- وزير خارجية صنعاء يلتقي بمسؤول أممي ويطالبه بالاعتراف بحكومة صنعاء \r\n*الأوراق* تنشر عددًا من الأسباب التي    بنك الكريمي يوضح حول قرار مركزي صنعاء بايقاف التعامل معه    ذمار.. المداني والبخيتي يدشّنان حصاد القمح في مزرعة الأسرة    حزب الله يدين العدوان الأمريكي على إيران    إيران: ارتفاع عدد الشهداء الرياضيين جراء العدوان الصهيوني إلى 32    اجتماع يناقش أوضاع مشاريع المياه والصرف الصحي في البيضاء    الرئيس الزُبيدي يبحث مع سفيرة بريطانيا ومسؤولي البنك الدولي آخر المستجدات السياسية وأزمة الكهرباء    كهرباء ساحل حضرموت: 200 ميجاوات حجم العجز بتوليد التيار    الأساليب التي يتبعها الإحتلال في حرب الخدمات وهبوط سعر العملة المحلية    وكلاء الغاز في تعز ينفذون مسيرة شاحنات تنديدا باحتجاز مقطوراتهم بلحج    إعادة فتح طريق عقبة ثرة يثير خلافات بين قيادات عسكرية وامنية بأبين    ارتفاع ملحوظ في الكميات المطرية وتوقعات باستمرار الهطول على 10 محافظات    51 شهيدا في غزة بينهم 7 من منتظري المساعدات خلال 24 ساعة    الجيش الإسرائيلي يعلن استعادة ثلاثة جثامين لمختطفين إسرائيليين من غزة    بعد حكمهم لسوريا.. الإرهابيين يفجرون كنسية مار الياس بدمشق    تحت غطاء الحريات.. حلف الهضبة في مواجهة القانون وغضب الرأي العام    ريال أوفييدو يعود إلى «لاليغا» بعد 24 عاماً    "عدن التي أحببتُها" بلا نازحين.!    رئيس الهيئة العليا للإصلاح يعزي الدكتور الأفندي بوفاة شقيقه    توقيف الفنانة شجون الهاجري بتهمة حيازة مخدرات    كشف أثري جديد بمصر    إشهار الإطار المرجعي والمهام الإعلامية للمؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم    من قلب نيويورك .. حاشد ومعركة البقاء    فئة من الأشخاص عليها تجنب الفراولة    الحديدة و سحرة فرعون    الكثيري يدعو البيئة لتعزيز التنسيق مع المنظمات الدولية    ادانات دولية واسعة لجريمة العدوان الأمريكي على ايران    الدولار في عدن 3000    خبراء :المشروبات الساخنة تعمل على تبريد الجسم في الحر الشديد    أيش ذا يا عم علي.. ليش ذا؟    حادث مفجع يفسد احتفالات المولودية بلقب الدوري الجزائري    كيف تواجه الأمة واقعها اليوم (3)    أول موجة إيرانية بعد العدوان الأمريكي    أثار نزاعا قانونيّا.. ما سبب إطلاق لقب «محاربو السوكا» على ترينيداد؟    الرئيس الزُبيدي يُعزّي الشيخ عبدالرب النقيب في وفاة شقيقه    فلومينينسي ينهي رحلة أولسان المونديالية    السلبية تسيطر على ريفر بليت ومونتيري    شوجي.. امرأة سحقتها السمعة بأثر رجعي    العليمي وبن بريك والمعبقي يصادرون موارد الصناديق الإيرادية الجنوبية    علاج للسكري يحقق نتائج واعدة لمرضى الصداع النصفي    هاني الصيادي ... الغائب الحاضر بين الواقع والظنون    روايات الاعلام الايراني والغربي للقصف الأمريكي للمنشآت النووية الايرانية وما جرى قبل