لم تزد الزيارة على 20 دقيقة فقط، ولكنها حققت مكاسب لم تتحقق منذ 20 عاماً من المناشدات والمتابعات والطرق على كل الأبواب..، حاول مركز العزاني للتراث والتوثيق الفني اليمني خلال تلك المدة أن يجد من يمد له يد العون للحفاظ على أرشيف نادر مكون من 100 ألف أسطوانة وشريط ريل تضم أغاني نادرة لفنانين من عدن ولحج وصنعاء وحضرموت وشبوة وتعز وأبين ومصر وسوريا ولبنان والعراق..، وخطباً دينية وسياسية ومسرحيات يعود تاريخها للأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إضافة إلى صور فوتوغرافية نادرة، وأجهزة صوتية وتقنية اندثرت من العالم ولكنها وجدت لها مكاناً ومستقراً في هذا المركز الأهلي المهمل من ذوي الشأن!. المهندس الشيخ عبدالله أحمد بقشان رئيس مجلس أمناء جامعة عدن زار أمس مقر مركز العزاني بمديرية المنصورة بمحافظة عدن الذي يقع داخل منزل أسرة الفقيد علي حيدرة عزاني (أول مهندس صوت في الجزيرة العربية وأحد الرواد الأوائل الذين أسسوا شركة للتسجيلات الصوتية في المنطقة)، ليطلع على محتويات هذا العرين الفني والثقافي بعد أن سمع عنه الكثير وأزداد شوقه لمشاهدته والتعرف على مكنوناته من كنوز ومآثر فنية وثقافية. استقبله الدكتور عبدالعزيز صالح بن حبتور رئيس جامعة عدن الرئيس الفخري لمركز العزاني الذي كان قد تحدثت للشيخ عبدالله بقشان عن هذا المركز ومحتوياته ودعاه لزيارته هو ومرافقوه من المملكة العربية السعودية الشقيقة الذين يزرون بلادنا حالياً، لملامسه عبق تاريخ الفن الجميل عن قرب، والجلوس في الأستوديو الذي شهد مسيرة انطلاق أعذب الألحان وأجمل الكلمات، للاغاني العاطفية والأناشيد الوطنية الحماسية بأصوات لازال الحنين يشدنا إليها كلما استمعنا إليها. جال الجميع في أرجاء المركز وهم مشدوهون بما رأوه، فهنا جلس الفنان أبوبكر سالم بلفقيه، ومن هنا مر الفنان عبدالرب إدريس، ومن هذا المكان خرجت سراً أعظم أغاني العطروش يحث فيها الجماهير على مقاومة الاستعمار البريطاني، وعبر هذا الميكروفون أنشد الفنانون عمر غابة وخليل محمد خليل ومحمد مرشد ناجي والمسلمي وفيصل علوي ومحمد صالح حمدون وصباح منصر وباشامخة وسالم بامدهف أغانيهم المشهورة، وعلى ذلك الكرس جلس المنشدون السمة والآنسي والسنيدار وسجلوا أهم أغانيهم وهربوا أشرطتها إلى صنعاء سراً عندما كانت الأغاني محرمة في شمال اليمن بأمر الأمام..، وهنا وهناك ذكريات كثيرة عن الفنانين والأدباء والمثقفين الذين وجدوا في أستوديو العزاني الحضن والمنطلق للتعبير عن أحاسيسهم ومشاعرهم ووطنيتهم وإخراجها للناس، وهنا وهناك اكتظت كل أرجاء منزل ومركز العزاني بأكداس من الاسطوانات الشمعية وأشرطة الريل والكاسيتات القديمة التي تختزل في داخلها أندر الأغاني وأروعها، وذكريات أصحابها، وذاكرة مدينة عدن. استرجع الشيخ عبدالله بقشان والدكتور عبدالعزيز بن حبتور ذكرياتهما وهما يرتشفان الشاي داخل المركز ويستمعان لأروع الأغاني العاطفية للفنانين القدماء الذين لا يزال فنهم الجميل ينبض في قلوب كل اليمنيين، وحزن الجميع من عدم الاهتمام بهذا المركز الذي يحتوي على هذه الكنوز الفنية والثقافية التي تعد حقاً للأجيال والشعب اليمني كله. واستمع الجميع بتمعن لحديث الإخوة نبيل وناصر وعادل العزاني لمشوار متابعاتهم الطويلة التي امتدت لنحو عشرين عاماً، بعد أن أظهروا تراثهم الفني من مخبئه الذي ظل قابعاً فيه ما يقارب عقدين ونيف خوفاً عليه من السطو والاندثار خلال سنوات ما قبل تحقيق الوحدة اليمنية، واختتموا حديثهم بتنهيدة ألم على مآل هذا التراث الذي لم يجدوا من يساهم في حفظه وتوثيقه وإتاحته للدارسين والباحثين