المعنيون بدراسة تاريخ وتراث وتطور شعرنا العربي منذ نشأته في زمن الجاهلية إلى يومنا هذا (زمن الحداثة) يجدون أن هذا الشعر قد أخذ في مسيرة تطوره مراحل مختلفة عديدة تنوعت فيها أشكاله وأغراضه ولغته وموسيقاه، وكذلك تغيرت رموزه.. إلا أنه رغم كل ذلك بقي محافظاً لعناصره القديمة التي ألفناها منذ ذلك العهد البعيد، المتمثلة في (اللغة المجازية والموسيقى الخاصة) بعد أن جرى تطويرهما بما يتناسب والصور التي صار إليها الشعر عند المعاصرين والمحدثين. عبدالرحمن السقاف ولو أخذ بنا الحال لتمييز وحصر هذا التطور لاستطعنا أن نلحظه أنه قد احتوته حلقات متميزة ثلاث. وأولى هذه الحلقات ضمت أولى مراحل نشأة الشعر في كلام قدماء العرب وقد كانت فيه لغة الشعر تختلط بلغة النثر اختلاطاً واضحاً.. فكان الشعر يأخذ بالمقومات الشكلية والفنية للنثر، وكذلك كان النثر يأخذ بمقومات الشعر الأساسية، وقد لوحظ ذلك عند قدماء العرب ووصفوه وصفاً معبراً حين نرى ذلك عند أبي حيان التوحيدي في تأكيده لاختلاط لغة الشعر وأشكاله الفنية والموضوعية بلغة النثر وموضوعاته وأشكاله بقوله إن في النثر ظلاً من النظم (الشعر) ولو لا ذلك ما تميزت أشكاله ولا عذبت موارده ولا بحوره وطرائقه.. وائتلفت وصائله وعلائقه.. وإن أحسن الكلام ما رق لفظه ولطف معناه وتلألأ رونقه، وقامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم، يطمع مشهور بالسمع ويمتنع مقصورة على الطبع حتى إذا رامه مريغ حلق وإذا حلق أسف، يعني يبعد عن المحاول ويقترب من المتناول بلطف. وفي حلقته الثانية، وهي المرحلة التي أخذت هذه الظاهرة الشعرية وهي أن امتزجت مقومات النثر بمقومات الشعر لتنمو وتتطور، فتميز فيها التعبير الشعري عن التعبير النثري، إلى أن اكتملت الصيغة الشعرية واستقرت لها أصولها الشكلية والموضوعية المتمثلة في الموسيقى التي تخلقها البحور الشعرية المكونة من تفاعيل مختلفة، وكذلك الأغراض التي تنطوي عليها القصائد القديمة المتمثلة في الوقوف على الأطلال والارتحال والغزل والحرب والمديح والهجاء والرثاء، وما جاء من معانٍ أخرى ظلت سائدة في مواضيع القصائد وقتذاك. وما أن اكتملت هذه المرحلة في نظام الشعر شكلاً وموضوعاً تقدمت مسيرة الشعر نحو المرحلة الثالثة، وهي الحلقة التي اعتنت في البحث عن صيغة جديدة للتعبير الشعري يتحرر فيها هذا الشعر من آساره القديمة التي رؤي فيها بأنها تكبل الشعراء، وتحول دون انطلاقهم في أن يعبروا في شعرهم على سجاياهم. وقد اتخذ تحررهم هذا شكل محاولتين مختلفتين.. كانت الأولى من بعد ظهور الإسلام حين اقتضت طبيعة حضارة المسلمين الجديدة التي انتقل إليها العرب إلى تطور موضوعات القصيدة التي عرفوها في الجاهلية، وبما يتماشى مع واقعهم الجديد بأن اقتصر التعبير في القصيدة الجديدة على قضايا الحياة الجديدة التي اختلفت اختلافاً متبايناً عن حياة الجاهلية، أما المحاولة الثانية فقد تمثلت في