بلل العصفور منقاره بماء النهر، فرد جناحيه ، صفق بهما الهواء، حلق متأبطاً فرحة، متقلباً في الفراغ. عنكبوت عجوز ما زالت تنسج خيوطاً على جذع شجرة ، وهناك تقبع فراشة ، تتقافز بين أزهار البنفسج بشغب ، هذا العالم جزء من ذاكرته السوداء ، يرقب كل ذلك بصمت رهيب وقد غسلت الحسرة وجهه ، آه لو انه طير أو حتى حشرة، أليس هذا أفضل مما هو عليه الآن؟! يضحك حانقاً :- بشر، هه !! ما الذي جنيته من كوني بشراً ؟ لا إنسانيتي شفعت لي عندهم ولا إنسانيتهم حببتهم لي. يقذف أفكاره فكرة فكرة لتذوب في النهر ربما يجب عليه أن يزعج الطبيعة ويربك هذا الطائر المختال بجناحيه ، لكم احسده ، الكل هنا مبتهج لا تثقل كاهله قيود بشرية، فلا تعكر صفوه قوانين ولا دساتير وضعية ، متحرر من كل شيء. تقترب الفراشة من الخيوط الضعيفة تهرول بغباء نحو حتفها، تبتسم العنكبوت. والطائر ما زال يتقلب مغرداً مرحاً في الجو، تختطفه حجر طفل أرعن ، ليسقط مغشياً عليه بين العشب ، وهو لا يزال يرمي أفكاره في النهر بغضب ، كانت في الجانب الآخر تستلقي مقبرة صغيرة وها هي اليوم تتمدد تطول وتعرض تفتح فمها بتبجح لتلتهم القرية ، تقترب ، تغرس مخالبها في وجه النهر ، تجرح مياهه الرقراقة. بقايا طفل نهشته أنياب كلب مسعور هذا الصباح ، يلج المقبرة بسلام ليرقد تحت عمود من الجبس والاسمنت الأبيض، يهرول الرجال واضعين الجسد الهامد في حفيرة القبر، يسوون عليه التراب، تاركين المقبرة تجمع ما تبقى من ضحكات. يتنهد برضا:- شكراً لإنسانيتي فما زال متسع من الوقت لاكتشف المزيد .. لأسبح لله وأحمده كثيراً و أني بشر .