منذ أن عرف الإنسان الأول رسم بعض الخطوط تدليلاً وتعبيراً عما يود قوله أصبحت الكتابة الفعل الأصدق على التعبير والإدراك .. وراح علماء اللغة في كل مكان يتدارسون فك رموز الكتابة .. وتوصلوا إلى نتائج كثيرة .. ترابطت اغلبها باللغة حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ .. بل راح الفلاسفة إلى ابعد من ذلك بتعمقهم المثير باللغة منذ سارتر حتى هايدغر الذي أخذ أهم مكانة فلسفية في القرن العشرين .. ومن هؤلاء الفلاسفة هانس جورج غادامير حيث اعتبر أن الوجود الجدير بالفهم هو اللغة بمعنى أن اللغة هي الكائن الحي والمفتاح الواضح لفهم الكون... وحسب تعبير هايدغر - اللغة مسكن الإنسان- أو أنها الكائن الوحيد الذي يستطيع الإنسان الإفصاح به عن نفسه .. هذه اللغة التي منها تتفرع العلوم والأدبيات ..هي جديرة بالفهم وفك لغزها وشفرتها كي يفهموا منها اللغة الأدبية التي تعد أعلى وارقى مستويات القول والكلام في أي لغة . من هنا اهتم الفلاسفة باختبار وتحليل النصوص الأدبية لمعرفة المستوى الحقيقي الذي تجيء وتولد منه اللغة الأدبية.. ولأن الشعر هو الأب لكل الأجناس الأدبية الأخرى فمن الشعر ولد النثر ومن النثر ولد السرد .. وبهذا راحوا يفكون لغز اللغة كي يعرفوا أيضاً من أين تجيء اللغة الشعرية .. وكيف يستطيع الشاعر استخدام اللغة نفسها لكن بتعابير ابلغ مما يستخدمه العامة .. بل كيف يفهم الإنسان الشعر وهو - الشعر- ابن هذه اللغة المحكية؟ . فاعتبر هايدغر اللغة بأنها مسكن الكينونة المتمثلة في الشعر الذي يسكنها ويسكن إليها، فالشاعر يكون بمثابة - الساكن - الذي يحتاج في استضافته للآخر -السكينة- التي لن يجدها إلا في شعره.. واستطيع القول إن هايدغر جن بالشعر حتى قال - جوهر الفن : الشعر .. وجوهر الشعر: إقامة الحقيقة . ولأن الشعر لا يحد بمكان أو زمان أو لغة بل أن ما ذكرته أعلاه هو ليس استعراضاً للفلسفة الغربية بقدر ماهو استدلال على أن الشعر هو كائن حي يخترق اللغات بإحساسه كي تتأثر به ومنها ليصبح مسكن الإنسان الشعر ويولد منه الشاعر .. ولأن اللغة العربية من اللغات الثرية بما تملك من غزارة معانٍ ومفردات وهي لغة التكثيف والإسهاب بل العربية تمنحك مساحة كبيرة باللعب في فضاء مليء بمفردات تساعدك على قول ما تريد بطرق مختلفة وباستخدامات عدة عكس اللغة الانكليزية لذا نشأت مشكلة التعامل مع اللغة فبدأت تظهر نصوص فيها من الإسهاب والحشو الشيء الكثير ..العربية لغة الثراء ولغة الشعر .. ولغة الذوق .. لكن - من المؤسف- ما أراه اليوم من ظهور أسماء لا تعد ولا تحصى مذيلة نصوصها التي لا ترقى لأن تكون نثراً أو شعراً ولا تتعدى كونها إنشاء أو جملاً لا تمت بصلة لبعضها.. باسم شاعر أو شاعرة .. هذه النصوص لخير دليل على تدني مفهوم اللغة .. ولهو خير دليل على تدني الذوق العام بتقبل هذه النصوص على أنها نثر أو شعر . ولو أردت الخوض في مفهومية الشعر وتأويله سأحتاج إلى دراسة خاصة وشاملة وهي ليست محل بحثي هنا ولمن أراد أن يقرأ عن ماهية الشعر وكينونته ففضلاً عن الكتب هناك -جوجل- ليجد كل ما يسأل عنه ... وكي لا أعود لكلام النقاد ولكلام الفلاسفة حول ماهية الشعر -التي ما زلنا نجهلها- سأختصر على مسألة الذوق ومسألة الدهشة .. لا احد ينكر أن بدخول الشعر العربي الحديث مرحلة النثر وخلافاً لما كان يتوقعه السياب بنقلته الشعرية من القصيدة الكلاسيكية إلى القصيدة الحرة..