الهجوم    استعدادات مكثفة لعام دراسي جديد في ظل قساوة الظروف    بتواطؤ حوثي.. مسلحون يحرقون منزلاً في محافظة إب بعد نهبه    الدفاعات الإيرانية تدمر 12 طائرة مسيرة صهيونية في همدان    تدشين الدورة الآسيوية لمدربي كرة القدم المستوى "C" بالمكلا    الاتحاد الأوروبي يقدّم منحة مالية لدعم خدمات الصحة الإنجابية في اليمن    على مركب الأبقار… حين يصبح البحر أرحم من اليابسة    من يومياتي في أمريكا .. بين مر وأمر منه    قصر شبام.. أهم مباني ومقر الحكم    الترجي التونسي يهدي العرب أول انتصار في كأس العالم للأندية 2025    فساد الاشراف الهندسي وغياب الرقابة الرسمية .. حفر صنعاء تبتلع السيارات    البحسني يكشف عن مشروع صندوق حضرموت الإنمائي    مقتل عريس في صنعاء بعد أيام من اختطافه    «أبو الحب» يعيد بسمة إلى الغناء    علي ناصر محمد أمدّ الله في عمره ليفضح نفسه بلسانه    بين ملحمة "الرجل الحوت" وشذرات "من أول رائحة"    حين يُسلب المسلم العربي حقه باسم القدر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في المسألة الطائفية في المشرق العربي (2-2)
نشر في نشوان نيوز يوم 17 - 09 - 2014

يَنقسِمُ التحدِّي الكبيرُ الذي وضعَتْه ظروفُ المشرقِ العربي الكبيرِ التاريخيّةُ أمامَ الباحثينَ العربِ في موضوعِ الطائفيةِ، إلى اثنَيْنِ برَأْيِنا: أَوَّلًا، رَصْدُ تحوُّلِ الطائفةِ الاجتماعيّةِ إلى طائفةٍ سياسيّةٍ، تَتخطَّى تمييزاتِ نظامِ المِلَلِ وسياساتِه.
وثانيًا، رَصْدُ عمليةِ تحويلِ الجماعاتِ أو الدياناتِ والمذاهبِ "الأخرى" وتَفكيكِها إلى أقلّياتٍ، قياسًا بأكثريةٍ طائفية... أَوْ حتّى تصرّف الأكثريات بعقليةٍ طائفية. فهذا لمْ يَكُنْ قائمًا دائمًا.
وهذه عمليةُ تحويلٍ تاريخي طويلةٌ ومُعقَّدةٌ للجماعاتِ إلى أقلّياتٍ فيما يَشرحُه مفهومُ (minorization)، بِما هيَ عمليةٌ في فَهْمِ تحوُّلِ الجماعاتِ الأكبرِ ديموغرافيًّا مِنْ ناحيةِ الحجْمِ إلى أقلّياتٍ بالمَعنى العددِي في مَنظورِ الديموغرافيا التاريخيةِ، والتي يُبرهِنُ التاريخُ أنَّها تَتحوَّلُ، غالبًا، إلى ديموغرافيا جهويةٍ وجبليةٍ "منعزِلة". وثمّةَ صيرورةٌ أخرى في تحويلِ المواطنينَ إلى أقلّياتٍ، مِنْ دونِ تَغيُّرِ وزْنِهم الديموغرافي، وذلك بالتعامُلِ معَهم بتصنيفِهم بحسبِ انتماءَاتِهم الدينيةِ في الخطابِ السياسي السائد. هذا وحدَه كفيلٌ بتحويلِهم مِنْ مواطنينَ إلى أقلِّيات.
بإمكانِنا نظريًّا تَخيُّلُ طائفةٍ اجتماعيّةٍ، لها بنيةٌ ووظيفةٌ وحدودٌ على مستوى المجتمعِ الأهلي، وهي وظيفة مشروعة، وقد تكون ضروريةً في حالات. ولَيس بالضرورة أن تَتحوّلَّ إلى طائفةٍ على المستوى الوطني، ثمّ إلى قوّةٍ سياسيّةٍ ذاتِ مظالِمَ ومطالبَ متعلّقةٍ بها، وأخرى متعلّقةٍ بمشاركتِها في الحُكم، وتغييرِ نظامِ الحكم ليس إلى نظامٍ أعدلَ، بل إلى نظامٍ يَضمَنُ مشاركتَها مقياسًا وحيدًا للعدالةِ التي تَفهمُها.
