سلسلة غارات على صنعاء وعمران    اسعار المشتقات النفطية في اليمن الثلاثاء – 06 مايو/آيار 2025    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الثلاثاء 6 مايو/آيار2025    حكومة مودرن    ريال مدريد يقدم عرضا رمزيا لضم نجم ليفربول    أكاديميي جامعات جنوب يطالبون التحالف بالضغط لصرف رواتبهم وتحسين معيشتهم    تحديد موعد نهاية مدرب الريال    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    ودافة يا بن بريك    انقطاع الكهرباء يتسبب بوفاة زوجين في عدن    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    برشلونة يواجه إنتر وسان جيرمان مع أرسنال والهدف نهائي أبطال أوروبا    قرار رقم 1 للعولقي بإيقاف فروع مصلحة الأراضي (وثيقة)    برعاية من الشيخ راجح باكريت .. مهرجان حات السنوي للمحالبة ينطلق في نسخته السادسة    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    الثقافة توقع اتفاقية تنفيذ مشروع ترميم مباني أثرية ومعالم تاريخية بصنعاء    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    الخليفي والمنتصر يباركان للفريق الكروي الأول تحقيق كأس 4 مايو    وزارة الشباب والرياضة تكرم موظفي الديوان العام ومكتب عدن بمناسبة عيد العمال    مليون لكل لاعب.. مكافأة "خيالية" للأهلي السعودي بعد الفوز بأبطال آسيا    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    قدسية نصوص الشريعة    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    أول النصر صرخة    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    المصلحة الحقيقية    مرض الفشل الكلوي (3)    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في المسألة الطائفية في المشرق العربي (2-2)

يَنقسِمُ التحدِّي الكبيرُ الذي وضعَتْه ظروفُ المشرقِ العربي الكبيرِ التاريخيّةُ أمامَ الباحثينَ العربِ في موضوعِ الطائفيةِ، إلى اثنَيْنِ برَأْيِنا: أَوَّلًا، رَصْدُ تحوُّلِ الطائفةِ الاجتماعيّةِ إلى طائفةٍ سياسيّةٍ، تَتخطَّى تمييزاتِ نظامِ المِلَلِ وسياساتِه.
وثانيًا، رَصْدُ عمليةِ تحويلِ الجماعاتِ أو الدياناتِ والمذاهبِ “الأخرى” وتَفكيكِها إلى أقلّياتٍ، قياسًا بأكثريةٍ طائفية… أَوْ حتّى تصرّف الأكثريات بعقليةٍ طائفية. فهذا لمْ يَكُنْ قائمًا دائمًا.
وهذه عمليةُ تحويلٍ تاريخي طويلةٌ ومُعقَّدةٌ للجماعاتِ إلى أقلّياتٍ فيما يَشرحُه مفهومُ (minorization)، بِما هيَ عمليةٌ في فَهْمِ تحوُّلِ الجماعاتِ الأكبرِ ديموغرافيًّا مِنْ ناحيةِ الحجْمِ إلى أقلّياتٍ بالمَعنى العددِي في مَنظورِ الديموغرافيا التاريخيةِ، والتي يُبرهِنُ التاريخُ أنَّها تَتحوَّلُ، غالبًا، إلى ديموغرافيا جهويةٍ وجبليةٍ “منعزِلة”. وثمّةَ صيرورةٌ أخرى في تحويلِ المواطنينَ إلى أقلّياتٍ، مِنْ دونِ تَغيُّرِ وزْنِهم الديموغرافي، وذلك بالتعامُلِ معَهم بتصنيفِهم بحسبِ انتماءَاتِهم الدينيةِ في الخطابِ السياسي السائد. هذا وحدَه كفيلٌ بتحويلِهم مِنْ مواطنينَ إلى أقلِّيات.
