في الثاني من مارس للعام 2007م كان رحيل شاعرنا الجميل محمد حسين هيثم ، رحمه الله ، فهي ذكراه الرابعة إذاً . وشاعرنا هيثم كان قد خاض في مسيرة حياته الشعرية تجارب عدة ، في كتابة القصيدة، إذ كانت له قصائده البيتية، أو ماتواضع عليه الأدباء بالشعر العمودي، وله قصائده النثرية، مروراً بشعر التفعيلة، فلقد كان، رحمه الله، محباً للتجريب، وكان يترك للقصيدة أن تختار النسق الذي ترتضيه لنفسها، والذي يمكنه من أن يصب فيها، ومن خلالها، مايعتمل في نفسه من مشاعر واحاسيس، وما تخمر في ذهنه من أفكار . وهو لم يكتب الشعر الفصيح فحسب ، بل رأيناه، في معرض البحث عن التجريب، يخوض غمار القصيدة العامية، باللهجة البدوية ، التي هي في الأصل لهجة أبيه وجده .وتعجب له كيف أجادها وهو المولود في عدن، والذي قضى كل عمره، لا جله ، بين مدينتين هما عدن في صباه وشبابه، حتى بعد الثلاثين بقليل، ثم العاصمة صنعاء التي انتقل إليها في العام1987م ليكمل فيها بقية مشوار حياته، ليس هذا فحسب، بل إن ثقافته الواسعة ، وقراءاته الفكرية والأدبية النهمة ، وكتاباته ودراساته البحثية، كانت تمنحه لسانا عربيا يقترب كثيراً من اللغة الوسط ، ومن هنا فقد كانت تجربته بالعامية البدوية مدهشة ومثيرة للتعجب والإعجاب . وأتذكر فيما أتذكر، أنه في لقاء جمعني به في منزله، في إحدى زياراتي لصنعاء، وكنت لاأزور صنعاء ، إلا وأزوره إما في مكتبه في الزيارات القصيرة، أو في بيته في زياراتي الطويلة، أتذكر أنه قد أهداني ديوانه العامي (( حاز بحزيك )) وذكر فيما ذكر أن الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح قد أثنى على الديوان، لكنه في الوقت ذاته قد حذره من أن يزين له نجاح الديوان السير قدما في تجربة العامية ، فنكسب شاعرا عاميا بديعاً ، ونخسر شاعرا فصيحا أكثر إبداعاً. واستمع الشاعر الجميل محمد هيثم كما يبدو لي، والله أعلم، إلى نصيحة أستاذ كان يكن له كل الود والإحترام والتقدير ، ومن يدري، لعل العمر، لو امتد به، لهزه الشوق لتجربة عامية أخرى ، فقد كانت له نفس تواقة لفعل مايعن له ، ولربما تعلل للأستاذ المقالح حينها بما يرضيه من التعلات . والديوان (( حاز بحزيك )) من مطبوعات مركز عبادي للدراسات والنشر، وكانت طبعته الأولى في العام 2003م ، ويضم بين دفتيه ثلاث قصائد عامية، باسمة .. حاز بحزيك .. عيشة ، وكل القصائد تثبت كم كان بديعاً هذا المحمد في كتاباته الشعرية، في فصيح الشعر وعاميه . وأحسب أنني لو تناولت القصيدة الأخيرة .. عيشة .. بشيء من الإسهاب لاستطعت أن أنقل إلى القارىء ملمحا من ملامح عدة تخللت الديوان . وعيشة ... تحوير للإسم العربي عائشة ، أو قل هو صيغة اختصار له ، أو لعله صورة من صور تدليل الاسم ، وهو منتشر كثيرا لاسيما في اليمن، وفي نساء البدو . وأزعم أن عيشة وهو اسم امرأة على الحقيقة كما هو معروف ،قد انحرف به دلالياً، صاحبنا، ليعبر عن غير معناه الحقيقي، فقبع الإسم في دائرة المجاز . نعم المجاز هنا واضح، وقد يتراءى للبعض فكرة