والبنَى والوظائفُ والحدودُ الاجتماعيّةُ للطوائفِ معروفةٌ في سياقِها الاجتماعي التاريخي، سواءً على مستوى الحمايةِ والتضامنِ، أو على مستوى الطقوسِ والشعائرِ التي تُعيدُ إنتاجَها، أوْ على مستوى مَنْعِ الزّواجِ المختلطِ مع الطوائفِ الأخرى، وحتّى التخصّص بوظائفَ اقتصاديّةٍ معيَّنةٍ في بعضِ الحالاتِ، بحَسبِ علاقتِها بمسائلَ، مثلَ ملكيّةِ الأرض والحِرَفِ والتجارةِ، وغيْرِها. كَما أنَّ الطائفةَ الاجتماعيّةَ، بحُكمِ تعريفِها، برأيِنا ذاتُ طابعٍ محلِّي. تكمن المشكلة في تحوِيلِها إلى طائفةٍ تتجاوَزُ حدودَ الجماعةِ المحليةِ، فهذه غالباً ما تترافق معَ نُشوءِ أَدواتِ بناءِ الجماعةِ المتخيَّلةِ، كمَا في حالةِ القوميّة. وتُرافَقُ عادةً ببَدْءِ نُشوءِ المجتمعِ الجماهيري، بأفرادِه المُتذرِّرينَ، أَي المتحرِّرينَ مِن التبعيّةِ لِلْجماعةِ العضويّة.
في ظروفِ نُشوءِ مجتمعِ الجماهير، لا يُمكنُ إعادةُ إنتاجِ الطائفةِ بأدواتِ الانتماءِ إلى الجماعةِ المحليّةِ فقَط، وتَنْشَأُ هنا حالاتُ أَدلجةِ الطائفةِ بواسطةِ إعادةِ إنتاجِها جماعةً متجانسةً عابرةً للمكانِ والزّمانِ، وتدبيرِ ذلك بأدواتِ الاتّصالِ والتنظيمِ الحديثة، ويَرتبِطُ هذا غالبًا بدَوْرٍ سياسي ووظيفةٍ سياسية، لا سِيَّما أنَّ الجماعةَ المتخيَّلةَ قائمةٌ على أساسِ التبعيّةِ لمذهبٍ أو لدينٍ تُنافسُ طوائفَ أخرى، وجماعاتٍ متخيَّلة، مثلَ القوميّةِ والحزبِ السياسي والأيديولوجياتِ على أنواعِها. برَأْيِنا، يمكِنُ بسهولةٍ مراجعةُ ذلك تاريخيًّا في كيفَ تَحوّلَت الطوائفُ المحليّةُ في البلداتِ أو المدُنِ، إلى طوائفَ ذاتِ طابعٍ قُطْري (وأحيانًا قليلة متجاوزٍ للدول) في تيّاراتٍ مذهبيةٍ سياسيّةٍ، ترْعاها دُوَلٌ إقليميةٌ في بعضِ الأحيان؟ ومتى؟ ولماذا؟ وليس بالضرورةِ أن يكونَ هذا التتابعُ النظري تاريخيًّا؛ فمَجْرى الأمورِ التاريخي مختلفٌ عن النظري، ولا توجدُ فيه نماذِجُ نقيّةٌ عن الطائفيّةِ الاجتماعيّةِ أو السياسيّة. فهذه وظائفُ انفصلَتْ تدريجيًّا، ولم توجَدْ في الواقعِ التاريخي نماذجُ نقيّةٌ قائمةٌ بذاتِها.