بإمكانِنا نظريًّا تَخيُّلُ طائفةٍ اجتماعيّةٍ، لها بنيةٌ ووظيفةٌ وحدودٌ على مستوى المجتمعِ الأهلي، وهي وظيفة مشروعة، وقد تكون ضروريةً في حالات. ولَيس بالضرورة أن تَتحوّلَّ إلى طائفةٍ على المستوى الوطني، ثمّ إلى قوّةٍ سياسيّةٍ ذاتِ مظالِمَ ومطالبَ متعلّقةٍ بها، وأخرى متعلّقةٍ بمشاركتِها في الحُكم، وتغييرِ نظامِ الحكم ليس إلى نظامٍ أعدلَ، بل إلى نظامٍ يَضمَنُ مشاركتَها مقياسًا وحيدًا للعدالةِ التي تَفهمُها.
والبنَى والوظائفُ والحدودُ الاجتماعيّةُ للطوائفِ معروفةٌ في سياقِها الاجتماعي التاريخي، سواءً على مستوى الحمايةِ والتضامنِ، أو على مستوى الطقوسِ والشعائرِ التي تُعيدُ إنتاجَها، أوْ على مستوى مَنْعِ الزّواجِ المختلطِ مع الطوائفِ الأخرى، وحتّى التخصّص بوظائفَ اقتصاديّةٍ معيَّنةٍ في بعضِ الحالاتِ، بحَسبِ علاقتِها بمسائلَ، مثلَ ملكيّةِ الأرض والحِرَفِ والتجارةِ، وغيْرِها. كَما أنَّ الطائفةَ الاجتماعيّةَ، بحُكمِ تعريفِها، برأيِنا ذاتُ طابعٍ محلِّي. تكمن المشكلة في تحوِيلِها إلى طائفةٍ تتجاوَزُ حدودَ الجماعةِ المحليةِ، فهذه غالباً ما تترافق معَ نُشوءِ أَدواتِ بناءِ الجماعةِ المتخيَّلةِ، كمَا في حالةِ القوميّة. وتُرافَقُ عادةً ببَدْءِ نُشوءِ المجتمعِ الجماهيري، بأفرادِه المُتذرِّرينَ، أَي المتحرِّرينَ مِن التبعيّةِ لِلْجماعةِ العضويّة.
في ظروفِ نُشوءِ مجتمعِ الجماهير، لا يُمكنُ إعادةُ إنتاجِ الطائفةِ بأدواتِ الانتماءِ إلى الجماعةِ المحليّةِ فقَط، وتَنْشَأُ هنا حالاتُ أَدلجةِ الطائفةِ بواسطةِ إعادةِ إنتاجِها جماعةً متجانسةً عابرةً للمكانِ والزّمانِ، وتدبيرِ ذلك بأدواتِ الاتّصالِ والتنظيمِ الحديثة، ويَرتبِطُ هذا غالبًا بدَوْرٍ سياسي ووظيفةٍ سياسية، لا سِيَّما أنَّ الجماعةَ المتخيَّلةَ قائمةٌ على أساسِ التبعيّةِ لمذهبٍ أو لدينٍ تُنافسُ طوائفَ أخرى، وجماعاتٍ متخيَّلة، مثلَ القوميّةِ والحزبِ السياسي والأيديولوجياتِ على أنواعِها. برَأْيِنا، يمكِنُ بسهولةٍ مراجعةُ ذلك تاريخيًّا في كيفَ تَحوّلَت الطوائفُ المحليّةُ في البلداتِ أو المدُنِ، إلى طوائفَ ذاتِ طابعٍ قُطْري (وأحيانًا قليلة متجاوزٍ للدول) في تيّاراتٍ مذهبيةٍ سياسيّةٍ، ترْعاها دُوَلٌ إقليميةٌ في بعضِ الأحيان؟ ومتى؟ ولماذا؟ وليس بالضرورةِ أن يكونَ هذا التتابعُ النظري تاريخيًّا؛ فمَجْرى الأمورِ التاريخي مختلفٌ عن النظري، ولا توجدُ فيه نماذِجُ نقيّةٌ عن الطائفيّةِ الاجتماعيّةِ أو السياسيّة. فهذه وظائفُ انفصلَتْ تدريجيًّا، ولم توجَدْ في الواقعِ التاريخي نماذجُ نقيّةٌ قائمةٌ بذاتِها.