مجردة تومئ إلى مجازات متعددة في فضاءات التحليق ، غير أني أراها غير ذلك، بل وأدعي أنها تشير إلى ماكان محمد هيثم ينافح ويدافع عنه، وأعني به الوحدة اليمنية . وماشي حد درى من وين أجت عيشة وعيشة كنها نقشة ومرقومة على الوديان وعيشة بنت ستعشر وعيشة بنت كل زمان هاهو ذا الشاعر يقرر أن عيشة جاءت من هناك، من حيث لايدري أحد، فليس من حق أحد، كائنا من كان أن يدعي أبوتها أو الوصاية عليها، وهي فتية، لايحدها عمر، ولايحصرها زمن . وجت عيشة وجو في إثرها البدوان وحنوا عند باب الجد وجدي دائماً عاتب وذا راغب وذا خاطب وذا مجنون وذا كاذب وذا للود والعشقة أبد طالب وهكذا توافد من يطلبون ودها، ومن يسعون إلى احتكارها، أو إلى فرض سلطتهم عليها ، وحصرها وحصارها ضمن ممتلكاتهم ومقتنياتهم.نعم جاؤوا من كل حدب وصوب فيهم الصادق وفيهم الكاذب، فيهم المحب وفيهم الدعي، كثر كانوا .. أو كما جاء في قصيدته وجوا خطابها عشرة وجوا خمسين وجوا تسعين وجوا مئتين وجو خطابها وتلايموا لما امتلا امحارب لكنها ، الوحدة اليمنية المباركة، الوحدة العصية، تتأبى على الجميع، على اختلافهم، وتعدد أطيافهم، ترفض أن تكون ذات صبغة واحدة ، ولون واحد ، فهي للجميع، ولكل الجهات، كالشمس توزع ضياءها وأنوارها حباً وكرامة . وعيشة ماتبا شي حد وكلن قد بقى محتاس وعيشة شورها في الراس وماشي حد درى بالشور وقالت: بايجيني الدور هكذا هي إذا ، لقد قررت أن لاتنحاز إلى أحد، وأن لاتكون وصايتها إلا لها هي، فلا يحلمن هذا أو ذاك، من الشخصيات أو الأحزاب أو التجمعات بالوصاية عليها . هنا واحتاشت النسوان هنا وازاعل البدوان هنا واتقارحت لعصي هنا واشاحنت كل الأوالي..... ثم... وقال الجد: حيا بأعقل العقال وجوه القبيلة والناس وقولوا للبداوى قد كفى ياناس ومدوا سلقة الأحكام ورغم كل ما حدث، ومادار من صراع باسمها، رغم مارأته عيشه بعيني رأسها وقلبها، ومعرفتها اليقينية بمن هو في صفها، ومن هو في غير صفها، إلا أنها ظلت كما كانت، وكما ستظل على الدوام عصية على الوصاية والاحتكار... وهاكم انظروا كيف أبدع شاعرنا محمد هيثم في تصوير موقفها ذاك بشكل أخاذ ورائع . وجت عيشة وماشي حد قدر في يوم يدور رأسها صوبه وعيشة جوهرة في القلب معصوبة إنها الوحدة / الحلم / الوعد الذي عشقناه جميعا، وعشقها شاعرنا وكل من حوله حفيداً وأباً وجدا ونا عاشق وبوي مثلي أنا عاشق وأعمامي وأخوالي كمانا كلهم عشاق وجدي مثلنا مشتاق وفي كل القلوب عيشة وتتربع كما النقشة وظلت الوحدة خياراً مصيرياً واحداً لاثاني له، حتى حين حاولت فئات ضعيفة وأحزاب باهتة، وتجمعات حاقدة أن تمارس ضغوطها للتخلص منها والافتئات عليها، ظلت خيار الشعب الأوحد . وجت نسواننا جمعا ونسوان العشائر كلهن قد جين وقد قالين: إما نحن أو عيشة وصاح جدي وصحنا كلنا: عيشة الله ماأبدعك وماأروعك ... كتبت فأبدعت ، وصورت بالكلمات أجمل صورة، ورسمت لوحة ستظل منقوشة ومرقومة في الوديان، تماما كما هي منقوشة ومرقومة حبيبتنا عيشة /الوحدة/ الحلم / الوعد.