يمكنُنا رَصْدُ نشوءِ المذاهبِ الإسلاميةِ تاريخيًّا بسهولة. وثمّةَ دراساتٌ متقدّمةٌ في هذا الموضوع. ولكنّ مهمّةَ رَصْدِ تَحوُّلِ أتباعِها إلى طوائفَ اجتماعيّةٍ منفصِلةٍ، ذاتِ حدودٍ ثابتةٍ نسبيًّا هي مهمّةٌ أصعَبُ في التاريخ، مثلًا في تاريخِ بغداد في القرنِ الرابعِ الهجري، بصورةٍ خاصّة، ومِنْ ثَمَّ في تبريراتِ الصراعِ العثماني - الصفَوي الطويلِ، وآثارِه، وما صاحبَه من تسنينٍ وتشييعٍ بقوّةِ السَّيف. ولكنّني أَدعو إلى تأَمُّلٍ نقدي في فكرةِ تحوُّلِ هذه الطوائفِ إلى جماعاتٍ ذاتِ وظيفةٍ سياسيّةٍ، تَطمحُ للمحاصصةِ، وتَعملُ من أجْلِها؛ لأنَّ السياسةَ في ذلك العصرِ لمْ تكُنْ وظيفةً قائمةً بذاتِها، ولا كانت الدّولةُ قائمةً كوظيفةٍ منفصلةٍ عن المجتمع. ولكن، يصحُّ هذا إذَا كان المقصودُ الصراعَ على الاعترافِ بحقِّ تفسيرِها النصّ، وحقِّها في مُمارسةِ عاداتِها... والأهمُّ مِن هذا وذاك الصراعُ على السُّلطان، أَوْ على الحُظْوَةِ لديهِ والقُربِ منه.
ومع ذلك، يُمكنُ ملاحظةُ بداياتِ هذا التحوُّلِ في نُشوءِ الدّولةِ الفاطميّةِ كمرحلةٍ أُولى، وتحوُّلِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ مِنْ جماعةٍ من العلماءِ المعارضينَ للمعتزلة أو للتصوُّف أو لغيرِها من "البِدَع" إلى "فِرقةٍ ناجِيَة"، أَوْ تعبئةِ العامّةِ كمِلّةٍ مستنفرةٍ ضدَّ الدّولةِ الفاطميّةِ تارةً أخرى.
ويُمكنُنا أنْ نُحدِّدَ بدقّةٍ متى نَشأَ المذهبُ الإثنَيْ عشري، وتحوَّلَ إلى مذهبٍ فِعلًا في التاريخِ أيضًا في المرحلةِ التاريخيّةِ نفسِها. ولكِنْ، يَصعُبُ أكثرَ تحديدُ متَى تَحوَّلَ أتباعُه إلى طائفةٍ. ويُمكنُنا القوْلُ إنّه تَبلوَرَ، أوّلًا، مذهبًا ضدَّ الإسماعيليّة، وليس ضدَّ السُنّة، ولكنَّ تحوُّلَه الرئيسَ بوصفِه طائفةً جَرى بين مدٍّ وجزْرٍ، وتحوّلاتٍ كبرى ذاتِ علاقةٍ بالتغيُّراتِ السكّانيةِ والجغرافية، ولكنَّه صعدَ على مسارِ التطيِيفِ، بمَعنى تحويلِه إلى ممارساتٍ يمكنُ لجماعةٍ كبيرةٍ من البشَرِ الالتزامُ بها في خِضمِّ الصراعِ بين الدّولةِ العثمانيّةِ والدّولةِ الصفَويّةِ على العراق. وهذا هو الأخطرُ والأكثرُ تأثيرًا، على الرغم من فُصولِ السّلامِ والمُعاهداتِ الدوليةِ بين العثمانيِّين والإيرانيِّين.
أمّا المرحلةُ الثالثة، فهي مرحلةُ التنظيماتِ، وبَدْءُ تحويلِ أهلِ الذّمّةِ إلى جُزْءٍ من كُلٍّ بالمعنَيَيْن، طوائفَ ومواطنين جزئيًّا في الوقتِ عينِه، ثمّ تدخُّلُ الاستعمارِ لحمايةِ ما أصبحَ يُعرفُ فجأةً بالأقلّياتِ (بلغةِ الأوروبيِّين) وقيامُه بمَأْسسةِ المحاصَصةِ الطائفيةِ في إدارةِ مجلسِ جبل لبنان إثْرَ مذابحِ عامِ 1860.