يمكنُنا رَصْدُ نشوءِ المذاهبِ الإسلاميةِ تاريخيًّا بسهولة. وثمّةَ دراساتٌ متقدّمةٌ في هذا الموضوع. ولكنّ مهمّةَ رَصْدِ تَحوُّلِ أتباعِها إلى طوائفَ اجتماعيّةٍ منفصِلةٍ، ذاتِ حدودٍ ثابتةٍ نسبيًّا هي مهمّةٌ أصعَبُ في التاريخ، مثلًا في تاريخِ بغداد في القرنِ الرابعِ الهجري، بصورةٍ خاصّة، ومِنْ ثَمَّ في تبريراتِ الصراعِ العثماني – الصفَوي الطويلِ، وآثارِه، وما صاحبَه من تسنينٍ وتشييعٍ بقوّةِ السَّيف. ولكنّني أَدعو إلى تأَمُّلٍ نقدي في فكرةِ تحوُّلِ هذه الطوائفِ إلى جماعاتٍ ذاتِ وظيفةٍ سياسيّةٍ، تَطمحُ للمحاصصةِ، وتَعملُ من أجْلِها؛ لأنَّ السياسةَ في ذلك العصرِ لمْ تكُنْ وظيفةً قائمةً بذاتِها، ولا كانت الدّولةُ قائمةً كوظيفةٍ منفصلةٍ عن المجتمع. ولكن، يصحُّ هذا إذَا كان المقصودُ الصراعَ على الاعترافِ بحقِّ تفسيرِها النصّ، وحقِّها في مُمارسةِ عاداتِها… والأهمُّ مِن هذا وذاك الصراعُ على السُّلطان، أَوْ على الحُظْوَةِ لديهِ والقُربِ منه.
ومع ذلك، يُمكنُ ملاحظةُ بداياتِ هذا التحوُّلِ في نُشوءِ الدّولةِ الفاطميّةِ كمرحلةٍ أُولى، وتحوُّلِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ مِنْ جماعةٍ من العلماءِ المعارضينَ للمعتزلة أو للتصوُّف أو لغيرِها من “البِدَع” إلى “فِرقةٍ ناجِيَة”، أَوْ تعبئةِ العامّةِ كمِلّةٍ مستنفرةٍ ضدَّ الدّولةِ الفاطميّةِ تارةً أخرى.
ويُمكنُنا أنْ نُحدِّدَ بدقّةٍ متى نَشأَ المذهبُ الإثنَيْ عشري، وتحوَّلَ إلى مذهبٍ فِعلًا في التاريخِ أيضًا في المرحلةِ التاريخيّةِ نفسِها. ولكِنْ، يَصعُبُ أكثرَ تحديدُ متَى تَحوَّلَ أتباعُه إلى طائفةٍ. ويُمكنُنا القوْلُ إنّه تَبلوَرَ، أوّلًا، مذهبًا ضدَّ الإسماعيليّة، وليس ضدَّ السُنّة، ولكنَّ تحوُّلَه الرئيسَ بوصفِه طائفةً جَرى بين مدٍّ وجزْرٍ، وتحوّلاتٍ كبرى ذاتِ علاقةٍ بالتغيُّراتِ السكّانيةِ والجغرافية، ولكنَّه صعدَ على مسارِ التطيِيفِ، بمَعنى تحويلِه إلى ممارساتٍ يمكنُ لجماعةٍ كبيرةٍ من البشَرِ الالتزامُ بها في خِضمِّ الصراعِ بين الدّولةِ العثمانيّةِ والدّولةِ الصفَويّةِ على العراق. وهذا هو الأخطرُ والأكثرُ تأثيرًا، على الرغم من فُصولِ السّلامِ والمُعاهداتِ الدوليةِ بين العثمانيِّين والإيرانيِّين.