البحث عن شكل فني آخر جديد لصيغة شعرية أكثر عصرية، وأكثر قدرة على مسايرة الأذواق الفنية الجديدة، يمكن تمييز بوادرها مع مطلع القرن العشرين والتحرر من قيود الصيغة الفنية التي تحققت في المرحلة الثانية وامتد بها الزمان طويلاً، على نحو ما تمثل في الشكل الموسيقي والبناء اللغوي والموضوعي وغيرهما من العناصر الأخرى في الأساليب. وهذا يعني أن من الشعراء اليوم على امتداد المائة عام الأخيرة قد اتجهوا إلى التخلص من الموسيقى والأساليب والموضوعات الشعرية القديمة التي ظلت ملازمة في إنتاج الصيغة الشعرية زمناً طويلاً سواء قبل الإسلام أو بعده.. وأن الشعراء المعاصرين (الحداثيين) اليوم قد اتجهوا إلى استعادة الصيغة الشعرية الأولى المتمثلة في اختلاط التعبير الشعري بالتعبير النثري، ويمكننا أن نجد ذلك في اتجاهين : الاتجاه الأول : عمد فيه الشعراء إلى التخلص من الأوزان الشعرية المألوفة في عروض الخليل منتجين ما يعرف بقصيدة التفعيلة وهي القصيدة التي تقوم الموسيقى فيها على أساس تكرار تفاعيل بعينها تكراراً يختلف عما هي عليه في بحور العروض المعروفة. مثال ذلك أورد للقارئ أنموذجاً من إحدى قصائد الأديب والشاعر عبدالرحمن السقاف الموسومة بعنوان (بعد بكاء الطلل) من مجموعته الشعرية المنشورة (مدينة بلا بيوت): أيصفو مسائي أيدنو إلى الكأس عمري وأغمس في النهر حضن التحايا وبعد التنائي أقبل صدر الوصول وأرمي قميص الرحيل على ضفتيك ويصفو غنائي وبعد بكاء الطلل أرى مقلتيك تشع اخضراراً فسيحاً وينأى بكائي بعيداً ويخطو إليك رشيقاً فضائي وأما الاتجاه الثاني فيتمثل في التخلص نهائياً من النظام الموسيقي للقصيدة بأوزانه وتفاعيله بإنتاج شكل جديد آخر عرف بقصيدة النثر والموسيقى فيها هنا عبارة عن ثمرة نظام لغوي بعينه يتمثل في التقابلات والثنائيات اللغوية (وما تحدثه من أصوات)، وليس أدل على ذلك بأن أعرض أنموذجاً لمثل هذه القصيدة النثرية للشاعر والأديب الكبير الأستاذ عبدالرحمن فخري أطال الله في عمره من قصيدة بعنوان (إلى مسافرة تنظرني) من مجموعته الشعرية المنشورة (من جعبة الفراشة): يا قلبي الذي، لكي يطير يستعير أجنحة الصخر أكمام الزهر يغادر المدينة ويرحم أهل القبور من موعد الكارثة! *** يا قلبي الذي، لكي يطير يأكل المسافات ويشرب الزمن حليباً أبيض بلون التعازي! *** يا قلبي.. يا ديوان الحب أرجو أن تفتح الصفحة الأولى، من النهار كي تعرف مصيري قبل اسمي وقصة القلب الطائر لا رفيق! *** في هذا الجنس "قصيدة النثر" نجد أن أديبنا وشاعرنا الكبير (الفخري) قد خرج بها عن الأوزان الشعرية المتعارف عليها، واستعاض عن النظام الموسيقي القديم بنوع جديد يتولد من الثنائيات والتقابلات اللغوية والموضوعية التي يوفرها في القصيدة، وهي موسيقى بطبيعتها خفية (داخلية) تدق على القارئ، وتحسها الآذان عند عامة القراء بشيء فيه بعض الصعوبة، ولكنها مع كل ذلك تصل رسالتها إلى الوجدان.