وفي هذه المرحلةِ، يَندرجُ تحوُّلُ الطوائفِ الاجتماعيّةِ في جبل لبنان إلى نوْعٍ من الطوائفِ السياسيةِ، معَ إعادةِ تعريفِ الغربِ أو لاستغلالِه نظامَ الامتيازاتِ، ولحمايةِ الطوائفِ في المراحلِ الأخيرةِ من تاريخِ الدولةِ العثمانيةِ، ثمّ تَسْيِيسِها تمامًا في النظامِ الطائفي السياسي الوحيدِ في المنطقةِ العربيّةِ في لبنان منذُ نشوءِ نظامِ المتصرفيّة وحتّى الآن، على الرغم مِنْ أنَّ الدستورَ اللبنانيَّ الراهنَ المنبثِقَ عن اتّفاقِ الطائف يقومُ على ضرورةِ إلْغاءِ الطائفيةِ السياسية، ولكنّه يُعيدُ إنتاجَها.
وحتّى في التاريخِ اللبنانيّ ما بعدَ الاستقلالِ بعدّةِ سنواتٍ، كان التوزيعُ الطائفيُّ عرْفًا، وكان يمكنُ لمسيحي أرثوذكسي، مثلَ حبيب أبو شهلا، في عامِ 1947 أنْ يشغَلَ منصبَ رئيس مجلسِ النوّاب، لكنّ الدولةَ اللبنانيةَ مَأْسسَت المحاصَصةَ الطائفيةَ في بناءِ أجهزتِها، كمَا مَأْسَست تشكيلَ المجالسِ الطائفيةِ ذاتِ السلُطاتِ في نطاقِ طوائفِها بأَعلى بكثيرٍ ممَّا مارسَتْه سلطاتُ الانتدابِ الفرنسي التي زَرَعت عمليةَ المَحاصصةِ الطائفية.
ويمكنُ مراجعةُ تاريخِ الطوائفِ والطائفيّةِ في العراق، والاستنتاجُ بسهولةٍ أنَّه ليس له تاريخٌ في الطائفيّةِ السياسيّةِ، على الرغمِ من أنَّه لَمْ يَخْلُ مِن الخصومةِ الطائفيةِ، وأنَّ تحويلَ الطائفيّةِ الاجتماعيّة إلى طائفيّةٍ سياسيّةٍ هو مِنْ نتائجِ التدخُّلِ الأميركي في العراق وضَرْبِ الدّولة، والتدخُّلِ الإيراني في المعارضةِ العراقيةِ قبلَ ذلك، وبعدَه في النظامِ الذي قامَ بعدَ الاحتلال. ولمْ يتحوَّل النظامُ العراقيُّ إلى نظامٍ سياسيٍّ طائفيٍّ دستوريًّا، بَلْ حصلَ ما هو أَسوَأُ؛ فالنظامُ الطائفيُّ الدستوريُّ يَمنَعُ التحوُّلَ الديمقراطي، ويصلبُ المحاصصَةَ لتصمُدَ في وَجْهِ المتغيّراتِ حتّى الديموغرافية، لكنَّه يضمَنُ، على الأقلِّ، تمثيلَ الأقلّياتِ وحقوقَها، وغالِبًا ما يحمِيها التوافقُ الطائفيُّ المنظَّمُ إلى أَنْ تَثبتَ هشاشتُه؛ ففِي العراقِ جرَى تبنِّي نظامٍ ديمقراطي مِنْ حيثُ الشّكْل، فرضه الاحتلال وفرض معه تنظيم السكّانِ سياسيًّا على أساسٍ طائفيٍّ ، وتعامُلِ الدولةِ معَهم على الأساسِ نفسِه، ما جعَلَ الديمقراطيةَ أداةً في تطيِيفِ الدولةِ وأجهزةِ القمْعِ مع تهميشِ الطوائفِ الأخرى. وهذا بالطبعِ أَسوَأُ مِن النظامِ الطائفي. إنّها سياسةٌ طائفيةٌ، تُسخِّرُ الديمقراطيةَ الشكليّةَ، ولا تقدِّمُ أيَّ حمايةٍ للأقلّياتِ على أنواعِها. وفي العراقِ، اعترف مجلس الحكم بالكردِ كقوميةٍ، مع أنَّ معظمَهُم سُنّةٌ، بينَما عُدَّ العربُ شيعةً وسنَّة.