أمّا المرحلةُ الثالثة، فهي مرحلةُ التنظيماتِ، وبَدْءُ تحويلِ أهلِ الذّمّةِ إلى جُزْءٍ من كُلٍّ بالمعنَيَيْن، طوائفَ ومواطنين جزئيًّا في الوقتِ عينِه، ثمّ تدخُّلُ الاستعمارِ لحمايةِ ما أصبحَ يُعرفُ فجأةً بالأقلّياتِ (بلغةِ الأوروبيِّين) وقيامُه بمَأْسسةِ المحاصَصةِ الطائفيةِ في إدارةِ مجلسِ جبل لبنان إثْرَ مذابحِ عامِ 1860.
وفي هذه المرحلةِ، يَندرجُ تحوُّلُ الطوائفِ الاجتماعيّةِ في جبل لبنان إلى نوْعٍ من الطوائفِ السياسيةِ، معَ إعادةِ تعريفِ الغربِ أو لاستغلالِه نظامَ الامتيازاتِ، ولحمايةِ الطوائفِ في المراحلِ الأخيرةِ من تاريخِ الدولةِ العثمانيةِ، ثمّ تَسْيِيسِها تمامًا في النظامِ الطائفي السياسي الوحيدِ في المنطقةِ العربيّةِ في لبنان منذُ نشوءِ نظامِ المتصرفيّة وحتّى الآن، على الرغم مِنْ أنَّ الدستورَ اللبنانيَّ الراهنَ المنبثِقَ عن اتّفاقِ الطائف يقومُ على ضرورةِ إلْغاءِ الطائفيةِ السياسية، ولكنّه يُعيدُ إنتاجَها.
وحتّى في التاريخِ اللبنانيّ ما بعدَ الاستقلالِ بعدّةِ سنواتٍ، كان التوزيعُ الطائفيُّ عرْفًا، وكان يمكنُ لمسيحي أرثوذكسي، مثلَ حبيب أبو شهلا، في عامِ 1947 أنْ يشغَلَ منصبَ رئيس مجلسِ النوّاب، لكنّ الدولةَ اللبنانيةَ مَأْسسَت المحاصَصةَ الطائفيةَ في بناءِ أجهزتِها، كمَا مَأْسَست تشكيلَ المجالسِ الطائفيةِ ذاتِ السلُطاتِ في نطاقِ طوائفِها بأَعلى بكثيرٍ ممَّا مارسَتْه سلطاتُ الانتدابِ الفرنسي التي زَرَعت عمليةَ المَحاصصةِ الطائفية.
ويمكنُ مراجعةُ تاريخِ الطوائفِ والطائفيّةِ في العراق، والاستنتاجُ بسهولةٍ أنَّه ليس له تاريخٌ في الطائفيّةِ السياسيّةِ، على الرغمِ من أنَّه لَمْ يَخْلُ مِن الخصومةِ الطائفيةِ، وأنَّ تحويلَ الطائفيّةِ الاجتماعيّة إلى طائفيّةٍ سياسيّةٍ هو مِنْ نتائجِ التدخُّلِ الأميركي في العراق وضَرْبِ الدّولة، والتدخُّلِ الإيراني في المعارضةِ العراقيةِ قبلَ ذلك، وبعدَه في النظامِ الذي قامَ بعدَ الاحتلال. ولمْ يتحوَّل النظامُ العراقيُّ إلى نظامٍ سياسيٍّ طائفيٍّ دستوريًّا، بَلْ حصلَ ما هو أَسوَأُ؛ فالنظامُ الطائفيُّ الدستوريُّ يَمنَعُ التحوُّلَ الديمقراطي، ويصلبُ المحاصصَةَ لتصمُدَ في وَجْهِ المتغيّراتِ حتّى الديموغرافية، لكنَّه يضمَنُ، على الأقلِّ، تمثيلَ الأقلّياتِ وحقوقَها، وغالِبًا ما يحمِيها التوافقُ الطائفيُّ المنظَّمُ إلى أَنْ تَثبتَ هشاشتُه؛ ففِي العراقِ جرَى تبنِّي نظامٍ ديمقراطي مِنْ حيثُ الشّكْل، فرضه الاحتلال وفرض معه تنظيم السكّانِ سياسيًّا على أساسٍ طائفيٍّ ، وتعامُلِ الدولةِ معَهم على الأساسِ نفسِه، ما جعَلَ الديمقراطيةَ أداةً في تطيِيفِ الدولةِ وأجهزةِ القمْعِ مع تهميشِ الطوائفِ الأخرى. وهذا بالطبعِ أَسوَأُ مِن النظامِ الطائفي. إنّها سياسةٌ طائفيةٌ، تُسخِّرُ الديمقراطيةَ الشكليّةَ، ولا تقدِّمُ أيَّ حمايةٍ للأقلّياتِ على أنواعِها. وفي العراقِ، اعترف مجلس الحكم بالكردِ كقوميةٍ، مع أنَّ معظمَهُم سُنّةٌ، بينَما عُدَّ العربُ شيعةً وسنَّة.