خلافاً لما كان يصبو إليه من الارتقاء بالشعر إلى مستوى أعلى مما كان عليه .. دخلت موجة استسهال لهذا النوع من الكتابة .. وبدأت تطالعنا نصوص تخدش الأذن والذوق والشعر والنثر الحقيقي بانتمائها إليه.. نصوص لا تتعدى كونها مجموعة أحاسيس مرتبة بطريقة لا تملك من الدهشة ولا البلاغة ولا حتى المباغتة للقارئ ليذيل صاحبها أو صاحبتها تحت اسمه - ودون خجل- كلمة شاعر أو شاعرة...! والأدهى من ذلك كله حين تطالعك الردود على ما كتب .. والصفات التي تهل على الشاعرة أو الشاعر بأنه عبقري زمانه ولم يلد الزمان أفصح ولا ابلغ منه..! وهذا دليل آخر على تدني الذوق الشعري عند القارئ بل المصيبة تتعاظم حين تقرأ اسماً لشاعر أو لناقد من ضمن المعجبين بهذا النص..! وهنا يقفز إلى ذهني السؤال .. كيف يمكن لنا أن نجد نصاَ حقيقياً وسط هذا الكم من الغث...؟ بل كيف نقرأ هذا الغث..؟ كيف لنا أن نحمي ذائقتنا مما يكتب..؟ لماذا النقد الجاد أصبح معدوماً ومقتصراً على القراءات السريعة المصاحبة للاخوانيات المليئة بالمجاملات والتلميع.... كيف لك أن تكتب وسط هذه الغابة المليئة بالضباب ..! بل كيف تكون صادقاً في نقدك وتحليلك للنص وبيان أن قصيدة النثر هي الامتحان الأصعب للشاعر وليس الأسهل وأنت تعرف أنه لا حياة لمن تنادي بل قد تواجه اتهامات عدة؟. قصيدة النثر هي القصيدة الأصعب في الكتابة .. لأنها قصيدة تعتمد البناء الداخلي والإيقاع الداخلي هي ليست تراكم صور أو تجميع كلمات ومفردات .. النثر لا يعني أن تكتب كل ما تحسه بل يعني كيف تقولب ما تحسه في بناء شعري جاد .. كيف لك أن تمسك المفتتح ولا تضيع في الوسط وكيف تفتح فم القارئ بالدهشة في المختتم ..! النثر ليس استسهالاً للغة بل هو أصعب ما في اللغة لأنه قمة التكثيف والإيضاح .. حين نقرأ ما كتب النفري في المواقف والمخاطبات نرى النثر بأعلى مستوياته اللغوية .. هذا الكتاب الذي يعد الكتاب الأول في التكثيف اللغوي - أدبياً- تعرف انك أمام عبقرية عنيت باللغة حتى راحت تدعكها جيداً وتقدم منها أرغفة سهلة الهضم ودسمة المعنى . قصيدة النثر لا تعني أبداً إدخال اليومي بشكل تافه وغير مفيد بل كتابة اليومي في الشعر كان موجوداً منذ عهد الصعاليك .. عروة ابن الورد كتب حتى خلافاته مع زوجته .. بل كان يذكر حالاتها في الزعل أو الرضى .. لكنه استخدم اللغة ولم يخدش الذوق ورغم ذلك لم يكن الشعراء في الجاهلية يعترفون بشعر الصعاليك كونه تمرداً على أصول الشعر التي وضعوها . إذن الحداثة الشعرية لا تعني أبداً التصفيق لاسماء لا أساس لها من العلم الأدبي والذوق الأدبي .. بل ما ينشر اليوم يخدش الأذن والذوق والأدب .. هي ليست دعوة لشيء لكن على الشاعر أن يكون مثقفاً حقاً مطلعاً على اقل تقدير على الشعر العربي قديمه وحديثه .. أن يكون الشاعر متمكناً من القديم كي يبدع بالحديث وان يكون متمكناً من الحديث كي يسبقه لما بعده بقدم واثقة .. ليس الشعر صنعةَ كي يصبح كما اليوم صنعة من لا صنعة له.