(2)
يُثْبتُ تاريخُ المشرقِ العربي أنَّ التديّنَ السياسي، بغَضِّ النظرِ عَنْ نُشوئِه، إذَا وقعَ في مجتمعاتٍ متعدّدةِ الطوائفِ، وتُعانِي أصلًا مِنْ عدمِ استقرارٍ في هُويّتِها الوطنيةِ أو القوميةِ، فإنَّه يَؤُولُ بالضرورةِ إلى طائفيةٍ سياسيةٍ، حاملًا معه فكرَه السياسيَّ الديني، سواءٌ أكانَ سلَفيًّا أَمْ أصوليًّا أَمْ إصلاحيًّا... ويَستخدِمُ الطائفيّةَ في التحشيدِ خلْفَه.
وفي حالةِ السلفيّةِ الجهاديةِ التي امتدَّتْ، أخيراً، إلى دولِ المشرقِ، والْتقَتْ مع صعودِ قوّةِ الطائفيةِ وتراجُعِ الدولةِ الوطنيةِ وضعفِها في زمَنِ الثّورات، ولا سيَّما حيثُ ارتبطَتْ وحدةُ الدولةِ بالاستبدادِ، وقَعَ لقاءٌ شديدُ الانفجارِ بين السلفيّةِ الجهادية والطائفيّة.
قبْلَ حصولِ هذا اللِّقاءِ، حادَتِ الطائفيةُ الاجتماعيةُ والسياسيةُ المتولِّدةُ عَنْ تهميشِ الغالبيةِ في ظلِّ استبدادٍ في مجتمعٍ متعدِّدِ الطوائفِ، بالنضالِ التحرُّري عن هدفِه الأصلي، وهو التحرّرُ من الاستبدادِ وإقامةُ نظامٍ سياسي يحفظُ حقوقَ الناسِ المدنيةَ وكرامتَهم وحرياتِهم. ولكنَّ السلفيةَ الجهاديةَ في حالةِ السياسةِ الطائفيةِ، لا تُهمِّشُ عنصرَ التحرّرِ في النضالِ ضدَّ الاستبدادِ وحَسْب، ولا تَحْرفُ النضالَ الثوريَّ عَنْ هدَفِه الأصلي، من أَجلِ التحرُّرِ من الاستبدادِ إلى نزعاتٍ طائفيةٍ وحَسْب، ولا تَكتفي بالمطالبةِ الطائفيةِ بإشراكِ الطوائفِ المضطَهَدةِ بحصّةٍ أكبرَ، بَلْ تذهبُ إلى نَفْيِ الآخرِ وتكفيرِه. وليس ذلك من شروطِ اللُّعبةِ الطائفية.
إنَّها لا تَعترفُ بالطوائفِ الأخرى أصْلًا، بل تجرِي عليها أحكام أهلِ الذّمّةِ في أَسوَأِ تفسيراتِها الفقهيّةِ والسلوكيةِ وأفظَعِها، مستلهمةً مِن أسوأ المراحلِ في تطبيقِها في التاريخِ الإسلامي، والتي غالبًا ما تنسب إلى أكثر الحكَّامِ تَقْوى في خِطابِ الجماعاتِ الإسلامية، وأكثرُهمْ تقرُّبًا من العلماءِ المتشدِّدينَ والعامّةِ بحْثًا عن الشرعيّة.
(عمر بن عبد العزيز، والمتوكّل، وفتاوى ابن تيمية في مذبحة كسروان في عامِ 507ه/ 1305م، وتعصّب سياسات سلاطين المماليك ضدَّ الجماعاتِ الأخرى مسيحيةً وإسلامية).