(2)
يُثْبتُ تاريخُ المشرقِ العربي أنَّ التديّنَ السياسي، بغَضِّ النظرِ عَنْ نُشوئِه، إذَا وقعَ في مجتمعاتٍ متعدّدةِ الطوائفِ، وتُعانِي أصلًا مِنْ عدمِ استقرارٍ في هُويّتِها الوطنيةِ أو القوميةِ، فإنَّه يَؤُولُ بالضرورةِ إلى طائفيةٍ سياسيةٍ، حاملًا معه فكرَه السياسيَّ الديني، سواءٌ أكانَ سلَفيًّا أَمْ أصوليًّا أَمْ إصلاحيًّا… ويَستخدِمُ الطائفيّةَ في التحشيدِ خلْفَه.
وفي حالةِ السلفيّةِ الجهاديةِ التي امتدَّتْ، أخيراً، إلى دولِ المشرقِ، والْتقَتْ مع صعودِ قوّةِ الطائفيةِ وتراجُعِ الدولةِ الوطنيةِ وضعفِها في زمَنِ الثّورات، ولا سيَّما حيثُ ارتبطَتْ وحدةُ الدولةِ بالاستبدادِ، وقَعَ لقاءٌ شديدُ الانفجارِ بين السلفيّةِ الجهادية والطائفيّة.
قبْلَ حصولِ هذا اللِّقاءِ، حادَتِ الطائفيةُ الاجتماعيةُ والسياسيةُ المتولِّدةُ عَنْ تهميشِ الغالبيةِ في ظلِّ استبدادٍ في مجتمعٍ متعدِّدِ الطوائفِ، بالنضالِ التحرُّري عن هدفِه الأصلي، وهو التحرّرُ من الاستبدادِ وإقامةُ نظامٍ سياسي يحفظُ حقوقَ الناسِ المدنيةَ وكرامتَهم وحرياتِهم. ولكنَّ السلفيةَ الجهاديةَ في حالةِ السياسةِ الطائفيةِ، لا تُهمِّشُ عنصرَ التحرّرِ في النضالِ ضدَّ الاستبدادِ وحَسْب، ولا تَحْرفُ النضالَ الثوريَّ عَنْ هدَفِه الأصلي، من أَجلِ التحرُّرِ من الاستبدادِ إلى نزعاتٍ طائفيةٍ وحَسْب، ولا تَكتفي بالمطالبةِ الطائفيةِ بإشراكِ الطوائفِ المضطَهَدةِ بحصّةٍ أكبرَ، بَلْ تذهبُ إلى نَفْيِ الآخرِ وتكفيرِه. وليس ذلك من شروطِ اللُّعبةِ الطائفية.
إنَّها لا تَعترفُ بالطوائفِ الأخرى أصْلًا، بل تجرِي عليها أحكام أهلِ الذّمّةِ في أَسوَأِ تفسيراتِها الفقهيّةِ والسلوكيةِ وأفظَعِها، مستلهمةً مِن أسوأ المراحلِ في تطبيقِها في التاريخِ الإسلامي، والتي غالبًا ما تنسب إلى أكثر الحكَّامِ تَقْوى في خِطابِ الجماعاتِ الإسلامية، وأكثرُهمْ تقرُّبًا من العلماءِ المتشدِّدينَ والعامّةِ بحْثًا عن الشرعيّة.