والمهتمين والأجيال القادمة، معربين عن خيبة أملهم من السنوات التي ضاعت هباء في المتابعات والمناشدات والوعود والأماني والكلام الجزيل الذي لا يثمر شيئاً!. وبعد جولة التعرف على المركز ومحتوياته والاستماع لهمومه أعلن الشيخ بقشان تحمله تكاليف تسوير الأرضية الممنوحة لبناء مبنى مركز العزاني للتراث الفني بمبلغ يناهز ال (عشرة آلاف دولار)، كما ألتزم بتقديم المساعدة لحفظ التراث الفني اليمني من خلال أستوديو جامعة عدن المزمع إنشاؤه أواخر العام الجاري 2011م، وكذا المساعدة في توفير بعض الاحتياجات التي تعين المركز على القيام بمهامه ودورة التوثيقي الفني المهم. انفرجت أسارير أسرة العزاني لهذا الكرم من قبل الشيخ عبدالله بقشان والإحساس المرهف الذي يحمله بين جوانحه لدور الفن والثقافة في حياة المجتمعات، فلأول مرة يأتي ليزورهم في المركز ولم يمض على وجوده بينهم غير 20 دقيقة من الزمن (نظراً لانشغاله في أعمال كثيرة)، حتى حل معضلة كبيرة تواجه تطوير عمل المركز. لم تجد أسرة العزاني ما تعبر به عن الشكر لهذه الشخصية الكريمة - ليس بالمال وحدة ولكن بالإحساس الإنساني الصادق والشفاف والتضامن المعنوي الذي أبداه مع معاناة المركز الذي تعرض للإهمال من كل المعنيين- غير أن تكرمه بأول درع يمنحها مركز العزاني للتراث والتوثيق الفني لشخصية اعتبارية أو جهة ما منذ تأسيسه قبل أكثر من ثمانين سنة. الجدير بالذكر أن محتويات مركز العزاني للتراث والتوثيق الفني تعد ثروة وطنية لا تقدر بثمن وتشكل قيمة ثقافية كبيرة لمدينة عدن وللوطن اليمني. ويعد المركز رمزا كبيرا في سماء الفن في اليمن كلها وامتداداته وتأثيره تشمل كل المنطقة العربية المجاورة لليمن..، وهو مصدر اعتزاز لما يمثله من وجه حضاري حي يضم روائع التراث اليمني الأصيل. وكانت منظمة اليونسكو قد اعتبرت مركز العزاني تراثا إنسانياً، باعتباره يضم آلاف الأسطوانات الحجرية والشمعية وأشرطة «الريل» لأغان قديمة ومسرحيات وخطب دينية وسياسية لزعماء التحرر والثورة اليمنية والعربية، ناهيك عن قطع نادرة من أجهزة الصوت والتسجيل والوثائق والصور تعود لما قبل تسعة عقود من الزمن. وتعود البدايات الأولى لمركز العزاني إلى أواخر الأربعينيات من القرن الماضي بمدينة عدن - كريتر- تحت اسم «محلات العزاني السلكية واللاسلكية» حيت مثّل قيام هذا المركز أول نشاط إعلامي سمعي فني ثقافي حر، في الجزيرة العربية، تولى تسجيل وتوثيق ونشر مجمل الأنشطة الثقافية والفنية آنذاك من مصنفات غنائية وأعمال فلكلورية ومسرحية وإسهامات أدبية وشعرية للاحتفالات الشعبية والرسمية، التي كانت تقام داخل البلاد تحت رعاية مؤسس المركز، المهندس المرحوم علي حيدرة عزاني، الذي قدم خدمة جليلة في حفظ الذاكرة الاجتماعية للشعب اليمني، وخدمة وطنية في رفد إذاعة صنعاءوعدن وبعض الدول المجاورة بالأغاني والأناشيد الحماسية (الثورية) الممنوعة إبان حقبة الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن والإمامة في شماله. ويعد المركز في وقتنا الحاضر مؤسسة مدنية مرخصة تمارس نشاطا ثقافيا وتحشد كل الطاقات الفنية التراثية لإعادة توثيق تراثنا الفني عبر الأرشفة الرقمية الصوتية الحديثة والنهوض بمستوى الوعي الثقافي لدى الجمهور في أهمية الحفاظ على الذاكرة السمعية وغرس قيم الجمال والإبداع والمحبة والحرية التي كفلها الدستور وجاءت بها الشريعة الإسلامية. وتوجد في جنبات المركز أضخم مكتبة تراثية فنية تعتبر نواة لتراث كلاسيكي ثري وأصيل يحتفظ بذاكرة وتاريخ مدينة عدن وكل المناطق اليمنية وتعد مرجعا مهما لجميع المنظمات المهتمة بدراسة التراث الإنساني.