يُضافُ إلى ذلك أَنَّ الطائفيةَ ترتبطُ، تاريخيًّا، بموجبِ تحليلِنا برَسْمِ حدودِ الطوائفِ واستقرارِها، ثمّ سَعْيِها إلى تحصينِ منزلةٍ ومكانةٍ وحصّةٍ ضمنَ الكُلِّ الجديدِ، ألَا وهو الدولةُ الوطنيّةُ، ولَوْ على حسابِ حقوقِ أفرادِها. أمَّا هذا النمطُ الهَجينُ من الطائفيةِ والسلفيّةِ الجِهاديةِ، فتقليد مشوه مسيس للفتوحاتِ وحملاتِ الدعوةِ ونشْرِ الدين. وهذا ليس مرتبِطًا بالضرورةِ بالطائفية. هذا إذا استثنينا تركيب الظاهرة سياسياً من عوامل سياسية. وعلى كل حال، اجتذبت هذه الظاهرة الفظيعة من الاهتمام الإعلامي والمخاوف الحقيقية والمضخمة ما غطّى على جرائم أفظع بكثير (كماً ونوعاً، إذا صح هذا التصنيف) ارتكبها الاستبداد.
كمَا أنَّ هؤلاء قَتلوا مِنْ السنة في سورية والعراق، أي "طائفتِهم" المفترَضةِ المتخيَّلةِ، أكثرَ ممَّا قتَلُوا مِن أبناءِ الطوائفِ الأخرى؛ فَهُمْ تكفيريّونَ وليسُوا طائفيِّينَ فحَسْب. إنَّهم يمثِّلون نُكوصًا إلى مرحلةِ ما قبلَ الطائفيةِ التي نَعرِفُها إلى مرحلةِ الحروبِ الدينية. هذا إضافةً إلى أنَّهم لا ينتَمونَ لأَيِّ حدودٍ معروفةٍ لطائفةٍ، بل يمثِّلونَ إِحياءً كارثيًّا مشوّهًا لمَفهومِ الأمّةِ والخِلافةِ، ما قبْلَ الدولة، وما قَبْلَ حتّى الطائفيةِ المعترِضةِ على الدولة. ولا يُمكنُ أَنْ تنتهيَ هذه الردَّةُ الكبرى عن التمدُّنِ العربي إلّا بِمَأْساة.
وهي تثيرُ نقاشًا مستمرًّا بخصوصِ تشويهِها الإسلامَ الحقيقيَّ. فهَلْ مِنْ شيءٍ اسمُه الإسلامُ الحقيقي؟ لا شكَّ في أنَّ كلَّ ممارسةٍ يقومُ بها تنظيمُ الدولةِ الإسلاميةِ في العراقِ والشامِ يوجدُ لها سنَدٌ في كتاباتِ السلَفِ، وفي ممارساتِ بعضِ السلَف. مع أنَّه سنَدٌ انتقائيٌّ واستنسابيٌّ واستدعائيٌّ خارجَ تاريخِه بكلِّ تأكيد.. وبرَأْيِي، فإنَّ مسألةَ ادِّعاءِ الإسلامِ الحقيقيِّ هيَ في الأصلِ زائفةٌ؛ لأنَّها تخلِطُ بينَ الدّينِ - بالأحرَى فَهْمِ الدّين - والتديُّنِ، قَدْ وصلَتْ معَ "داعش" إلى نهايَتِها القُصْوَى الكارثيَّةِ، وليس لدَيَّ شكٌّ في أنَّه سوف تَجرِي بعدَها مُراجعاتٌ علَنيّةٌ لأُمورٍ كثيرةٍ، كان مَسكوتًا عَنْها في تاريخِنا.
___________________________________
الجزء الثاني من محاضرة الدكتور عزمي بشارة في افتتاح مؤتمر "الطائفية وصناعة الأقليات في المشرق العربي الكبير" والذي نظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
وعقد في الأردن (13 -15 سبتمبر/أيلول).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.