(عمر بن عبد العزيز، والمتوكّل، وفتاوى ابن تيمية في مذبحة كسروان في عامِ 507ه/ 1305م، وتعصّب سياسات سلاطين المماليك ضدَّ الجماعاتِ الأخرى مسيحيةً وإسلامية).
يُضافُ إلى ذلك أَنَّ الطائفيةَ ترتبطُ، تاريخيًّا، بموجبِ تحليلِنا برَسْمِ حدودِ الطوائفِ واستقرارِها، ثمّ سَعْيِها إلى تحصينِ منزلةٍ ومكانةٍ وحصّةٍ ضمنَ الكُلِّ الجديدِ، ألَا وهو الدولةُ الوطنيّةُ، ولَوْ على حسابِ حقوقِ أفرادِها. أمَّا هذا النمطُ الهَجينُ من الطائفيةِ والسلفيّةِ الجِهاديةِ، فتقليد مشوه مسيس للفتوحاتِ وحملاتِ الدعوةِ ونشْرِ الدين. وهذا ليس مرتبِطًا بالضرورةِ بالطائفية. هذا إذا استثنينا تركيب الظاهرة سياسياً من عوامل سياسية. وعلى كل حال، اجتذبت هذه الظاهرة الفظيعة من الاهتمام الإعلامي والمخاوف الحقيقية والمضخمة ما غطّى على جرائم أفظع بكثير (كماً ونوعاً، إذا صح هذا التصنيف) ارتكبها الاستبداد.
كمَا أنَّ هؤلاء قَتلوا مِنْ السنة في سورية والعراق، أي “طائفتِهم” المفترَضةِ المتخيَّلةِ، أكثرَ ممَّا قتَلُوا مِن أبناءِ الطوائفِ الأخرى؛ فَهُمْ تكفيريّونَ وليسُوا طائفيِّينَ فحَسْب. إنَّهم يمثِّلون نُكوصًا إلى مرحلةِ ما قبلَ الطائفيةِ التي نَعرِفُها إلى مرحلةِ الحروبِ الدينية. هذا إضافةً إلى أنَّهم لا ينتَمونَ لأَيِّ حدودٍ معروفةٍ لطائفةٍ، بل يمثِّلونَ إِحياءً كارثيًّا مشوّهًا لمَفهومِ الأمّةِ والخِلافةِ، ما قبْلَ الدولة، وما قَبْلَ حتّى الطائفيةِ المعترِضةِ على الدولة. ولا يُمكنُ أَنْ تنتهيَ هذه الردَّةُ الكبرى عن التمدُّنِ العربي إلّا بِمَأْساة.
وهي تثيرُ نقاشًا مستمرًّا بخصوصِ تشويهِها الإسلامَ الحقيقيَّ. فهَلْ مِنْ شيءٍ اسمُه الإسلامُ الحقيقي؟ لا شكَّ في أنَّ كلَّ ممارسةٍ يقومُ بها تنظيمُ الدولةِ الإسلاميةِ في العراقِ والشامِ يوجدُ لها سنَدٌ في كتاباتِ السلَفِ، وفي ممارساتِ بعضِ السلَف. مع أنَّه سنَدٌ انتقائيٌّ واستنسابيٌّ واستدعائيٌّ خارجَ تاريخِه بكلِّ تأكيد.. وبرَأْيِي، فإنَّ مسألةَ ادِّعاءِ الإسلامِ الحقيقيِّ هيَ في الأصلِ زائفةٌ؛ لأنَّها تخلِطُ بينَ الدّينِ – بالأحرَى فَهْمِ الدّين – والتديُّنِ، قَدْ وصلَتْ معَ “داعش” إلى نهايَتِها القُصْوَى الكارثيَّةِ، وليس لدَيَّ شكٌّ في أنَّه سوف تَجرِي بعدَها مُراجعاتٌ علَنيّةٌ لأُمورٍ كثيرةٍ، كان مَسكوتًا عَنْها في تاريخِنا.
___________________________________
الجزء الثاني من محاضرة الدكتور عزمي بشارة في افتتاح مؤتمر “الطائفية وصناعة الأقليات في المشرق العربي الكبير” والذي نظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.